لاتسألني كم استغرق الوصول إلي هنا من وقت أو كيف استدليت رغم الظلام علي العنوان؟لأنني وجدت نفسي فجأة بعد أن جاهدت متعثرا وسط الطرقات القذرة وبين الحواري المتربة والأزقة المعتمة محاطا هكذا -بكل هذه الكمية الرهيبة من الأواني الفخارية ذات الألوان والأشكال والأحجام المتباينة.
رائحة الطين المبلل حديثا بالماء تمتزج مع العطن والعرق ورائحة نفاذة لدخان أسود عجيب تحمل عبق اشتعال فروع حطب القطن وبوص الذرة الجاف,تكاد تملأ الهواء الذي يتصاعد فيه ذلك الدخان مثل مارد كئيب متسلقا الجدران ليصبغها بسواد لونه ثم يتلوي منفلتا بسرعة من فتحات دائرية كبيرة-صنعوها له خصيصا-في السقف الخشبي ويهرب خائفا إلي الخارج.
كانت عيناي الدامعتان المغبشتان منه تبحثان من خلال الفتحات العلوية وسط ذاك الظلام الخارجي عن أي أثر لنجم أو حتي بقايا قمر في السماء…لم أجد…ولم أهتم…فلم يكن هذا هو ما جئت لكي أفتش عنه هنا.
طرقات ثابتة مكتومة الصوت تناوش برتابه أذني آتية من الركن هناك.
ضربات قدم حافية متربة.بها أثر ظاهر لجرح غائر قديم تثابر في الارتطام-بانتظام وبزاوية ميل- بالقاعدة الأسطوانية المعرجة حتي يواصل الدولابأو القرص الخشبي العلوي والطين الذي عليه الدوران الهاديء الثابت السرعة.أصابع فنان حقيقي لاتكاد تظهر من كتلة الطين الواحدة الدائرة أمامه..تعمل بحنكة وهدف وطوال الوقت فتارة تداعب بحنو زائد بعض المناطق الضعيفة لتشكلها بهدوء أو تضغط بقسوة محسوبة علي جزء غليظ لتحدد انبعاجا مقصودا ..تتحرك ببطء ثقيل لتصنع حلية معينة متقنة أو تنزلق بخفة سريعة لتحصل علي استدارة مطلوبة ولكنها دائما وأبدا ما تتحرك إلا عن خبرة أزلية وحب أبدي ودائما كذلك ما تنفض بين الحين والحين بقايا الطين الزائدة أو غير المفيدة لها الآن في حوض كبير.لا لكي ما تلقيها كنفاية بل لكي ما تعيد تشكيلها مرة أخري.تلك اليد المجروحة هي-بالتأكيد-المصدر الأوحد لكل هذا الثراء العدوي والتنوع الفني المذهل في كل ما حولي من أوعية فخارية .
أدار عينيه نحوي بهدوء عندما اقتربت متقدما منه وأصبح هو في مجال رؤيتي.حياني بابتسامة رقيقة دون أن تتوقف يداه أو رجلاه عن العمل كنت أقف مبهورا فعجيبة فعلا هي أعمال يديه الفخارية التي أمامي كلها بحكمة قد صنعت لهدف سام يدرك هو تماما,رفع رأسه هازا إياها وأشار بها مرتين إلي الداخل وكأنه يقول لي تفضل ادخل لكي تشاهد باقي الأنواع التي بالحجرة الأخري أيضا.
طلباتهم عديدة ومتنوعة جدا.فأمي تريد إناء كرويا انسيابيا خفيف الوزن ذا نقشا مثقوب وله فتحات علوية وسفلية حتي تضع فيه مصباحا كهربيا صغيرا وتعلقه في شرفتنا فجارتها قد علقت واحدا وأخبرتها بأن هذه الطريقة في الإضاءة أصبحت الموضةفي هذه الأيام.
أما أبي فهو يريد أصيصا ضخم الحجم ذا حواف سميكة متعرجة ونقش أفريقي عنيف واسع بما يكفي لكي ما يستوعب النبات الاستوائي المتشعب الفروع كثير الأوراق الأثير لديه والذي قرر بفخر شديد أن يجعله يتوسط حديقة منزلنا.
أختي هي الأخري تريد إناءين طويلين مزخرفين لتضعهما علي جانبي باب الفيلا الأنيقة التي تقطنها مع زوجها في ذلك الحي الراقي حتي الخادمة التي تعمل عندنا عندما علمت-من أمي-برحلتي هذه أخبرت بواب العمارة المجاورة وجاءتني باسمة راكضة قبل أن أتحرك بالسيارة تستجدي بعض القلللها بينما استعطفتني فيزير كبيرللبواب العجوز الطيب ينوي أن يضعه أسفل إحدي الشجرات الظليلة علي رصيف الشارع لكي ما يشرب منه المارة في الصيف فينعمون هم بالماء البارد وينعم هو بالدعاء.
ابتسمت في داخلي ساخرا من الموقففكل منهم يبكي علي ليلاه بينما أنا نفسي المكلف بإحضار كل هذا ليست لدي أية رغبات هنا.بل ليست لدي أي اهتمامات خاصة أو عامة مثلهم فلماذا الاهتمام والتعب أصلا بينما حياتي كلها ميسرة سهلة فمنذ لحظة ميلادي وحتي لحظة وقوفي هنا وكل ما كنت أريده من العالم كنت أحصل عليه تماما كل ما اشتهيه يحضر تلقائيا كل ما أبتغني فعله أقوم به فورا لا قيود ولا ضغوط ولا التزامات حتي أصبحت حياتي الآن-ويا للعجب-مملة.وبرغم نجاحي في عملي ومركزي العالي-الذي يحسدني أقراني عليه-إلا أنني دائما ما أشعر بأنه ينقصني شيئا ما أحتاج إلي شيء ما.ولا أعرف ما هو أو أين أجده؟وأحس كذلك بأن حياتي هذه بلا جدوي من وجهة نظري وبلا أي أهداف.
بداخل الحجرة الأخري ازداد العجب والتشتت فهي ممتلئة بالأواني الغريبة علي لدرجة أن بعضها لا أذكر بأنني شاهدته في أي مكان من قبل,ووجود رفوف عديدة تصطف فوقها وتحتها الكثير الكثير جدا من الأواني يجعل العملية أصعب مما ظننت بكثير فكل طلبيوجد منه أشكال عدة بدرجات لونية مختلفة وبخامات متنوعة.. شيء محير فعلا لذا قررت عدم التدقيق في كل التفاصيل والاكتفاء بالخطوط العريضة وانتقاء أول قطعة مناسبة تقع عليها يدي مباشرة فالموضوع برمته لم يكن يوافقني أصلا ولايروق لي أبدا أن أعود أمام أصدقائي حاملا هذا الخليط الغريب من الأواني الفخارية السخيفة فأنا لست خدوما بالمرة وأهتم بمظهري ووضعي أمام الناس تماما وهذا المشواركان ثقيلا علي قلبي جدا ولكنني أجبرت نفسي ولأول مرة في عمري-علي القيام به من أجل خاصر والدي .
لاحت مني عبر الباب التفاتة نحوه-وهو يعمل-مرة أخري تذكرت بابتسامة ممتنة بأنه بجلسته الدءوب هذه فوق دولابه المستدير الدائم الدوران لم يتغير منذ ملايين السنين,فأجدادنا الفراعنة قد صوروه علي جدران معابدهم هكذا بل عبدوه حقا ودون أن يشعروا فلقد كان عندهم إله يسميخنوميرسمونه-علي ما أذكر بجسم رجل ورأس كبش وهو الذي يصور البشر خالقا ومشكلا إياهم من الطين علي دولابه الدائر.
جمت بعض القطع بتأفف ولكن شيئا ما جذب عيني وجعلني أدقق في ذلك الإناء الكبير الملقي بإهمال شديد علي الأرض بجانب باب الحجرة من الخارج الساقط بجوار الأرفف وليس مصفوفا فوقها أو بداخلها مثل بقية الأواني.
للوهلة الأولي لم أعرف ما هو أو فيما يمكن استخدامه فهو ضخم ولكن له فوهة صغيرة جدا-ترتبط برقبة قصيرة مخنوقة إلي جسم مستدير متكور بتقعر حاد وله حجم كبير كبير جدا وبلا آذان تماما بهت لأني فعلا لم أكن أعرف ساعتها ما الفائدة من صنعه هكذا؟
ولكنني أحسست فيه بشيء ما غامض شيء ما يذكرني بطفل صغير مهمل اان والكل منصرف بمشغوليته عنه تماما.
تشاغلت بالبحث عن باقي طلباتهم العديدة المتبعة ودرت حول الأرفف عدة مرات أتممت فيها جمع كل ما أوصوني بإحضاره,ولكن ولا شعوريا عادت باستسلام نظرتي إليه نظرة حب وتعاطف ,وكأنها نظرة ودودة لفتي مدلل يتعثر ولايعرف كيف يختار طريقه وسط خير وشر الحياة أو نظرة مشفقة لشاب منحرف ولايقدر بمفرده أن يغير من وضع حياته المستهترة تلك تعجب من مشاعر نفسي هذه تجاه هذا الإناء بالذات.
فاقتربت منه أكثر كان له لون أسود من الخارج-فقط وتغطيه طبقات عديدة سميكة من التراب المتساقط فوق سطحه الخارجي فقط تدل علي طول سنين البعد والإهمال ,حاولت أن أمد يدي إليه لأزيل عنه الأتربة لكي ما أعيد اكتشافه,ولكن ذاتي الجبانة الخائفة علي نفسها منعتني من أتيان هذه الحركة متعللة بأنه قد تتسخ أصابعي أو ملابسي الثمينة فجمدت يدي وشلت ذراعي ولم أقو علي ذاتي لكي أفردها نحوه نهائيا.
يبدو أنه لمح من مكانه أمام الطين هناك بداية اهتمامي بالإناء فصرخ وهو لايزال يعمل مجاوبا عن سؤالي الذي سمعه هو من داخلي دون أن أنطقه أنا بفمي, إنه إناء جيد لحفظ النبيذ لم يعد يستخدمه الناس الآن إلا قلة بسيطة فلقد تعقدت الحياة كثيرا ولم يعد لديهم وقت لأنفسهم ولذلك فنادرا ما يتوقف أحد منهم ليعيد تقييم أولويات حياته ويستفيد من خبرات الماضي.
لا تشكك حالته المغرية الحالية. فأنا أعرف مدي جودته فلقد صنعته يداي في الأصل من خامة ممتازة,ولذلك فهو غالي عندي جدا رغم كل هذا التلوث الخارجي الفظيع الذي تراه أنت الآن وهو مهما كذلك لمن يعرف حقيقته وفائدته وقيمته الأصلية.
تحررت يدي بعد كلامه الصريح المشجع هذا,وتمكنت من أن أمدها نحو الإناء بعد أن انتشلتها غصبا ونزعتها قسرا من الانغماس بذاتي المتوقعة ومظاهرها الفارغة ولمسته لأول مرة بصدق وحق أحسست بأنني أعرفه تماما بل ومن زمان طويل.
دارت يداي تتحسس جوانبه برقة فلاحظت سرعة نبضات قلبي العنيفة اضطررت أن أركع علي الأرض بجانبه غير عابي بالوحل أو الرماد-كي ما أستطيع أن أراه بدقة وعندما نفضت بعض الأتربة الكثيفة وظهرت أجزاء من جدرانه السوداء,ولكن الجميلة لحظتها فقط تعرف العلاقة التي بيننا تماما وتجلت أمام عيني حقيقة الأمر كله كما لم يحدث أبدا من قبل.
فكلانا إناء فخاري مهمل مترب ملقي علي الأرض بجانب الرفوف بلا فائدة فلا الأيادي التقطته واستعملته فاستفاد منه الناس ولا استطاع هو أن يعود من تلقاء ذاته إلي مكانه فوق علي الرف فوق مرة أخري. كادت نظرة إحباط ويأس أن تحطم الإناء وتحطمني ولكن في ملء الزمان وبرغم الظلمة ودخان الحريق ورائحة الطين امتدت يداه عبر المدي البعيد تخترق كل الأرفف كل الحواجز لتلمسني لم يعبأ لا بالجلد ولا بثقب المسامير ولايموت الصليب وقام حتي يقيمني معه ومد نحوي يداه تلك المثقوبتان الداميتان العاملتان أبدا التي وكأنها تركت كل كتل الطين الذي أمامها واهتمت بي وحدي وأنشغلت بي وبخلاصي جدي وكأنه لايوجد لديها أي إناء آخر غيري.
ثم بدأت بحنو زائد تزيل عني أتربتي وتمسحني لتنظيفي وتتلامس برفق معي لتحضني بل وتحملني بحب فائق قائلا لي,إنك إناء خاص بي إناء عزيز ثمين عندي غير مهمل ولا محتقر.ودار بي حاملا إياي في حضنه إلي الخارج فرحا كمن وجد ضالته وهو يتابع قائلا: لقد صنعتك يداي لهدف غال وهو أن تحمل نبيذي وتحفظه بداخلك طوال حياتك.
وفي الحديقة التي في الخارج أراحني تحت ظلال كرمة,ومن ثم أخرج أربطة جلدية عتيقة محلاه بصلبان عديدة وأحاطني بها من كل جانب وأوثقها بإحكام من حولي فأمكنه حملي وتحريكي بواسطتها بسهولة شديدة وقال مكملا نوعية الأواني التي أنت منها خصصتها فقط من وسط كل إنتاجي لهذا العمل بالذات,وملأني بنبيذه حتي أفضت فختم فوهتي بشمع أحمر قاني يتحلي بنقش صليب انتصاره الذهبي علي الموت ثم قام بوضع شعاره هذا فوق كل مكان من جسمي.ومن ثم رفعني بيده,وقد أصبحت ثقيلا الآن وسار بي بعيدا حتي توقف أمام باب عتيق فتحه ونزل معي سلالم حجرية تقود إلي داخل قبو كبير مظلم منحوت في بطن الأرض الصخرية-كائن كأساس عميق يحمل جدران بيته الخاص.
وبحكمة كبيرة أسندني هناك في مكان معين خصصه لي من البداية فجاورت آنية عديدة جدا تشبهني تماما في كل شيء ماعدا كونها معتقة وقيمتها أعلي من قيمتي بكثير جدا.وبابتسامته الرائعة أوضح لي منذ هذه اللحظة عليك بحفظ نبيذي وحمايته بحياتك طوال العمر.وكلما تعتق فيك هنا في ظلام القبو كلما أسعدتني وجبرت كسر قلبي المطعون وسط كل بقاع الأرض هذا هو عملك الحقيقي الذي اخترتك له منذ الأزل وقيمتك عندي تأتي باستخدامك بهذه الطريقة.
لاتهتم بما يتصوره الناس عن أنائك فهم ينظرون إلي الخارج فقط ولاتحاول يوما أن تكون الشكل الذي يريدونك عليه,فهم متقبلون علي الدوام وستظل تتشكل وتتشكل دائما ولن تستطيع أن ترضي طلباتهم أبدا…بل كنت نفسك كن كما صنعتك يداي لأن المهم هو تقيمي أنا لك والعمل والمكان الذي أريدك فيه.
فأحسست بنشوة حقيقية, فلم أعد مهملا متربا وحيدا لم أعد بلا فائدة أو جدوي من صنعي فأنا مهم الآن لوجودي هدف بل ولي قيمة كبيرة عنده شخصيا.
فنظرت إليه من موقعي الحالي الجميل وسطهم هناك وشكرته بامتنان عظيم فوجدت عينيه تتأملاني في شكلي الجديد ووضعي الجديد وتغطيهما دموع الانتصار والفرحة ففاضت عيناي فورا بدموع عدم الاستحقاق.