لا شك أن الصيغة اللبنانية أقوي بكثير مما يعتقد. هذا ما أظهرته التجارب التي مر بها الوطن الصغير. وهذا ما كشفته قدرة لبنان علي الصمود في مواجهة أشرس حرب استنزاف يتعرض لها بلد صغير منذ ما يزيد علي أربعين عاما, أي منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في عام 1969 من القرن الماضي. هذا الاتفاق الذي لم يجد من يقف في وجهه سوي لبناني واحد بعيد النظر اسمه العميد ريمون اده, رحمه الله.
ما يشهده لبنان اليوم, عبر العراقيل الهادفة إلي منع تشكيل الحكومة, استمرار لحرب الاستنزاف التي تستهدف إلغاء الوطن الصغير وتأكيد أنه غير قابل للحياة, وأن اللبنانيين لا يستطيعون حتي تشكيل حكومة بدون ضوء أخضر من دمشق وطهران حيث نظامين أمنيين فشلا في كل شيء باستثناء القدرة علي ممارسة سياسة الابتزاز في كل الاتجاهات وعلي كل الصعد والمجالات. هناك, بين رجالات النظامين من يعتبر, في مجالسه الخاصة وفي اللقاءات مع كبار المسئولين في المنطقة, أن الوضع اللبناني هش وهو قابل للانفجار في كل لحظة. هل هذا صحيح… أم مجرد تمنيات؟ من يقول هذا الكلام لا يعرف ما هو لبنان, ولا يعرف خصوصا شيئا عن المنطقة. كل ما يفعله هو التمسك بشعارات تبين أن لا علاقة لها بالواقع أو بالتاريخ. إذا كان لبنان كيانا مصطنعا, ماذا عن سورية, إذا كان لبنان يعاني من مشاكل اقتصادية خلفتها أعوام طويلة من الحروب بين أهله وحروب الآخرين علي أرضه, ما الذي يمنع سورية من معالجة مشاكلها الداخلية المستعصية التي هي أسوأ بكثير من مشاكل لبنان, وما الذي يمنع الاقتصاد الإيراني من التراجع علي نحو مستمر, ما الذي يحول دون أن تكون إيران بلدا ديموقراطيا بالفعل بدلا من أن تكون في حالة مخاض تعكس أزمة سياسية واجتماعية عميقة علي كل المستويات وحتي داخل المؤسسة الحاكمة نفسها, لماذا يجد الحرس الثوري والجهاز الأمني أنهما مضطران إلي القيام بانقلاب من أجل إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية في بلد ذي حضارة قديمة وأصيلة, بلد مليء بالشخصيات السياسية من ذوي الكفاءات؟
يقاوم لبنان حاليا, بفضل أبنائه الشرفاء حقا, إحدي أشرس الحملات في سياق حرب الاستنزاف المستمرة التي يمكن أن نعتبر أفضل تعبير عنها لعبة الهروب المستمر إلي الأمام التي يمارسها النظامان الإيراني والسوري. لماذا يمكن القول إن الحملة الراهنة علي لبنان واللبنانيين من أشرس ما يتعرض له الوطن الصغير؟ الجواب بكل بساطة أن الهدف من الحملة تكريس لبنان ساحة تمارس فيها كل أنواع الجرائم من دون حسيب أو رقيب. علي اللبنانيين أن يقبلوا بأنه لم يتغير شيء في بلدهم, وأن ليس أمامهم سوي الرضوخ للأمر الواقع, بما في ذلك تغطية حكومتهم للجرائم التي ارتكبت في حق العرب الشرفاء الذين رفضوا بكل بساطة أن يكونوا عملاء للخارج. ولذلك, توضع حاليا العراقيل في وجه تشكيل حكومة برئاسة زعيم الأكثرية النائب سعد الحريري نظرا إلي الحاجة إلي تغطية الجرائم. من الذي قتل رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما, من الذي قتل سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار أمين الجميل وأنطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد والنقيب سامر حنا, ما سبب محاولة اغتيال مروان حمادة والياس المر والزميلة مي شدياق والرائد سمير شحادة؟ كل ما في الأمر أن ما يجمع بين كل الشهداء, شهداء ثورة الأرز, بمن فيهم الشهداء الأحياء, أنهم أحرار. اغتيل كمال جنبلاط في عام 1977 لأنه حر. صار وليد جنبلاط مهضوما, حسب تعبير اللواء جميل السيد المدير السابق للأمن العام, عندما بدر عنه ما يشير إلي أنه لم يعد حرا وأنه علي استعداد لأن يأخذ في الاعتبار, في كل تصرفاته, أن سلاح حزب الله الإيراني موجه إلي صدور اللبنانيين وإلي صدور أبناء عشيرته علي وجه الخصوص. كل الشخصيات اللبنانية التي اغتيلت, من بشير الجميل إلي رينيه معوض مرورا بالمفتي حسن خالد, إنما اغتيلت لأنها شخصيات حرة أكدت في يوم ما وفي مرحلة ما أنها تمتلك حرية قرارها وأنها ترفض أن تكون رهينة لأحد.
الحرية في صلب الصيغة اللبنانية. المطلوب اليوم أن يفهم اللبنانيون أنهم ليسوا أحرارا. لذلك يستخدم النظامان السوري والإيراني سلاح حزب الله في خلق توازنات سياسية جديدة تقوم علي فكرة ضرب الحرية, أي ضرب الصيغة اللبنانية عن طريق السلاح. من يقبل بضرب الصيغة اللبنانية مثل النائب ميشال عون الذي لم يحصل علي مقعد في مجلس النواب إلا بفضل الأصوات الأرمنية والشيعية وأصوات المجنسين في كسروان, مجرد أداة في لعبة أكبر منه لا يعرف شيئا عنها, هذا إذا كان يعرف شيئا غير الاستقواء بالسلاح الميليشيوي. أنه قاصر عن ذلك, نظرا لأنه لا يعرف معني أن يكون الإنسان حرا. لا يمتلك النائب المحترم الذي لا هم له سوي تهجير مسيحيي لبنان من وطنهم سوي القدرة علي ممارسة لعبة تصب في خدمة الساعين إلي ضرب الصيغة اللبنانية. لذلك وقف في الماضي في وجه اتفاق الطائف ولذلك أمن دخول السوريين إلي قصر بعبدا, أي إلي مقر رئاسة الجمهورية, ووزارة الدفاع اللبنانية للمرة الأولي منذ الاستقلال في عام .1943
سينتصر لبنان. لن تكون هناك حكومة تقبل بتغطية الجرائم التي استهدفت الشرفاء حقا. المعركة صعبة بدون شك. لكن الطريقة التي يتحدث بها أولئك الذين يهاجمون المحكمة الدولية تكشف كم أن المحور الإيراني- السوري ضعيف. هذا المحور يحلم بانتصار برلين الشرقية علي برلين الغربية. حائط برلين انهار قبل عشرين عاما في نوفمبر .1989 النظام السوري نسخة طبق الأصل عن النظام الألماني الشرقي. يستطيع أن ينتصر في سورية إذا أحسن التصرف مع السوريين وفهم حاجات سورية وحدود دورها, لكن انتصاره علي لبنان من رابع المستحيلات… لا لشيء سوي لأن برلين الشرقية لا يمكن أن تنتصر علي برلين الغربية كون ذلك يخالف منطق التاريخ والتطور الحضاري!