علي أرجوحة الوقت جلسنا,ترفعنا لأعلي فآخذها في حضني وأهيم…في ارتفاعنا أبصرهم جالسين علي أريكة الوقت منتظرين سقوطي.تنظر إليهم ساخرة…وتدفس رأسها في حضني…تحثني لدفع الأرجوحة لترتفع بنا وترتفع…أدفع بكل ما أملك من طاقة روحي وجسدي…فترتفع لأعلي وأعلي..وكلما ارتفعت أكثر وأكثر أشعر بخدر لذيذ وبنشوة الأرجحة.وحين بلغت ذروة الدفع ضمتني لصدرها بقوة وخمشت أظافرها ظهري فهبطت قوة دفعي رويدا رويدا فأسقطتني علي أريكة الوقت…
هكذا يأخذنا الأديب المتميز رفقي بدوي في مجموعته القصصيةأرجوحة الوقت التي يصور فيها الوقت كأرجوحة تعتليها فتاة جميلة تعبث بمن حولها وتأخذ بمن تريده بجانبها علي الأرجوحة لتمضي وقتا سعيدا تهيم فيه في النشوة والسعادة, وعندما تتبدد طاقة من بجانبها من شدة دفع الأرجوحة تسقطه من جانبها ليأخذ مكانه آخر ينتظر علي أريكة الوقت…
بهذا استطاع الكاتب أن يصور حياة العبث التي تعيشها تلك الفتاة بسبب الرجال المتلهفين عليها والجالسين علي أريكة الوقت في انتظار دورهم لكي يركبوا بجانبها أرجوحتها ويستمتعوا بتلك اللحظات بجانبها قبل أن تقذفهم عندما تخور قواهم, وهنا يقول:ازدحمت أريكة الوقت بالرجال.ولم يعد بها متسع ليجلس عليها أحد,فالجالسون منكمشون وملتصقون ببعض,يرتعدون ويسعلون,وهواء الأرجوحة في هبوطها السريع يقذف لهم برجل آخر,تسقطه علي أريكة الوقت,فيسقط أحد الجالسين علي الأريكة في الحفرة التي خلفها ليحل مكانه,حيث لم يعد مكان ليشغله أحد علي الأريكة,ولا تتوقف الأرجوحة في كل هبوط لها عن القذف.
ولعل هذا تصوير جميل ليس لعبثية الفتاة والرجال معا بل لعبثية الوقت أيضا حيث لم يعد له قيمة من وجهة نظر هؤلاء الذين يمضونه في انتظار لحظات من المتعة الزائفة يعلمون جيدا أنها لن تدوم بل استطاع الكاتب أن يصور الرذيلة تصويرا حيا لأنها تجلب متعة ضئيلة لا تدوم وتجلب خلفها سقوطا في هوة الخطيئة وما يعقبها من ندم.
أريكة الوقت…لا نشعر بحركة الزمن
أما قصةأريكة الوقتفيوضح فيها الكاتب أن الجالسين علي هذه الأريكة لا يشعرون بحركة الزمن حتي عندما تقذف الأحداث في بركة الزمن فلا تتحرك بالنسبة لهم مياهها الراكدة العفنة فنراه يقول:ما بال الزمان علي أريكة الوقت علي هذا النحو,لا نشعر بحركته ولا بحركة المتمكن فيه,نقذف بالأحداث في بركته الآسنة فلا تتحرك مياهه الراكدة العفنة,ما بال الزمان علي هذا النحو.
كما يصور الكاتب هؤلاء الجالسين علي الأريكة بأنهم لا يشعرون إلا بغياب أحد رفاقهم علي الأريكة وقبل أن ينتهوا من همهماتهم حول هذا يستعيضون بغيره علي شاكلتهم وهنا يقول:الجالسون علي الأريكة لا يشعرون بغياب أحد الرفاق بين يوم وآخر. يهمهمون فيما بينهم,وقبل أن ينتهوا من همهماتهم يستعيضون بغيره علي شاكلتهم,يتسم بسيماهم لكنه يتصف بطزاجة الجلوس ويظل قلقا في جلسته حتي تتعود مقعدته مقعده فيأتلفا,كأن مقعدته انصهرت وصبت وتشكلت علي المقعد فأخذت راحتها واستقرارها,وأصبحت جزءا منه فيعتاد كل منهم مكانه المحدد الذي تشكل علي شكل مقعدته لا يفارقه.
وهنا يصور الكاتب حالة السلبية واللامبالاة التي أصابت الناس فلم تعد تحركهم الأحداث وقد اعتادوا الجلوس علي مقاعد المتفرجين مفتوحي الأعين فاغري الأفواه كأنهم مصابون بالذهول أو تحولوا فجاة إلي تماثيل من الشمع لا تحرك ساكنا حتي إنهم لا يتحدثون ولا يهتمون بغير الثرثرة علي ماضيهم أو اجترار أحزان حاضرهم ولم يفعلوا شيئا من أجل مستقبلهم ومستقبل أولادهم.
أما بطل قصتنا فهو مختلف عن هؤلاء الجالسين علي أريكة الوقت فنراه يقول:كنت أخاف علي وقتي..كنزي الذي أخفيه ولم أقم بإفشاء سره…فوليت وجهي خلف ستارة الانتظار وجلست لا كما يجلس الآخرون يهدرون ما تبقي لهم من وقت في ثرثرة ماضيهم وما تجيش به صدورهم من أحزان ووحدة,صمت وإن عنت لي الفصاحة فقارنت مقاعدهم بمقعدي فوجدتهم تشكلوا بمقاعدهم ووجدتني أشكل مقعدي.
ثم يوضح لنا بطل القصة أننا جميعا نجلس علي أريكة الوقت نختلف فيوجد منا من سقط في بركته الآسنة مع الأحداث ومنا من لم يشغله الحدث وهنا يقول:أريكة الوقت تشملنا جميعا منا من سقط في بركته الآسنة مع الأحداث ومنا من لم يشغله الحدث فانعدم لديه التميز والتمييز وكبله طين الهوي.
عيون الوقت ترصدني
عيون الوقت ترصدني,وأنا أتحسر علي جسدي المقيد بالأغلال في قاع الجب,والحفل قد أعد من أجلي,والعتمة قد بلغت مداها,فأصابني الهلع,فجاهدت وجاهدت في الطلب,فخرج جسدي من الجب فصحت,ياليتهم يعلمون وذرفت دموع الاحتراق فأوقدت الشموع,ومدت المائدة فرقصت للهوي. هكذا يتخيل الكاتب في قصةعيون الوقت الوقت كائنا له عيون تختلف نظراتها باختلاف مشاعرها,فهناك عيون تجحظ من محاجرها,وهناك عيون تكل من الانتظار,ولعل هنا يشير الكاتب إلي انتظار الأحلام التي لم تأت بعد,انتظارا للآمال للسلام للحب,حتي إن من فرط الانتظار ذهب العقل عنه,متخيلا ذاته دون أذن أو شفة,لا يستطيع حتي العصيان أو الاحتجاج علي تلك الأحزان التي يمر بها متخيلا فمه موضوع عليه قفل فنراه يقول:الوقت ضيق وأمامي لحظة واحدة أتعلق بطرف الرداء وأضع القفل علي فمي,وفي القلب أسرار,والشفة صامتة والقلب محشو بالضجيج,والذين شربوا عرفوا فأخفوا وستروا عن العيون….
ويشير الكاتب إلي أن الوقت ضيق والصبر لم يعد يملك زمامه حينما يقول:فنظرت صبري,فقال صبري:لا تنظر لي انظر لعطائي فاحترت,فنظرت البحر وأمعنت النظر فاحترت,فقال:من رأي زبدي يتحدث بالأسرار ومن رآني احتار,ومن رأي زبدي ينتوي النوايا ومن رآني خاطر وأقدم,والذي رأي زبدي يكون في دوار وطواف والذي رآني يكون صافيا فكلانا عارض وعليك أن تحرق عروق الاختيار فيك,فافتح عيون الوقت,وتعرف من اللهجة والبيان.
كما يصور الكاتب عيون الوقت بأنها لا تقتنع بالأرض وتتوق إلي السماء حيث الرقي والعلو وهنا يقول:عيون الأرض,عيون لا تقتنع بالأرض,والتاج يبحث عن الرأس,وسعي إلي تمام الدائرة وطي قوس الصعود,وأنا في عذاب بيتي,والمائدة مدت,وكأس العهد التي شربناها في يوم الحضور مازالت في موضعها علي المائدة وخرقة جسدي التي مزقت من أجلك,من العيب أن أرتقها,فلقد قطعت مراحل قوس النزول دون أن أدري منزلي,وإذا بدأ قوس الصعود انفجرت العيون وصرخت:ربي لا تذرني فردا,فرقصت عيونها وقالت: ارقص فإن القلب لا يحتمل كل ما فيه….
وهكذا يعطينا الكاتب شيئا من نفسه حينما يخط قلمه قصص المجموعة التي بين أيدينا(ضيق الوقت,أرجوحة الوقت,أريكة الوقت,امراة الوقت,خليل الوقت,عيون الوقت,سرور الوقت)ليحقق لنا متعة القراءة التي هي متعة النفس….