لم أر عنوانا لديوان شعر أكثر صدقا من عنوان ديوان محمد عبد القادر الشاعر البورسعيدي الذي ولد فكان رفيقه البحر,وكانت الزرقة قدره ومعاشه, من هنا كان اختياره عنوان طرح البحر هو العنوان الذي أطر رؤيته الشعرية وحدد أفقه الإبداعي الذي أكد الأصالة والانتماء إلي البيئة التي أنجبته وأنجبها هو عير حبه لها كما صورها في شعره العامي الممتاز وهو علي تفرده ونبوغه يعيش في الظل في الوقت الذي يجب أن يكون فيه علما في طليعة شعراء العامية المصريين, لأنه لايقل مستوي عنهم..
إن شعر العامية منغرس في تراب بيئتنا, من هنا كان امتدادا للموال من ناحية التعبير الصادق الذي حمل عبر أجيال هموم الإنسان المصري ومن هنا أيضا كانت الواقعية الأليفة التي يفرضها الصدق لدي الشاعر الصادق ,فلا تهرجة ولا استعراض عضلات,ولا محاولة لاعتساف بعض التكنيكات الشعرية الفجة مثل تهاويل وتخاريف السريالية مثلا…لاشيء من هذا علي الإطلاق تراه في كل ديوان ذلك أن الشاعر يعبر تلقائيا عن وجدانه بصدق وبساطة فكان وصوله إلي أفئدة قرائه ومستمعيه وليس هذا غريبا بالنسبة إلي شعر العامية فشعراء العامية ابتداء من بيرم وأبي بثينه وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين وسمير عبد الباقي لم يكونوا إلا الترجمة التلقائية عن الوجدان الشعري الشعبي المصري.
انفرد محمد عبد القادر بانتمائه القوي لبيئته الساحلية بحيث حقق وجودا شعريا خاصا وذلك باقتصار أشعاره علي هذه البيئة,ولست أعرف شاعرا ساحليا آخر يكاد شعره كله يستغرق هموم وطنه المحلي إلا محمد عبد القادر ولعل إسكندرانيتي هي التي جعلتني أكثر قربا منه فقد ولدت برأس التين في الإسكندرية في منزل يطل علي خليج رأس التين مباشرة فعرفت المصارعة مع رفقاء الصبا فوق الرمال ,والسباحة,والتجديف وصيد الأسماك, من هنا كان اعتزازي بأبياته المعبرة الصادقة التي تصور ألعاب الطفولة والصبا علي شاطيء البحر.
إن محمد عبد القادر مسكون ببورسعيد وبحر بورسعيد وهو صياد سمك منذ نشأته الأولي مع أبيه وجده فإذا شح البحر ركبه بحارا يعمل علي سطح سفينة أغيب بحار ومتسوحكما يقول:وكان الرزق لو صهين-وألاقي العمر مبكرين-من الغربة خطاوي بعيد-أحاول أسبق المواعيد-أغيب بحار ومتسوح
وهنا يغالبه الحنين إلي بورسعيد وطنه الصغير الذي يقول لهمنين النسمة ما تروح-أرتل غنوتي فيكي-أشوف علي البعد في عنيكي-شراعك الأبيض الصافي-دراعك شبه فؤادي-بيندهلي أعود للشوق…
وهو لشدة اهتمامه بمدينته يتناول أهم أحداثها وهو حفر قناة السويس ففي قصيدة من أجمل شعر العامية يتخيل كيف جمعت الحكومة من حفروها وكيف تم الحفركان يومها جسدي طارح شبابه-بعت الخديوي للعمدة جابه-من قلب داره-تم اختياره من غير مناقشة ولا أي دوشة-كل الشباب ده حلم يا عمدة-بالجلابيه والفاس بتاعه-وإن قال يارب نقطم دراعه-البنت تبكي والأم تلطم-هاتوا السواري-عبوا اللواري-جسدي البدائي عايز يعافر-عامل فدائي والظلم كافر-كرباج صاحبنا-مزع هدومه-لجم لسانه-كوم هدومه-أبو دم حافي غرقان في دمه-والغربة قاسية لمفارق أمه قسمت المدينة إلي حيين حي للأجانب من إيطاليين وجريك وفرنسيين إلخ وحي عربي سكنه المصريون,وشاعرنا بحسه الشعبي يدرك الفروق بين سكان الحيين إذ كانت هناك ميزات كثيرة اختص بها الأجانب سكان القسم الأفرنجي وكان أغلبيتهم يعملون في هيئة قناة السويس:
وأهل البحر والهيئة -تلاقي لبسهم هيئة- وكنا نقول دي ناس رايقة..وهو كثيرا ما يذكر أباه معترفا بفضله وهو رجل متدين لم ير الكعبة ولكنه يتجه إليها في كل صلاة:
أبونا وأصله أيوبنا-ماشا فشي الكعبة صلي لها-وهام في الرؤية وهلالها-عرينه الشط سلمنا-وزي البط عومنا-في أول سرحه فهمنا -وعاش مجهول- ومات مجهول..
هذا ديوان بورسعيدي يستبطن البحر والصيادين وحرفة صيد السمك وتاريخ المدينة وهو حين يذكرها تحس بفخره أنه سواحلي بورسعيدي وهو ديوان مفرد في ذاته,ينبيء عن شاعرية موهوبة ونفس حساسة ولذلك فهو ديوان يعتز به الأدب الشعبي ويسجل اسم شاعره ضمن شعراء العامية الأفذاذ.