هل من متعة في الدنيا تستحق العناء؟..قد يسأل الكثيرون منا هذا السؤال ولكن المؤكد أنه لن يتفق الجميع علي إجابة واحدة..وقد شغل هذا السؤال بالتحديد تفكير الكاتبة إخلاص عطاالله التي وجدت أن أفضل متعة هيحفر الذاتأو بمعني آخر اكتشاف النفس وسبر أغوارها والخروج منها للتطلع إلي الآخر في منظومة الوجود…وهذه الرحلة الشاقة لن تتبلور معالمها إلا عن طريق الكتابة,وكما تشير الكاتبة في مقدمة كتابهاحفر الذاتالكتابة عندي بمثابة الحصن الذي أهرع إليه كلما صارعتني الحياة…وكثيرا ما تصارع…وثمة رباط مقدس بيني وبينها لعلكم أيضا تعلمون أن متعة الكتابة جزء لا يتجزأ من شقائها وهذان يلازم كل منهما الآخر إلي أن يصلا بنا-نحن معشر الأدباء-إلي ما يمكن أن نسميهحفر الذاتفي محاولة مستميتة لاكتشاف النفس اكتشافا حقيقيا فلحظة إلامساك بالقلم والورق لحظة عزيزة نادرة فاصلة تأخذ شيئا فشيئا من عالم المنظور بكل نقائصه ونقائضه إلي عالم آخر جدير بالكتابة أن تسبر أغواره.
ولعل كتابحفر الذاتهو جزء من هذا العالم الذي يستحق الكتابة والتوثيق.الكتاب حصيلة الكثير من الدراسات والإبداعات المختلفة في الأدب والتاريخ والسينما والمسرح بما تحمل من آراء ومضامين فكرية عديدة لمفكرين شكلوا جزءا من التاريخ الإنساني تأثروا به وأثروا فيه عبر خبراتهم وتجاربهم العلمية والعملية…
الذات وعالم المعرفة
تقول الكاتبة في مقدمةحفر الذات:
اعرف نفسك بنفسكهكذا كان سقراط يردد دائما علي تلاميذه في حجرات الدرس وعلي سامعيه في الأسواق وفي الشوارع….بل طالما وجه هذه الحكمة مرارا إلي نفسه عله يصل إلي الحقيقة هو والآخرون…وعلي الرغم من أن معرفة الحقيقة علي إطلاقها أمر عسير بل عديم المنال علي البشر,إلا أن الغوص في النفس وكشف مستوراتها ومكنوناتها فيما يسميالمونولوج الداخليقد يقف بنا في لحظة بعينها علي شئ من الحقيقة.
علي أن سقراط بترديده هذه الحكمة اعرف نفسك بنفسكلم يبتدع شيئا جديدا..ليس فقط لأنه قرأها من قبل علي جدران معبد ديفلي بأثينا-بل أيضا لأنها وثيقة الصلة بالإنسان الأول.آدم-الذي كانت شهوة نفسه في البدايةالمعرفةوالتي تجسدت في لهفته علي شجرة معرفة الخير والشر,تلك الشجرة المحرمة ضاربا بالوصية الإلهية المقدسة عرض الحائط اعتقادا منه أن هذه الشجرة تمثل الطريق الأمثل للمعرفة..وبذلك سبقت شهوة الإنسان للمعرفة شهوة الجسد وغيرها من غرائز الطبيعة الإنسانية..ودفع آدم والبشرية كلها من بعده ثمن هذه الشهوة بالخروج من جنة عدن إلي حياة الأرض بكل ما فيها من شقاء.
وتضيف:والمعرفة علي ما يصاحبها من عناء البحث وعلي ما تولده في أحيان كثيرة من شقاء-هي أيضا تمثل قيدا- كما يذكر الفيلسوف الأمريكيهربرت ماركيوزأحد فلاسفة القرن العشرين في كتابه(الإنسان ذو البعد الواحد)-إلا أنه قيد حديدي يروق للمرء في كل زمان ومكان(كل وفق طبيعته)أن ينسجه بيديه…وفي هذا وذاك تعد المعرفة بمثابة البرهان علي وجودنا الحقيقي في العالم غير قانعين بالبعد المادي من مأكل وملبس…
وهنا تطرح الكاتبة هذا السؤال:ولكن ما المعرفة؟ونجدها تقول:ليس هناك اتفاق علي تعريفها لكنها-في رأيي -والكلام للكاتبة:تشمل الحقائق والقصص والعلوم والتاريخ والثقافة والتقنيات والعلوم الإنسانية والدين والفن والأدب والأيديولوجيا,وهي بذلك تشمل كل نشاط يقوم به العقل الإنساني.
من هنا فحاجتنا للمعرفة حاجة ملحة في كل عصر,وهنا يحضرني ما قاله الدكتور طه حسين عن عاهة فقد البصر وما تركته من أثر نفسي بالغ الأسي:جعلتني أستكشف خصلة أخري أري أنها صحبتني منذ الصبا هي الظمأ الشديد إلي المعرفة الظمأ الذي لا يطفئه اكتساب العلم وإنما يزيده قوة وشدة والتهابا فأنا لا أحصل نصيبا من المعرفة إلا أغراني بأن أحصل شيئا آخر أبعد منه مدي وأشد عمقا….
والسؤال:الآن كيف تصل إلي المعرفة؟
إن هذا يقودنا إلي ما يسمي بـ(عملية الاتصال الإنساني)والاتصال Communicationكلمة مشتقة من كلمةCommunis اللاتينية ومعناها الشئ المشترك والاتصال علم التفاعل بين الأفراديتضمن كل الوسائل الخاصة بنشر المعرفة والأفكار والاتجاهات.
تجيب الكاتبة:وإذا كان الأمر هكذا..فما أدوات ذلك العالم الرحبعالم المعرفة؟ تجيب الكاتبة: تتعدد أدوات المعرفة في عصرنا الحالي ما بين الثقافة المكتوبة والثقافة الإليكترونية المسموعة والمرئية (السينما,التليفزيون,الإذاعة,الفيديو, الكمبيوتر… ما قد تحمله لنا التكنولوجيا غدا…) وإذا كان العصر يحدد أولويات هذه الأدوات وفق متطلبات المجتمع واحتياجاته…فإن الثقافة المكتوبة(الكتاب المطبوع) ليست فقط من أهم وأقدم أدوات المعرفة فحسب-(فقد عرفت البشرية منذ أقدم العصور الكتابة علي الحجر ثم البردي ثم الورق)…بل تظل الأداة المعرفية الأكثر إنسانية والأقدر تواصلا حيث يبقي الكتاب-في شكل رواية أو شعر أو أي طرح آخر في مجالات الفنون والعلوم-أنيسا للبشر في حياتهم اليومية-أينما ووقتما يسافرون ويجيئون-معززا لقيمته الثقافية سيما بين أبناء الطبقة محدودة الدخل حيث ترتفع تكلفة الوسائطة الإلكترونية وإذا كان لانتشار التليفزيون والكمبيوتر وغيرهما من الوسائط الإلكترونية, أثر علي معدلالانقرائية-كما يردد البعض -فإن هذا لا يعني أبدا أفول عصر الكتاب وتراجع وضعيته في الحياة الثقافية,فكما سبق ووجدنا أن السينما لم تلغ الكتاب,ولم يلغ التليفزيون الفن الإذاعي أو الفن السينمائي,بل نجد تعاونا بين هذه وتلك من أدوات المعرفة عندما تتحول الأعمال المكتوبة إلي أي من الفن الإذاعي أو الفن التليفزيوني أو الفن السينمائي.
مقتطفات إبداعية
ينقسم الكتاب إلي أربعة أبواب,الأول:مخصص للأدب والنقد,ولعل أكثر الدراسات التي استمتعت بها هي الدراسات العربية الخاصة بالأدب التجريبي-وهو مختلف نوعا ما عن النص الأدبي المألوف ويمكن وصفه بأنه عملية إبداعية تعتمد علي محاولات الأديب المستمرة لإزاحة منظومة التقاليد الأدبية والتطلع إلي غزو المجهول وعدم التوقف عند حد معين من التجديد,أيضا نقرأ عن مشكلاتنا الثقافية وكيفية مواجهتها,والتعرف علي شئ من الأدب النوبي والقصيدة في العصر الأيوبي,والمراكز البحثية,وغيرها.
الباب الثاني يغوص في التاريخ وأهم الدراسات التي جاءت به هي تاريخ المسيحية الشرقية وهو يعرض للكنائس الشرقية غير اليونانية وهي:القبطية والأثيوبية واليعقوبية والنسطورية والأرمينية والهندية والمارونية ثم الكنائس الموجودة في بلاد النوبة والشمال الأفريقي.
ويمكن تقسيم الأدبيات التي كتبت عن الكنائس الشرقية حتي وقتنا الحاضر إلي شريحتين :الأولي وتشمل الكتاب الرومان الكاثوليك,والثانية تتألف من مجموعة من الكتاب البروتستانت وهنا تقدم الكاتبة عرضا شاملا للأدب القبطي واللهجات الخمس للغة القبطية (وهي البحرية والصعيدية والأخمينية والفيومية والبشمورية)بالإضافة إلي الأدب السرياني وكيفية اضمحلاله,ثم الأدب الأرميني وهو في المقام الأول أدب ديني ولكن الكتاب الأرمن يغفلون أعمال اليونانيين الكلاسيكيين وفلسفاتهم واهتموا بوجه خاصة بكتابات أفلاطون وأرسطو وفيلون السكندري.
وفي التاريخ أيضا نقرأ عن أزمة الضمير الأوربي لبول هازار وحركة السايتاجراها.
الباب الثالث يتناول الفنون:العناصر النمطية وغير النمطية أو اللاعنف في السينما المصرية والخدع والمؤثرات الخاصة في الفيلم المصري.وهناك فصل مخصص لمسرح جروتوفسكي الفقير…جروتوفسكي الذي ولد عام1933 في بولندة مخرج مسرحي ومبدع أساليب تجريبية جديدة في فنون التمثيل والإخراج والسينوغرافياالمسرحية.
ومن الدراسات المهمة التي تناولها أيضا باب الفنون علاقة الإبداع المسرحي بسلطة الرقابة التي كانت ولاتزال تمارس حق الوصاية علي ما يكتبه المؤلف وما يقرؤه القاري فالمؤسسة الرقابية-بمفهومها الدقيق-تكرس لعزلة الثقافة من خلال فرض صيغ ومقاييس للدين واللغة والأخلاق وترصد الدراسة المستوي الأعمق للقوانين الرقابية والذي يشكل إطارا مرجعيا للمجتمعات المتخلفة,حيث تتصاعد الديكتاتورية وتغيب الديمرقراطية,وهناك دراسة بعنوان الموسيقي القبطية بين الأصالة والمعاصرة.
أما الباب الرابع والأخير فيمثل ببليوجرافيا أي عرض لكافة المراجع والكتب ومؤلفيها ودار نشرها حتي يتمكن القارئ من الرجوع إليها كيفما شاء إذا أراء أن يتوسع في معرفة دراسة بعينها.
الحلم
وفي النهاية تمسك الكاتبة بخيوط الحلم,وتدعونا أن نكتشف ذواتنا ونحلم بعالم آخر جديد,فتقول إن لحظة الإبداع لحظة نادرة فاصلة تأخذنا شيئا فشيئا من العالم المنظور بكل نقائصه ونقائضه إلي عالم آخر جدير بالأدب أن يسبر أغواره,وإذا كانت الكتابة بالنسبة لي تمثل حفرا للذات أبحث به عن المعرفة والإدراك والارتقاء…فإنني أتمثل هذا الحفر في شكل قد يكون واقعيا أو فانتازيا-أري من خلاله عالمي الداخلي والعالم الخارجي..أتصور في عالمي الداخلي شيئا من الحلم بالحب…بالسكينة..بالتحرر من القهر…يتحد بالعالم الخارجي ليكتمل الحلم الكبير بحياة أفضل لسائر البشر…
إذا كنت لم تحدد حلمك بعد فأدعوك أن تحلم معي..أدعوك إلي حفر الذات ووضع أساسات لأرض جديدة,لمدينة تظللها سماء جديدة…
الناشر:الهيئة المصرية العامة للكتاب-2007