المؤلف:مكسيم جوركي
الناشر:دار الفكر العربي
ترجمة:ليلي حمادة
شهدت بلدة نيجني نوفجورد مولد الكاتب والأديب الروسي الكبير مكسيم جوركي عام 1868 والذي أصبح يتيم الأب والأم وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره بعد,فتولت جدته تربيته التي أصقلت موهبته وطافت بخياله في عالم القصص التي كانت تقصها عليه منذ نعومة أظافره, فارتوت بذور الإبداع التي كانت بداخله حتي تفتحت وأثمرت العديد من الأعمال الأدبية المهمة ومنها علي سبيل المثالرواية الأم,رواية الطفولة,مسرحية الحضيض,قصيدة أنشودة نذير العاصفةوفي عام 1936م غابت شمس الإبداع تاركة وراءها إرثا لايقدر بثمن من روائع هذا الأديب الروسي الذي كان يؤمن بأن الأدب مبني علي النشاط الاقتصادي في نشأته ونموه وتطوره,وأنه يؤثر في المجتمع بقوته الخاصة.
الجدير بالذكر أن كلمةجوركيتعي باللغة الروسيةالمروقد اختارها الكاتب لقبا مستعارا له من واقع المرارة التي كان يعاني منها الشعب الروسي تحت الحكم القيصري,والتي شاهدها بعينيه خلال المسيرة الطويلة التي قطعها بحثا عن القوت وانعكس هذا الواقع بشكل واضح علي كتاباته وبشكل خاص في رائعتهالأمالتي كتبها عام 1906 بهدف إبراز النضال الثوري في نيجني نوفجورد خلال عام .1902
تعد روايةالأمإحدي روائع الأدب العالمي,لذلك قامت العديد من دور النشر, بترجمتها ونشرها منها علي سبيل المثال:دار البحار ودار الهلال ودار الفكر العربي ومكتبة المعارف ترجمة رينيه هانز وأحمد سويدودار الحرف العربي التي أصدرت الكتاب عام 2007 ولأهمية تلك الرواية قامتوطنيبعرضها بمناسبة عيد الأم لتطلع القاريء علي واحدة من أهم الروايات العالمية للكاتب الروسي مكسيم جوركي.
بدأ جوركي أحداث روايتهالأمبوصف حياة العمال ومدي بؤسهم وفقرهم واستغلال أصحاب المعامل لهم,مما أسفر عن شراسة طباعهم وسوء أخلاقهم إلي الدرجة التي جعلتهم يمارسون العنف ضد بعضهم البعض,بل وضد زوجاتهم فنراه يقول:وكان يخيم علي علاقاتهم شعور بالحقد..هذا الشعور الذي ورثوه كداء عن آبائهم وأجدادهم والذي لن يفارقهم حتي اللحد..وكان كل همهم بعد الخروج من عملهم هو التجمع في حانة لشرب الخمر هربا من تعبهم اليومي في ذلك المعمل الذي يستغلهم ويستهلك نضارة شبابهم ..وأن يتنزهوا عند الغروب في الشوارع..ويتحدثوا عن العمل وعن الآلات..ويكيلوا لرؤسائهم السباب والشتائم.وفي هذا الوسط العمالي الفقير وهذا الجو الملوث بالظلم والاستغلال عاشميشال فلاسوفذلك العامل السكير والجبار المخيف الذي يهابه الجميع بسبب بطشه بهم وبذاءة لسانة إلي الدرجة التي جعلت مكسيم يصفه قائلا:كان أفضل صانع أقفال ذو شعر كثيف..وعينين شريرتين..ونظرة قاتمة..وكان فظا مع رؤسائه وفي كل أحد كانت له ضحية..وكان الناس جميعا يكرهونه ويخشونه..وحاول بعض الناس البطش به لكن هذه المحاولات لم تنجح
الكتب المحرمة
وبعد سنين طويلة من عذاب بيلاجي(زوجة ميشال فلاسوف)مع قسوة وفظاعة زوجها أراد لها القدر أخيرا أن ترحم من هذا العذاب بموته مخلفا وراءه زوجة لم تحزن كثيرا علي فراق ذلك الزوج القاسي الذي لم يكن لديه أسلوب حوار معها سوي الضرب والسب,أما ابنها بولذو الأربعة عشر عاما فقد وجد غياب والده فرصة ليحتل مكانه ويقلد سلوكه وتصرفاته من شرب الخمر وإساءة معاملة أمه التي تستجديه قائلةأنت بشكل خاص يجب ألا تقرب الخمر فقد شرب والدك عنك وأذاقني كؤوس العذاب,فترفق أنت بيوبعد أن جرب بول جميع الطرق لتفريغ طاقته وتكوين شخصيته وجد له أخيراطريقا مختلفا تماما وهو محاولة فهم الحياة ومعرفة سبب المعاناة التي يعيشها هو ووالده من قبله بل وجميع العمال..لذلك قرر بدلا من أن يلجأ للخمر لينسي همومه وعذابه أن يبحث عن أسباب هذا العذاب الذي لم تعرف أمه في أعوامها الأربعين سواه..وعاش بول خلال سنتين حياة الراهب ,يعود من المعمل وينعزل في غرفته ليقرأ الكتب الممنوعة,كما وصفها لأمه التي كانت تراقب تصرفاته بقلق وخوف أكثر مما كانت تخاف عليه عندما كان يتناول الخمر ويخرج مع أصدقائه كما يفعل بقية الشبان وسألته أمه عن طبيعة الكتب التي يقرأها باستمرار, فأجابها بول بجدية وصوت منخفض قائلا:هذه الكتب التي أقرأها محرمة,لأنها تكشف لنا عن حقيقة واقعنا كعمال.إنها تطبع سرا,وإذا ما وجدت معي فسيمضون بي إلي السجن.
الدموع لاتنضب في عيون الأمهات
وعلي الرغم من أن بيلاجي كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما يفعله ابنها وماذا كان يدور في الاجتماعات التي يعقدها في بيتها مع مجموعة من الشبان..لكن إحساسها وقلبها كأم أخبراها بأن ابنها يكرس نفسه لقضية كبيرة قد يضحي بحياته لأجلها..أحزنها ذلك كثيرا وأشعرها بالخوف الدائم عليه,لكن حياتها السابقة مع زوجها ومعاناتها علمتها أن تصمت وتستيلك لحتمية الواقع..فهي تعلم أن الدموع لاتنضب في عيون الأمهات.
ورغم خوفها وقلقها علي مصير ابنها,إلا أنها ككل أم تشعر بالفخر بابنها وهي تشاهده يرأس الاجتماعات ويتحدث بأشياء لاتفهمها,ولكنها لم تكن أمه وحده..كانت أما لجميع أصدقائه الذين يجتمعون في بيتها ..كان حنانها كأم يفيض عليهم جميعا ويحيط بهم..تمنحهم الدفء والحنان ويمنحونها معني جديد للحياة كانت من خلال الاستماع لهم تحاول أن تتعلم وتفهم ما يدور حولها..حتي أن أندريه صديق ابنها عرض عليها أن يعلمها القراءة.
وكان ذلك الابن وأصدقاؤه يطبعون المنشورات ويوزعونها بين العمال وهم يعلمون أنهم سيسجنون ويعذبون,لكن لم يكن هناك ما يمنعهم عن مواصلة النضال في سبيل القضية التي يؤمنون بها …ذلك الإيمان الذي جعل بول يقول لأمه:إنها لجريمة يا أماه القتل فظيع..قتل ملايين من الكائنات البشرية..قتل الأرواح ..أتدركين؟إنهم يقتلون الروح..أرأيت الفرق بيننا وبينهم؟عندما يضرب واحد منا إنسانا يشعر بالخجل يتعذب ويشمئز..لكن الآخرين يقتلون الناس بالألوف..يقتلونهم ببطء ودون أ ية رحمة..يقتلونهم دون أن يرتعشوا..يقتلونهم بلذة..يذبحون الآلاف لا لغاية إلا ليكتنزوا الذهب والفضة ووريقات لاقيمة لها.إنهم لايبطشون بالشعب لحماية أنفسهم..بل لحماية ثرواتهم..إنهم لايحمون أنفسهم من الداخل..لا من الخارج…
وأخذ بول يد أمه بين يديه واستطرد قائلا:إذا أحسست بكل هذا المقت..كل ذلك التعفن القذر..فستدركين حقيقتنا..وسترين كم هي عظيمة ورائعةوبهذا أخذ بول يعد أمه لتلك الساعة التي سيعتقلونه فيها فكان يرفض أن تعبر عن مشاعرها وخوفها معتبرا ذلك حجر عثرة في سبيل تحقيق هدفه السامي..ولم يفهم بول أن مشاعر الأم هي أسمي وأهم من أية قضية أخري,فنراه يكلمها بحدة قائلا:عليك ألا تحزني ولكن يجب أن تفرحي..متي يارب يكون عندنا أمهات يفرحن في حين يرسلن أبناءهن إلي الموت من أجل الإنسانية؟وعندما عاتبه صديقه أندريه علي قسوته مع أمه أجابه:علينا أن بصرخ يحزم بكل ما نريد سواء كان هذا إيجابا أم سلبافرد أندريه قائلا:وحتي لو كان هذا التصريح لأمك؟فأجاب بول:أجل للجميع علي حد سواء فلا أريد أن تكبلني صداقة أو محبة.
روحا بعثت من جديد
ومرت الأيام وتحققت مخاوف بيلاجي فزج بابنها إلي السجن بعد محاكمته, تلك المحاكمة التي أظهر فيها الكاتب التضاد الكبير بين العالمين,عالم العمال وعالم قضاتهم وأسبغ عليبولمعني ثوريا أكثر عمقا,فنزع عنه الكثير من الملامح التي يمكن أن تضعفة كعدم الثقة بقواه أو الحنو علي والدته,ولكن وجدت في نفسها القوة التي جعلتها تتبع مسيرة ابنها وأصبحت توزع المنشورات مع أصدقائه
ومن هذا يتضح أن أحداث الرواية بدأت بأم خائفة علي ابنها من مصيره المحتوم وانتهت بتبنيها لقضيته,بل وناضلت مع غيرها من الرفاق من أجل تلك القضية,فقد تحولت تلك المرأة ذات الأربعين ربيعا من الشفقة إلي حب للمضطهدين وكره لمضطهديهم,وحل محل إيمانها الساذج بغلبة العدالة السخط والغضب والقوة إلي الدرجة التي نراها تقول:أتعرفون لما صدر الحكم بالنفي علي ابني وعلي الآخرين؟سأخبركم وستصدقون قلب أم مثلي:لقد أصدروا عليهم ذلك الحكم يوم أمس,لأنهم كانوا يحاولون أن يظهروا الحقيقة لكم,لكم جميعا,معشر العمال.وعرفت أمس فقط أن هذه الحقيقة لايمكن لأحد أن يخنقها وينكرها.
واستطردت تلك الأم المكلوبة في ابنها قائلة بحماس وقوة:إن العمل المضني هذا لايحمل إليكم سوي المرض والجوع والفقر..كل شيء هو ضدنا ,والجميع يستغلوننا.وفيما نحن نغرق بالوحول حتي آذاننا..نري الآخرين يعيشون حياة ترف وفجور ويحيون في تخمة مستمرة ويبقوننا نحن في قبضة الرعب والخوف, لأننا جهلة لانعرف شيئا….إن حياتنا هي ليل حالك مستمر.
ثم مدت يدها في حقيبتها وأخرجت رزمة من المنشورات وأخذت تلقيها علي الجموع وهي تقول:لا تخافوا شيئا مطلقا إذ لا يوجد شيء أشقي وأتعس من حياتكم التي تعيشونها طوال العمر.
وفي تلك اللحظات أمسك بها الدرك وأخذوا يركلونها ويضربونها بوحشية فسالت الدماء منها وهي تقول:لن تستطيعوا مهما فعلتم أن تقتلوا روحا بعثت من جديد ..لا يمكن أن يخنق العقل بالدم.
ومادت الأرض تحت قدميها ,وترنحت,وخارت قواها ولكن عينيها كانتا تلمعان وهي تقول لهم:لن تتمكنوا من إغراق الحقيقة في بحار من الرماد.أنتم مجانين,وبذلك لن تجلبوا سوي النقمة عليكم وسيتفاقم الحقد ,حقد الشعب القوي,وأخيرا سينصب عليكم جميعا وعلي أسيادكم.
وبالنهاية أمسك الدركي بعنقها وراح يضغط عليه فخرجت من حنجرتها حشرجات تردد:يا لكم من أشقياء يا لكم من أشقياء!
ومن هنا نري أنالأمفي تلك الرواية ترمز إلي الوطن بكامله ذلك الوطن الذي لايتفهم الثورة,وبعد ذلك يتعاطف معها,وأخيرا يقوم بها, وأكثر جوركي من استخدام كلمة الأم لأنها ليست أما لبول وحده وإنما كان الآخرون يسمونها الأم ولعل جوركي تعمد ذلك…إنها أم الجميع…إنها الوطن الأم الذي يقف مع أبنائه ويتفهم الثوار ويتبني قضاياهم,يتأثر لآلامهم ويفرح لفرحهم.