إنني استطيع أن أعطيك قلبي.. فأصبح عاشقا.. أعطيك طعامي.. فأصبح جائعا.. أعطيك ثروتي.. فأصبح فقيرا.. أعطيك عمري.. فأصبح ذكري. ولكنني لا أستطيع أن أعطيك حريتي. إن حريتي هي دمائي. هي عقلي هي خبز حياتي.. إنني لو أعطيتك إياها فإنني أصبح قطيعا. شيئا له ماض. ولكن ليس أمامه مستقبل. هذه السطور التي خطها بقلمه الرشيق عندليب الصحافة المصرية المبدع الكبير الذي رحل عن عالمنا مؤخرا محمود عوض كمدخل لكتابه المتميز أفكار ضد الرصاص الذي رصد فيه بمهارة صائد بديع للفكر الحر والمذابح التي تعرض لها, حيث اعتبر محمود أن مصادرة أي كتاب تعد جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد. قتل مع التعمد. قتل مع التنفيذ.. ويدور الكتاب -الصادر عن سلسلة أقرأ بدار المعارف- حول أربع جرائم.
فقد كانت جريمة قاسم أمين هي أنه طلب الحرية للمرأة في مواجهة الرجل.. وجريمة الكواكبي إنه طلب الحرية للشعب في مواجهة السلطان.. وجريمة علي عبدالرازق هي إنه طلب الحرية للدين في مواجهة الملك.. وجريمة طه حسين هي إنه طلب الحرية للأدب, في مواجهة السياسة. إن جوهر القضية هو نفسه في كل مرة. ومعني العقوبة هو نفسه في كل حالة. لقد تم التشهير بقاسم أمين وقتل الكواكبي وعزل علي عبدالرازق وفصل طه حسين كإجراء نهائي. وقبل ذلك أعلن المجتمع حكمه علي الأربعة إنهم خونة.. زنادقة.. ملحدون.. فاجرون.. ولم يكن كل هذا مفاجئا. فالسلطة في المجتمع العربي كانت لها دائما مقاييسها الخاصة التي تخفيها دائما وتعلنها أحيانا. إنها تعتبر أن الخوف صبر.. والجمود عقل.. والتطور جنون.. والتجديد إلحاد.. والحرية كفر.. والتفكير جريمة.. الضعف نعمة.. والجبن قيمة.. والشجاعة رذيلة.. والصمت حكمة.. والجهل فضيلة.. والتمرد زندقة.. والاختلاف خيانة.. والظلام نور.. والظلم عدل.. والطغيان قوة.. والإرهاب قانون.. والحاكم إله.. والمرأة حيوان.. والشعب عبيد.. والتاريخ أسطورة.. والماضي مقدس.. والحاضر مقبول.. والمستقبل ملعون.. هكذا كان أسلوب محمود عوض كلمات قليلة. واضحة. مباشرة. وقوية, تصل للهدف بدون عائق.. تماما كالموسيقي الهادئة التي تنساب برقة وتترك أثرا عميقا.. وبنفس الأسلوب.. استعرض ملابسات صدور هذه الكتب وأزماتها في المجتمع.
رأس ضد الحائط
قبل أن يعرض محمود عوض لكتاب قاسم أمين تحرير المرأة يقدم صورة وصفية من خلال عدد كبير من المصادر عن علاقة الرجل والمرأة في تلك السنوات, ويصل إلي أن المرأة مجرد شئ تابع لا قرار ولا صوت لها. لقد وضع المجتمع أكواما من الملابس علي جسم المرأة, حيث وضع حجابا علي وجهها ورقيبا في ذيلها. وحائطا أمامها.. متصورا أنه بذلك قد نشر الفضيلة وقضي علي الرذيلة. ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك. فقد كان المجتمع يتصور أنه بمنطق الإكراه سيرغم المرأة علي الفضيلة. ولكنه لم يكن يعلم أنه لا يوجد إنسان فاضل أو غير فاضل قبل أن يملك حق الاختيار.. قبل أن يكون حرا. هذه هي الحرية التي طالب بها قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة عام 1889, لقد حاول أن يستخدم رأسه لإزالة الحائط الكبير بين الرجل والمرأة والمجتمع ولكن رأسه سوف يتهشم أكثر من مرة. قبل أن ينجح حتي في فتح ثقب واحد في هذا الحائط! وأصبح مركز قاسم أمين كمركز أي صاحب ثورة في التاريخ والتاريخ يعامل الثوار بطريقة مختلفة. إن صاحب الثورة إذا نجح فهو بطل. إذا فشل فهو مجرم. لقد كان قاسم أمين في كتابه الأول مصلحا أما في كتابه الثاني (المرأة الجديدة) فكان متمردا وثائرا.. وبعد أنا مات بسنوات طويلة بدأ المجتمع يعيد النظر فيه لقد تراجع المجتمع عن آرائه السابقة في قاسم أمين ولكن حدث هذا بعد موته!.
قلم ضد السيف
في عام 1900 جمع عبدالرحمن الكواكبي مقالاته في كتاب بدون أن يوقع باسمه. والكتاب كان له عنوان غريب هو طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. وهي كلمات حق وصيحة في واد. إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غدا بالأوتاد محررها هو الرحالة ك. ويستعرض محمود عوض حياة الكواكبي وهروبه من مطاردة السلطان العثماني المستبد عبدالحميد ولجوئه إلي مصر حيث أصدر كتابه هذا الذي فضح فيه الاستبداد وأسبابه ووصف نظم الحكم المستبدة.. وكانت النتيجة أن تم دس السم له في القهوة فكما فضح الكواكبي استبداد السلطان جزءا جزءا. لهذا أراد السلطان أن يجعل جسم الكواكبي يموت قطعة قطعة!!.
شيخ ضد الخلافة
وحول كتاب الإسلام وأصول الحكم الذي أصدره الشيخ علي عبدالرازق يدور الفصل الثالث من أفكار ضد الرصاص هذا الكتاب الذي أكد علي أن الخلافة والدولة الدينية لا أساس لها في الإسلام. وجاء في توقيت خطير فقد كانت الثورة في تركيا قد خلعت خليفة المسلمين السلطان عبدالحميد. وطمع الملك فؤاد أن يصبح هو الخليفة. ويصدر الشيخ كتابه فيقوم عدد كبير من الشيوخ ضده, حيث تدفق إلي أسواق القاهرة كتب كثيرة تهاجمه, إن كتاب علي عبدالرازق يدافع عن الدين ضد السياسة ولكن الكتب التي هاجمته تستغل الدين لمصلحة السياسة!. وبالترتيب مع الملك تمت محاكمة الشيخ وطرده من زمرة علماء الأزهر.
ضد الحكومة
ويختتم محمود عوض رحلته لصيد الأفكار التي تحدث الرصاص بالقصة المشهورة عن كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين الذي أصدره عام 1926 وقال فيه: إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شئ, وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين, ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل علي شئ ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. هذا كل ما قاله طه حسين في كتابه, ولكن نتائج هذه النظرية الأدبية -ومنهج التفكير بها- أزعج الأزهر والملك والبرلمان أنه طالب بمراجعة الماضي وفحصه. ولكن الأزهر اعتبر الكتاب طعنا في الدين والملك اعتبر أن الحرية في الأدب اليوم تعني حرية سياسة غدا. وسعد زغلول حائر كسياسي يريد تصفيق الجماهير, وكمثقف مقتنع بما جاء بالكتاب. ويصل محمود عوض إلي نتيجة من قراءة تلك الأحداث التي تسبب فيها منهج الشك الذي اتبعه طه حسين في كتاباته تقول هذه النتيجة: إن الشك عملية مؤلمة وشاقة. لهذا يرفضها الشخص ويرفضها المجتمع.. حينما تنعدم ثقته بنفسه وبتاريخه وبقوته.
القضية الغائبة
إذن الكتاب يدور حول قضايا الرأي ولكن هناك قضية لم يتضمنها الكتاب وهي قضية المؤلف نفسه -محمود عوض- الذي منع من الكتابة في أخبار اليوم بتعنت موسي صبري وإبراهيم سعدة.. رحل محمود عوض ولم تكتب قضيته كما يليق به ولعلل سبب ذلك هو أن القضية منذ عشرات السنين مازالت أمام المحاكم. رحم الله عندليب الصحافة ورحم كل الموهوبين في الأرض.
الناشر: دار المعارف – 2009