إلي كل امرأة تعاني مرارة الفقد والحرمان,إلي صديقاتي من الأرامل والمطلقات اللاتي يواجهن العواصف في شتاء قارس البرودة,وصيف شديد الحرارة,وحدهن في ساحة الاغتراب من أجل فلذة أكبادهن..أهدي هذا الكتاب…
بهذه الكلمات المشحونة بالشجن أهدت الكاتبة مديحة أبو زيد مجموعتها القصصية للمرأة,مما يدل علي مدي المعاناة الواقعة علي النساء,وبكل أسي تسرد مجموعتها القصصيةأوجاع الفقدهذه المعاناة.
دماء علي الثياب البيضاء
تبدأ الكاتبة مجموعتها القصصية بغصة مريرة,يظهر فيها كم أن المرأة مقهورة منذ الطفولة,وبوصف دقيق تصف بشاعة الختان من خلال قصتهادماء علي الثياب البيضاءفهي تحكي قصة شقيقتين في نهاية المرحلة الابتدائية سافرتا إلي القرية مع الجدة ليتم ختانهما,وهما في سعادة غامرة لا من أجل الختانفهما لايعرفان شيئا عن معني الطهارة ولكن من أجل اللهو بين الحقول والمزارع والسهر في ضوء القمر,وبعد السفر إلي القرية وقبل الختان بيوم بدأت الهدايا تنهال بكثرة من الأقارب والجيران.. تقول الكاتبة: وجدتي تقول لابد أن تأكل الصبية جيدا لتعوض الدم الذي تفقده بعد الطهارة,فسألت جدتي:يعني إيه طهارة؟.. فقالت بينما تشير إلي أسفل صرتي..هنا حتة لحم زائدة..تقوم الداية بقطعها…!ثم تواصل الكاتبة السرد في تفاصيل الاستعداد لهذا الحدث الجلل من استدعاء النسوة للمشاركة في الطهي والخبز,مع وصفها الدقيق لحياة الموالد داخل القرية, حيث الباعة يعرضون البضائع من طرح ملونة ومناديل مطرزة,وانتشار عربات الحلوي في كل مكان,وتعالت أصوات الأراجوز المرتفعة ,ثم تنتقل بعد ذلك إلي نوع آخر من الزحام والصراخ وهو بيت الجدة الذي تمت فيه هذه الجريمة البشعة,حيث تصف الكاتبة هذا المشهد بكل ألم,قائلة:اعتلت الداية ظهر الفرن بجبروت وبجوارها الجدة.ثم أخرجت موسا من خرج قماش قديم,راحت تسنه بحجر,ثم جاءوا بأختي وهي تصرخ صرخات مدوية,وحملها بعض الرجال وقامت النساء بتعريتها أمام الجميع وفتحت ساقيها بقسوة وتقدمت الداية ممسكة بالموس وأجرت العملية بمساعدة جدتي الجسور,وبينما تبكي أمي..ناولتها جدتي الجزء المقطوع…والبعض اندمج في الزغاريد,دون أن ينتبهن للدم الذي سال بغزارة من شقيقتي وأغرق الشال الأبيض الذي يلف نصفها الأسفل وتحول لونها إلي أسمر ثم إلي أصفر حتي صار كالبفتة البيضاء وراحت في غيبوبة!!
ثم تصف الكاتبة هول المفاجأة علي الداية وقد اختلفت الأقاويل حيث ذكر البعض أن الموس كان حاميا,مما جعل الداية تهرب حيث قالت لجدتي وهي تهرول مسرعة للخروج: البنت الثانية لسه صغيرة..نقطع لها السنة الجاية!
القرار:
وفي قصةالقرارتحكي الكاتبة عن علاقة جميلة ذات أبعاد إنسانية..هذه العلاقة نشبت بين رجل مسن وعاملة الوحدة الاجتماعية,وتبدأ القصة بركوب هذا الرجل الذي اقترب من الستين عاما القطار المتهالك في محاولة منه للحاق بأحد المقاعد المتهالكة لقطار الدرجة الثالثة,وعندما لم يجد مقعدا ليرتاح عليه,أسند ظهره المتعب بجوار أحد الشبابيك العارية ,ومرت أمامه بوجهها الملائكي مشرفة الوحدة الاجتماعية الجديدة,وتذكر مادار بينهما بالأمس عن مدير الوحدة الشرير وارتياحهما لدخول العناية المركزة,وكيف كان مديرا ظالما لايهتم بالناس أو الأطفال,وتذكر حديثها المرير عن صور المستفيدين الذين يصارعون المرض والجوع ويأتون سيرا علي الأقدام من قراهم البعيدة..لصرف المعاش أو المساعدة وهم يترددون عشرات المرات..بلا أمل..
ففي هذه القصة أظهرت الكاتبة أن العلاقات الإنسانية ليست أبا وابنا أو علاقة زوج بزوجة ,إنها أسمي من رباط الدم,فهذا الرجل العجوز خلال رحلته لم يتذكر سوي وجه هذه المشرفة الاجتماعية والمهندس الذي كان من أكفأ الموظفين في مجلس المدينة,وعندما وصل القطار إلي المحطة قبل الأخيرة,ظل العجوز صامتا حائرا يكاد يسقط من الإعياء وهو يهمس متذكرا المشرفة مع السلامة يا أعز الناس يرعاك المولي…ثم تذكر أنه لم يعطها عنوانه للاطمئنان.. ينزل العجوز من القطار في محاولة مستميتة للحاق بالأتوبيس المكتظ بالناس ويسقط تحت العجلات ويلتف حوله الناس الذين صاح أحدهم: الحمد لله…الرجل حي.
في غيط الطماطم
وتنتقل الكاتبة إلي نوع آخر من الفقد,حيث مشرفة حضانة تجد نفسها تعمل في مكان مليء بالإهمال والخطورة علي الأطفال,سواء من صاحب الحضانة أو العامل والدادة…لدرجة تصل إلي فقدان خمسة أطفال في نهاية اليوم,مما يثير شكوك الأهالي في أن حدث مكروه لهم..وتكون المفاجأة أن هؤلاء الأطفال يعملون يوميا في غيط الطماطم من أجل خمسة جنيهات في اليوم,وهنا تلقي الكاتبة الضوء علي الحرمان الذي يعاني منه البعض حتي أن الأطفال يلجأون إلي العمل من أجل جنيهات قليلة.
التواء
ومن الإهمال في حق الطفل تنتقل الكاتبة إلي إهمال آخر يسلب الإنسان حقه وهو انعدام الضمير,فها هي موظفة جديدة تعمل في أحد المشاريع وتفاجأ بوجود ثعبان في غرفتها فتقتله في الحال,وعندما تخبر المدير يؤكد لها أن هذه المنطقة تمتليء بالثعابين وتتوالي الأحداث وتكتشف هذه الموظفة أن حياتها مهددة بالخطر ولكن إذا أرادت حياة بلا مشاكل,فعليها ألا تسأل عن ميزانية المشروعات المؤجلة,ولا تطلع علي الأوراق والمستندات الخاصة بها..!
الشاطيء البعيد
علي شاطئه بزغ فجر وجودي…ولد ضميري ارتوت طبيعتي بمياهه, نظراتي إليه تشبه القبلات أمطرها علي الصيادين في مراكبهم الصغيرة..
بهذه الكلمات الرقيقة عبرت الكاتبة عن إحساسها الرقيق وحبها الجليل للنيل الخالد والحزن لدرجة البكاء لأنها لاتمتلك حفنة من وادي طميه,كان هذا حال الشاعرة التي ذهبت إلي إحدي الندوات لتلقي الشعر,وكالعادة كان الجميع يطلب منها أن تشدو بأحد أشعارها عن النيل ولكنها تذكرت نيلها العظيموسيمملامحة جذابة, ولكن لماذا بدي نحيفا بعض الشيء,وارتسم علي وجهه الإرهاق؟ فالنبع الفياض لم يعد كسابق عهده,حاولت أن تقترب وأعترضتها الأشواك وعشرات المستعمرين في واديه الخصيب,ولكنها تأملته في شوق ثم راحت تتمتميا فارد طولك في قلب مدينتي.
وبتروي الأرض غناوي لجل ما تطرح شهد..
واقف شامخ زي الهرم الأكبر,فارس أسمر..
قلبك مليان بالخير.بتمد إيديك دايما للفقراء ولا يوم كليت..
الخروج من الفردوس
تتحدث الكاتبة في هذه القصة عن فقدان الحبيب,فها هي فتاة تنتظر حبيبها ولا يأتي وتتساءل:هل تراجع؟ ربما فارق السن.أو انطلاقي معه,بادلته نفس المشاعر والرجل الشرقي لايقبل هذا,وتذكرت ما حدث بينهما بالأمس حيث تبادلا كلمات الغرام وطال العناق وسألها: هل فعلت هذا من قبل؟ إحكي لي بالتفصيل.. فقالت لا بهذه المشاعر ولا في نفس الظروف فأنا لست كما ولدتني أمي,فتبدلت مشاعره ورفع يده وفك العناق عندما علم أنها سبق لها الزواج منذ سنوات مضت, وعلي الرغم من تأكيدها أن هذه المشاعر الجياشة لم تعرفها مع زوجها السابق,ثم تذكر أول لقاء بينهما ولف ذراعه حول خصرها مؤكدا أن غدا سيضمنا مكان نملؤه بالحب والحنان..أمام كل البشر.ومضي وطال الغياب ..وانتظرته كثيرا ليعوضها عن سنوات الفقد والحرمان وتحدث المفاجأة عندما تقرأ عن حادث مروع لقطار كفر الدوار,وقرأت التفاصيل وارتعدت أصابعها وسري الخوف في كل كيانها لحظة أن وصلت للأسماء المتوفية تأملت أحدها.. نفس الاسم ثلاثي ماعدا اللقب!!
اختفاء
تحكي القصة اختفاء الممرضةسوسوووالدتها تهرع إلي الشيخ العراف وتعطي له منديلا ابنتها ليدلها علي مكانها,وعلي الرغم من وصف الشيخ فتاة أخري غير سوسو المختفية إلا أنها تقتنع بكلامه عندما يقول لها إنه يخاف علي ابنتها من امرأة سوداء, فعلي الفور تصيح الأم مافيش غيرها.مرات عمها البربرية.منها لله وعلي الفور أعطته كل ما معها من نقود ليدلها علي ابنتها فيجيب الشيخ: في بحر أربعين يوما يبان لها أثر.
وتنتقل الكاتبة من قصة إلي أخري فتصف: حالة الإهمال الواضح في الأحياء الفقيرة من خلال قصةصندوق واحد لايكفيثم تحكي لنا من خلال قصةالمخيفعن تلك الفتاة الوافدة إلي القرية للعمل في مجال تنمية القرية وتصحو من النوم مذعورة لشعورها بوجود آخر في الغرفة التي كانت تنام فيها, وتتساءل: هل هذا حقيقة أم جان؟.
أما في قصةتمردفنقرأ عن قصة حب شبه مستحيلة بين فتاة ابنة مدير عام وشاب فقير والده راعي غنم,وعلي الرغم من تمسكها به إلي المنتهي وعلي الرغم من ثقافة وعلم هذا الشاب إلا أنها تصدم في النهاية لزواجه من أخري مثله.
أفروديت الأسيرة
وفي قصة أفروديت الأسيرة نجد الكاتبة تسرد لنا قصة امرأة تناجي حبيبها الغائب توأم روحها وكأنها تصف معاناة المرأة بوجه عام في الحصول علي المستحيل.الذي يحقق لها الشعور بالأمان والطمأنينة فتقول:أخاف علي روحي من هذا الفقد,يا راعي المسافر العنيد كنت أجمل امرأة من أجلك,أراك فأري أنوثتي,الآن أقاوم وحدي وحدتي وفقدي واهتزازات الكون حولي.
معجزة من السماء
وتنهي الكاتبة مجموعتها القصصية أوجاع الفقدبقصة اغتصاب ونجدها تشبه فتاة بريئة بمدينة رشيد,فكل منهما يغتصب دون أي ذنب, فالمدينة محاصرة بقوات العدو وقتل العديد من الأبرياء بالأسلحة المحرمة دوليا,وها هي الفتاة تشعر وهي نائمة بمن يغتصبها ويسلبها حريتها وكرامتها وبعد صراع عنيف طوال الليل مع المجهول تقوم الفتاة مفزوعة من فراشها وفي نفس الوقت تسقط المدينة بين فكي الذئب المفترس,وتغادر الفتاة الفراش وهي تصرخ قائلةلاتتركوني..أغيثوني..الطعنات تدمي جسدي..ورقة التوت تداري عورتي.
وعلي الرغم من كل هذا السواد إلا أن الأديبة المتميزة مديحة أبو زيد تقدم لنا بارقة أمل في أن إنصاف المرأة سوف يأتي ولكنه بمعجزة من السماء!وذلك عندما تؤكد أن بعض الجيران استمعوا إلي استغاثة الفتاة فتجمعوا ورتبوا علي كتفيها.قائلين:نحن معك..انظري إلي السماء.هناك غيوم كثيرة تنذر بسقوط المطر..
تحية إلي الأديبة مديحة أبو زيد,وأوجاع الفقد التي وإن كانت سببت لنا آلاما كبيرة إلا أنها كشفت كثيرا من المستور والمسكوت عنه في مجتمعنا…