تأليف: جبران خليل جبران
ترجمة: كمال زاخر لطيف
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2009
لعل حديقة النبي من أشهر كتب جبران خليل جبران, وقد كتب باللغة الإنجليزية ونشر عام 1933 في نيويورك أي بعد وفاته بعامين, وهو كتاب يحمل مضمونا فلسفيا عميقا يعبر عن آراء جبران في الحياة, والحب, والله, والحكمة, والوجود, والوعي علي لسان نبي يمثل شخصية البطل, ويتضمن هذا الكتاب العديد من الإرهاصات والخواطر التي تستحق أن يحياها القارئ.
وقد تكلم عن ذلك في خمسة عشر محورا وقبل أن نتابع هذه المحاور مع فيلسوفنا جبران خليل جبران, نشير إلي أن الكتاب الذي بين أيدينا يختلف في موضوعه عن كتاب النبي الذي نشره جبران عام 1923 باللغة الإنجليزية الذي يعالج فيه المسائل الاجتماعية المتعلقة مثلا بالزواج والمأكل والمشرب والبيع والشراء, والجرائم والعقوبات والخير والشر وغير هذا من أمور اجتماعية.
العودة
يحدثنا جبران في المحور الأول عن عودته إلي الجزيرة التي ولد فيها فيقول إنه عند اقتراب سفينته من الميناء تكلم عن نفسه باعتباره موجة تدفعها موجة أخري يرسلها البحر كي تذيع كلماته ثم يتساءل: كيف يتأتي لنا أن نفعل ذلك إن لم نحطم قلوبنا فوق الصخور, أي كيف نفعل مشيئة هي ليست مشيئتنا الخاصة إن لم نحطم قلوبنا أولا, ثم يتحول للحديث عن الحرية فيقول إن قانون البحر وقانون الملاحين يوجب علي من يطلب الحرية أن يتحول إلي ضباب إذ ما لا شكل له ينشد له شكلا, ثم يقرر أن ما لا نقوله هو الذي يصنع أقدارنا ويصور أرواحنا, وقد أعلمه أحد ملاحيه أن الجموع تنتظره بشوق عن الشاطئ الآخر فأرسل البطل نظرة بعيدة إليهم ثم قال: ها أنا لم أجلب معي صيدا لكن ما أعطيتموني إياه في أمل وعزم رسمت به أقواسا في السماء ولعلها أقواس الحكمة والفهم.
عندئذ قال لإحدي رفيقات طفولته وتدعي كريمة حين يكون الحب حنينا إلي الوطن تتلاشي أمامه حسابات الزمن, وسأله أحدهم عن سبب الألم في الحياة, فقال له: إن ذلك لا يكون إلا حينما تشعرون بمرارة في نفوسكم وحين تذهب أرواحكم للتجوال في أماكن مهجورة.
وفي المحور الثاني نقرأ عن البطل الذي ينفرد بنفسه وذكرياته فيقول إن قائد سفينته أشار إلي المجموعة ألا يتبعوه ففعلوا إلا كريمة فقد اتبعته بعضا من الوقت ثم عادت إلي بيتها باكية لكن لم تدر لذلك سببا, وعندما يزور حديقة أبيه وأمه: في المحور الثالث يقول جبران الأديب اللبناني الأصل… العالمي المنهج إنه مكث في حديقة أمه وأبيه أربعين يوما وأربعين ليلة وأخيرا جاء إليه تسعة من تلاميذه قال له أحدهم ويدعي حافظ: حدثنا عن الأرض التي تغربت فيها, فقال:
إن أمه زاخرة بالمعتقدات ولكنها خاوية من الدين لهي أمة تستحق الرثاء, وأمة تسمي السفيه بطلا وتترجي الخير علي يد الفاتح الذي يتبه غرورا تستحق الرثاء. وأمة حاكمها ثعلب وحكيمها متال وفنها ترقيع وتقليد تستحق الرثاء. أمة عقدت السنون السنة حكمائها, أما أقوياؤها فمازالوا في المهد بعد تستحق الرثاء. واستمر البطل يصف الأرض التي تغرب فيها واستمر أيضا يصف الأمم التي تستحق الرثاء.
أما المحور الرابع النبي – البطل يفصح عن الهموم التي تجول بخاطره فيحدثنا عما يملأ قلبه من هموم حيث سأله أحدهم عن ذلك فنظر له وقال… عندما تكون صامتا منصتا إلي أعمالك تتساقط خواطرك تسقاط ندفات الثلج ولعل هذا يذكرنا بقول بولس الرسول وسلام الله الذي يفوق كل عقل يملأ قلوبكم وأفكاركم وأرواحكم عندئذ تكلم سركيس الذي لم يكن الإيمان قد ملأ قلبه بعد في لغة تقريرية: الربيع آت يا سيدي وحينئذ ستذوب ثلوج أحلامنا فأجابه المصطفي: وستذوب الثلوج في قلبك عندما يحل ربيع حياتك.
أغاني الحكمة
يبدأ جبران في استعراض ما في جعبته من حكمة وفلسفة اكتسبها طوال رحلته وطوال العشرة محاور المقبلة:
المحور الأول: بين الحكمة والحماقة حيث قال إنه ذات صباح قابلته كريمة التي أحبها كأخت له في صباه, قالت له: إنها رسول عن الجموع وأنهم يبغون أن يحدثهم بحكمته فقال لها لا تدعينني حكيما ولا تدعي واحد أحمقا فليس أمام الحق حكيما ولا أحمق والحياة نفسها تسمو فوق الحكمة والحماقة.
وهو بعد هذا يفرق بين المعرفة والفهم الذي هو طريق خفي يجب اكتشافه قبل أن يصبح الإنسان إنسانا, ثم ينتقل للحديث عن الحلم في محور آخر بين الفرح والوعي فيتحدث جبران علي لسان النبي فيقول في نومكم تحيون أعمق حياة وأن النهار يهبكم المعرفة أما الليل فهو يقودكم إلي الحياة.
وفي المحور التالي بين الزمان والوعي يتحدث جبران عن الوقت فيسأله أحد تلاميذه عن كون الزمان يمر علينا فيسلبنا شبابنا ولا يعطينا شيئا عوضا عنه, فيقول جبران إن السنين تحول البذور إلي غابات أي أنها تحول أصغر الأشياء إلي أكبرها وهي صحوة في صدوركم.
ثم يقول أحد تلاميذه إن الطفيليات تسرق غيرها ثم تدعي لنفسها ما ليس لها.. فيجيبه في فلسفة بائنة كلنا طفيلي فنحن الذين ننفخ في الروض لسنا أرفع شأنا من أولئك الذين يغترفون الحياة.
وتحت عنوان الشمس تشرق من جديد يخبرنا جبران عن الحياة مشبها إياها بشروق الشمس فيقول إن انعكاس الحياة ليس أقل من الحياة نفسها كما أن انعكاس شمس الصباح ليس أقل من الشمس ذاتها, وإذا غشاكم ليل قولوا هذا فجر لم يولد بعد, وفي المحور الذي يلي ذلك عبقرية التفرد يتحدث عن الوحدة وما لها من عبقرية فيقول في تساؤل: وماذا في الوحدة أو التفرد؟ فقد جئت وحيدا وسترحل وحيدا, اشرب كاسك إذن في سمت, بارك الحياة من أجل عطية التفرد فبغير التفرد لكن يكون قلبك إلا شاطئ مجدب لا مد فيه ولا جذر.
وفي المحور التالي المعنون بعنوان الله هو القلب الذي يحوي كل قلوب البشر قال جبران عن الله إنه القلب الذي يحوي كل القلوب وأن من يفتش في ذاته ويري جمالا أعظم روعة من كل جميل فقد رأي الله, ثم انتقل للحديث عن الأخ والجار علي اعتبار أن السمو بهما يضعهما في منزله الآلهة فيقول: عندما تحيون الصباح مع جيرانكم تكنون قد عبرتم البحر الأوسع.. وقد كان من الخير أن نقلل الكلام عن الله الذي لم نظفر بإدراكه وأن نكثر الكلام عن بعضنا بعضا علنا نستطيع أن نفهم ذواتنا.
ثم تحت عنوان بين الطبيعة والصناعة يحدثنا جبران خليل جبران علي لسان النبي عن أن من يتجرد من ثيابه يستطيع أن يسابق الريح, ولعله يقصد أن من يتجرد من كل ما هو مادي يستطيع أن يتقدم للأمام, ثم ينتقل ليشبه البشر بالبذور في كل شيء لاسيما إنهم مستودع للحياة وبالجذور في حيائها حي إنها أخفت قلوبها في الأرض طويلا.
معني أن أكون
وفي محور تال لذلك وهو بعنوان ما معني أن أكون يقول معني أن أكون حكيما:
أن الهو مع الصغار لا كأب لكن كرفيق لهم.
أن أكون بسيطا مع الشيوخ.
أن أفتش عن شاعر لأجلس صامتا في حضرته.
أن أدرك أن القديس والخاطئ أباهما واحد.
أن أتبع الجمال ولو انتهي بي إلي شفا هاوية.
أن أصبح حديقة بلا أسوار, وكرما بلا حراس, وخزانة مفتوحة للعابرين.
أما في المحور التالي لذلك.. جبران يبحث عمن يأخذ منه الشبع فيقول عن الشبع إنه ولي وجهة شطر قبر أمه وجلس بجواره وصرخ بصوت عظيم وقال نفسي مثقلة بمثر ناضج فهل من جائع يقبل علي ويأكل حتي الشبع.
لأن ألم الخصب أكثر من مرارة ألم العقم, مثله مثل الأمير الذي نصب خيامه في الصحراء وطلب من عبيده أن يشعلوا النار علامة للغريب والتائه وعابر السبيل لكنهم لم يجدوا إنسانا.
حياة جديدة
ويحدثنا جبران في المحورين الأخيرين من رائعته حديقة النبي عن قرب انحلاله وعودته من جديد ففي المحور الأول يدعو تلاميذه أن يذهبوا في طريقهم مغنيين ويعلن لتلاميذه عن رغبته في الرحيل والانطلاق بعيدا عنهم ثم العودة لهم ثانية فيقول لرفاقه: قد آن لنا أن نفترق فقد أبحرنا طويلا ولعله يقصد إبحارنا في بحار الفلسفة والفكر, ثم يقول أيضا ستنطلقون في طريقكم وسأمضي وحدي لكننا سنبقي رفاقا, لكني أريد أن أهبكم حصاد قلبي وبقاياه, اذهبوا في طريقكم مغنيين أي فرحين, أذيعوا الحق في كلمات قليلة, في طريقكم ستلقون كل محتاج سقيم فامنحوهم الغني واصحة, ستلتقون برجال والسنة كالشوك فامنحوهم عسلا بدلا من الكلمات, يا أصدقائي اهتموا بصغار النفوس وكبارها.
ثم قال سوف أمضي ولكن إن مضيت ومعي حق أو شيء جميل لم أذعه سوف يبحث عني هذا الحق ولسوف أعطيكم آية لتعرفوني. أما التلاميذ فكانوا ساكنين تماما وقد حطت الكآبة علي قلوبهم.
وفي المحور الأخير يناشد الضبابة التي بدأ حياته في الكتاب عنها حيث قال إن من كان ينشد الحرية عليه أن يتحول إلي ضباب فيقول:
أيتها النسمة البيضاء الي يصغها قالب.
ها أنذا أعود إليك نسمة أيضا.
ها قد أصبحنا الآن معا وسنبقي معا إلي حياة اليوم التالي.
أيتها الضبابة أعود إليك رغبة مرتعشة بلا ثمر لأنه كانت هناك هوة بيني وبين العالم لم يكن له أن يعبرها ولم يكن لي أن أقفز إليها, حتي أطفالي أنصتوا إلي لكن كانت علي وجوههم دهشة ما بعدها دهشة.
ثم يعود فيقول:
أيتها الضبابة ها أنا الآن وإياك واحد.
ولن أكون ذاتا فيما بعد.
لقد سقطت الأسوار… وتكسرت الأغلال.
وها أنا أرتفع إليك ضبابة بيضاء.
ولسوف نطفو معا فوق البحر إلي حياة اليوم التالي, حينئذ سوف يسقطك الفجر قطرات من الندي في حديقة وأهبط أنا طفلا فوق صدر امرأة.