هيا أسرع وها هي أجراس الكنيسة تدق,لا تشاغب في الكنيسة حتي لايعاقبك الرب.
دست أمي بعض العملات المعدنية في يدي ونسيتني تماما,بينما توجهت إلي المطبخ وفي يدها المكواة التي كادت أن تبرد لتعيد تسخينها…كنت أعلم جيدا أنه ليس مسموحا لي أن آكل أو أشرب بعد سر الاعتراف,ولذلك قبل مغادرة المنزل قضمت بعض الخبز الأبيض وشربت كوبين من المياه..كان الجو ربيعا,تكسو الشوارع طبقة من الطين والوحل بعد أن أخذت الثلوج في الذوبان وكانت أسقف البيوت وممرات المنازل نظيفة وجافة وأوراق الزرع النضرة تظهر من تحت أسوار المنازل وسط الحشائش المتعفنة المتبقية من العام الماضي..وقد تسللت أشعة الشمس الذهبية لتغطي كل شيء حتي المياه الراكدة التي تملأ البرك الصغيرة,وعليها تظهر بقايا الحصي وقشر البندق يطفو علي سطح المياه منتظرة أن تجرفها بعض الريح لتلقي بها في النهر ثم إلي مياه البحر وقد ينتهي بها المطاف إلي المحيط,حاولت أن أرسم صورة لهذه الرحلة الطويلة ولكن لم يستطع خيالي الوصول بتلك الرواسب إلي البحر.
مر سائق العربة مندفعا ممسكا بلجام الحصان لايشعر بالأولاد الأشقياء الذين يتعلقون علي العربة من الخلف..وددت ولو أرافقهم,ولكن لوهلة تذكرت أنني في طريقي إلي الاعتراف,وبالتالي ظهر لي هؤلاء الأولاد كأنهم زمرة من الأشرار.
قلت لنفسي سوف يسألهم الله يوم الحساب الأخير,لماذا كانوا يلعبون هذه السخافات علي السائق العجوز؟وسوف يحاولون الدفاع عن أنفسهم باصطناع الأعذار,ثم تأتي الأرواح الشريرة لتسحبهم حيث نيران الجحيم,ولكن إن أطاعوا آباءهم وعطفوا علي الفقراء بالخبز والنقود سوف ينظر الله لهم بعين الرحمة ويسمح لهم بدخول الفردوس.
كان مدخل الكنيسة مشمسا وجافا..خاليا تماما من أي إنسان…فتحت باب الكنيسة مترددا ودخلت كان الضوء خافتا والجو مشبعا بمسحة من الحزن والكآبة أكثر من أي وقت مضي,وقد تملكني إحساس شديد بذنوبي وتفاهتي.
كان أول شيء تستقر عليه عيناي تمثال الصلبوت الكبير الحجم وعلي جانبه تقف أم الله والجانب الآخر القديس يوحنا…كانت الكنيسة ملتحفة بالستائر الداكنة والشموع مغلفة بأشرطة سوداء ,حتي أضواء المصابيح المسلطة علي الأيقونات ذبلت أضواؤها..وقد خيل لي أن الشمس نفسها تحاول أن تتفادي اختراق زجاج الكنيسة عن عمد.
كانت السيدة العذراء والتلميذ الحبيب متسمرين أمام العذابات الشديدة والألم غير الموصوف الذي يتجسد في الإله المصلوب ولم ينتبها إلي وجودي ..كنت أشعر وكأني غريب وفقير وتافه لأني لست قادرا علي مساعدتهم سواء بكلمة أو بعمل أي شيء..تملكني إحساس بأنني كريه ولست نافعا لشيء بل شخص شقي وبائس,تذكرت معارفي وكلهم تراءوا لي بشرهم وغلاظتهم وعدم استطاعتهم تخفيف ولو ذرة واحدة من الآلام المتجسدة أمامي.
تبدو الأضواء الخافتة أكثر قتامة وتقف أم الله ويوحنا الحبيب في عزلة وسكون رهيب.
يقف بروكوفي إيجناتيتش الجندي العجوز-الذي أصبح الآن مساعد وكيل الكنيسة خلف المائدة المرصوص عليها كتب الكنيسة والشموع ..حاجباه مرتفعان قليلا,يداعب لحيته ..يقول بصوت خافت للسيدة العجوزإن صلاة القداس ستبدأ مباشرة بعد صلوات المساء وصوف تقام صلوات باكر في تمام الساعة الثامنة ,هل تسمعيني؟تمام الثامنة.
بين عمودي الكنيسة القائمين ناحية اليمين يصطف المتقدمون لسر الاعتراف منتظرين دورهم,هناك يقفميتكاأيضا-ولد صغير غير مهندم حليق الشعر,له أذنان بارزتان وعينان صغيرتان ينطلق منهما الشرر,كان ابن ناستاسيا الغسالة وميتكا ولد بلطجي يخطف الفاكهة المعروضة في محال البيع,كان ينظر ناحيتي سعيدا لأن دوره يتقدمني في الاعتراف,امتلأ قلبي بالغضب وحاولت ألا أنظر ناحيته وكنت أشعر في قرارة نفسي بالغيظ لأن ذنوبه سوف تغتفر.
تقف أمامه سيدة جميلة ملابسها أنيقة وغالية الثمن وفي قبعتها ريشة بيضاء كان يبدو عليها التوتر وكان خدها أحمر.
وقفت منتظرا دوري خمس دقائق ثم عشر دقائق,وظهر شاب وسيم يرتدي بوتا مطاطيا ولحظتها بدأت أحلم باليوم الذي أستطيع أن أشتري فيه مثل هذا الحذاء الجميل,ثم جاء دور السيدة الجميلة.
أخذت أراقبها حتي وصلت قرب المذبح..وسجدت ثم قامت وأحنت رأسها قبالة القسيس…استدار الأخير ولم يظهر منه شيء سوي أكتافه العريضة وشعره الرمادي المموج والسلسلة التي يضعها حول رقبته ويتدلي منها الصليب كان يوميء برأسه دون أن ينظر إلي السيدة ثم يتكلم سريعا واهتزازات صوته ترتفع حينا ثم تنخفض حينا آخر ,والسيدة تستمع بخشوع وكأنها مدركة خطأها وأجابت عليه بتواضع,بينما كانت تنظر إلي الأرض.
تري فيما أخطأت؟جال هذا الخاطر في ذهني بينما كنت أراقب وجهها الرقيق سامحها يارب واجعلها سعيدةهكذا تمتمت لنفسي.
ثم رن صوت القسيسأنا الخادم غير المستحق بموجب السلطان المعطي لي أعطيك حلا من خطاياك.
سجدت السيدة مرة ثانية وقبلت الصليب وكان خداها الاثنان ملتهبين من الاحمرار..أضاء وجهها بالهدوء والفرح.
قلت لنفسي: إنها بلاشك سعيدة الآن ونظرت إلي القسيس الذي نالت علي يديه سر الاعتراف وأحسست أن فرحته لابد أن تكون أعمق بكثير لأن له الحق في نوالها غفران خطاياها.
جاء دور ميتكا,وبدأ قلبي يغلي بالكراهية إزاء هذا اللص الصغير,أردت أن يأتي دوري قبله ولاحظ ميتكا حركتي فضربني علي رأسي بشمعة ,وفعلت معه نفس الشيء وللحظة بدأت أصواتنا ولهاثنا ترن في أرجاء الكنيسة إلي أن تم إبعادنا عن بعض..وتقدم ميتكا ناحية المذبح وانحني حتي لمس الأرض,ولكن لم أستطع رؤية ما حدث فيما بعد كل ما كنت أفكر فيه أن دوري بعد ميتكا مباشرة وأحسست أن الأشياء التي تحيط بي تعوم أمام عيني والأرض تموج تحت قدمي.
رن صوت القسيس مرة أخري:أنا الخادم غير المستحق… وجدت نفسي أتحرك ناحية المنجلية..شعرت وكأني أسبح في الهواء حتي وصلت إلي المذبح وكان ارتفاعه أعلي من رأسي قليلا..رأيت وجه القسيس المتعب الهاديء وشعرت بحضوره القوي وأنا في حضرته..تسللت رائحة ردائه إلي أنفي وسمعت صوته الصارم وشعرت بالاضطراب لأني أردت أن أركز في كل مايقوله لي,لكني أجبت علي أسئلته بصدق وصوت غريب عني,يكاد ألا يكون صوتي.أفكر في شخص السيدة العذراء والقديس يوحنا الحبيب والمسيح المصلوب وأفكر في أمي وأريد أن أبكي وألتمس الغفران.
سألني القسيس: ما اسمك؟.
أحسست الآن بالراحة والفرح في قلبي..لقد غفرت الآن خطاياي أصبحت نقيا ولدي حق الدخول إلي الفردوس..توجهت إلي الشماس حتي أسجل اسمي..لم تعد أضواء الكنيسة الخافتة كئيبة كما كانت تبدو لي,وأصبحت الآن أنظر إلي ميتكا بدون أي غضب .
سألني الشماس:ما اسمك؟
فيديا.
فيديا,ماذا؟
لا أعرف
ما اسم أبيك؟
إيفان.
واسمه الآخر؟
لم أجب.
كم عمرك؟
تسع سنوات.
عندما وصلت البيت,ذهبت مباشرة إلي السرير حتي أتجنب رؤية أسرتي وقت العشاء وعندما أغلقت عيني كنت أفكر أنه لشيء عظيم أن أستشهد علي يد هيرودس أو أي شخص آخر.أو أن أعيش في الصحراء وأطعم الدببة مثل الراهب سيرافيم أو أن أعيش في زنزانة لا آكل شيئا سوي كسرات الخبز أو أن أعطي كل ما أملك للفقراء…أسمع الآن صوت تحضير العشاء…سوف يأكلون المخلل وفطائر الكرنب وطواجن سمك الفرن -كم كنت أشعر بالجوع,ولكني أشعر الآن أنني أستطيع أن أحتمل أي عذاب,أن أعيش في الصحراء دون أمي,أن أطعم الدببة بيدي ولكن ليس قبل أن آكل ولو قطعة صغيرة من فطيرة الكرنب.
حاولت أن أصلي بينما أرفع الغطاء علي رأسينق قلبي يارب..أيتها الملائكة الحارسة أنقذيني من الخطية.
استيقظت صباح اليوم التالي-الخميس,وكان قلبي ممتلئا بالسكينة والنشوة مثل يوم الربيع البهيج..مشيت بفرح إلي الكنيسة وأنا أرتدي القميص الرائع المصنوع من قماش الثوب الحرير الذي كانت تملكه جدتي.كان كل شيء بالكنيسة ينطق بالفرح والسرور والربيع ظهرت أم الإله ويوحنا الحبيب أقل حزنا من البارحة ,وكانت وجوه المؤمنين تشع بالأمل والشوق فالماضي قد غفر وأصبح منسيا ميتا أيضا ظهر في أحسن ثيابه ممشط الشعر…نظرت بابتسامة إلي أذنيه البارزتين,أريته أنني لا أحمل تجاهه أية ضغينة,فقلت له:
أنت تبدو حسنا اليوم..فإن لم يقف شعرك هكذا ولم تلبس هذه الثياب الرثة سوف يظن الجميع أن أمك ليست غسالة,ولكنها سيدة نبيلة تعالي والعب معي يوم عيد الفصح.
نظر إلي ميتكا بريبة لايصدقني وحاول أن يهددني بقبضة يده.
ظهرت السيدة الجميلة التي رأيتها بالأمس وهي ترتدي فستانا أزرق مرصعا ببروش علي شكل حدوة حصان.نظرت إليها بإعجاب وأعتقد أني عندما أكبر سوف أتزوج مثل هذه المرأة..ولكن بعد أن تذكرت أن التفكير في أمور الزواج شيء معيب,حاولت أن أطرد الفكرة وأذهب ناحية المرنمين بينما كان الشماس يقرأصلوات السواعي.
*من كتاب أعمال أنطون تشيكوف