علي الرغم من محاولة البعض التوقف عند المعاني والدلالات الأمريكية والعالمية لفوز أوباما, إلا أن الهموم الإقليمية سرعان ما هيمنت علي القراءة العربية ورتبت لدي منتجيها توجها نحو قصر اهتمامهم علي البحث في التداعيات المحتملة للحدث علي سياسات القوة العظمي في الشرق الأوسط. اللافت هنا هو التأرجح الجلي للكتاب والمعلقين العرب بين مقاربتين تنطوي أولاهما علي نزوع مبدئي نحو استبعاد حدوث تغيرات حقيقية في السياسات الأمريكية في حين تتسم الثانية بتفاؤل حذر بقدرة إدارة أوباما علي تطوير صياغة جديدة متوازنة لأدوار واشنطن الشرق أوسطية.
يستند المشككون في إمكانية التغيير إلي مقولات مألوفة في عالمنا لها بعض الصدقية التاريخية والسياسية, بيد أنها تدفع لديهم إلي حدود قصوي شديدة الاختزالية. وربما يتمثل أهم هذه المقولات في:
* للولايات المتحدة مصالح استراتيجية دائمة في المنطقة لا تتغير بتغير الإدارات وطواقمها وقناعاتها هي أمن إسرائيل وتأمين منابع النفط في الخليج.
* تضع هذه المصالح العديد من المحددات المانعة علي السياسات الأمريكية فلا تسمح لها بمراعاة الحقوق الفلسطينية وتحول بينها وبين قبول تخفيض معدلات الوجود العسكري في الخليج أو الانفتاح الجدي علي دول كإيران وسورية وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان.
* ليس أوباما سوي ابن المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة الحاملة لهذه المصالح, ومن ثم فإن إمكانية انقلابه عليها لا تعدو أن تكون سرابا.
* وربما كانت هذه المقولة هي الأسوأ أخلاقيا والأكثر خطأ سياسيا, يسيطر أصدقاء إسرائيل من اليهود الأمريكيين (رام إيمانويل) وغيرهم (جوزيف بايدن) علي المواقع الحساسة في إدارة أوباما شأنها في ذلك شأن جل الإدارات السابقة, الأمر الذي يعني عمليا أنه لا فكاك من السياسات الراهنة التي تستجيب للمصالح الإسرائيلية.
نعم للولايات المتحدة مصالح ثابتة في الشرق الأوسط, إلا أن افتراض أن هذه المصالح ترتب دوما تبني واشنطن للسياسات نفسها هو بمثابة العبث التحليلي والاختزالية الأيديولوجية الفارغة المعني والمضمون. وواقع الأمر أن تاريخ السياسات والممارسات الأمريكية تجاه ملفات المنطقة الرئيسية إنما يظهر ذلك بجلاء. ألم تتأرجح القوة العظمي وما زالت فيما يخص أمن إسرائيل بين فترات من التأييد الاستراتيجي والدعم العسكري غير المحدود للدولة العبرية وفترات أخري أو علي الأقل لحظات ممتدة تميزت بمقاربات دبلوماسية أقل حدة رامت البحث عن حلول تفاوضية؟ ألم يتم خلال العقود الماضية تنزيل المصلحة الأمريكية في تأمين منابع النفط في الخليج سياسيا في سياقين مختلفين, أحدهما يعول علي تحالفات استراتيجية مع منطقة الخليج ودبلوماسية احتوائية لدرء أخطار حالة متصورة لأطراف إقليمية بعينها, في حين انتظم الآخر في ظل توظيف مباشر ومكثف للقوة العسكرية؟.
أما القول إن أوباما هو نتاج مؤسسة الحكم المهيمنة في واشنطن ولا يملك القدرة أو الرغبة في الانقلاب الجذري علي اختياراتها الأساسية وخطوطها الحمر فهو علي صحته يحول. دون إدراك مساحات التنوع الفعلية في توجهات ومواقف أطراف مؤسسة الحكم الأمريكية وماكنة الحركة بين تلك المساحات المتاحة لكل إدارة جديدة. ثم لماذا نرفض الاعتراف بأن آليات التصحيح الذاتي التي تتمتع بها الديموقراطية الأمريكية وتجلت بفاعلية في انتخاب أوباما رئيسا قد يكون لها بعض التداعيات علي صناعة السياسة الخارجية وربما أطلقت عملية إعادة نظر في سياسات ثبت أنها أضرت بالمصالح الأمريكية؟.
أما القراءة العربية المتفائلة بحذر فخيطها الناظم يتمثل من جهة في مكونات النقد السابق لاستبعاد إمكانية التغيير, ومن جهة أخري في التسليم بأنه من العسير علي أي إدارة أمريكية جديدة أن تفوق إداراتي بوش الأولي والثانية سوءا. بيد أن المتفائلين بحذر, وأنا منهم, أخفقوا في صياغة خطاب مقنع تترجم بين ثناياه التوقعات المتفائلة إلي تحليل واضح المعالم لحدود وأولويات التغيرات المحتملة. توجه البعض منا بما يشبه العرائض المطلبية إلي الإدارة الجديدة دامجا مركزية الانسحاب العسكري من العراق وإيقاف حرب بوش علي الإرهاب مع حل القضية الفلسطينية وتجديد دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي, متناسيا أنه في حين أن العراق والإرهاب يشكلان بالفعل أولويات تغييرية لأوباما, فإن قضية فلسطين ومسألة الديموقراطية لا تستحوذان علي اهتمام كبير. البعض الآخر تجاهل الربط بين مطلب التغيير والسياق الزمني المتوقع لتحرك إدارة أوباما وصياغتها للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وتراتبيه أولوياتها. فالمؤكد أن أوباما, وأمامه لائحة طويلة من الأزمات الداخلية والعالمية, سيركز في الأعوام الأولي علي التعاطي مع ملفات العراق وإيران والإرهاب الملحة قبل أن يجد من الوقت والطاقة المؤسسية ما يمكنه من التفكير في إعادة صياغة المرتكزات الأخري للسياسة الأمريكية. أخيرا وباستثناءات قليلة العدد, لم يلتفت دعاة التفاؤل الحذر إلي المعضلات الحقيقية التي حالت دون فاعلية سياسة دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان التي رفعت لواءها إدارة بوش, وأهمها الموقف الأمريكي من نخب الحكم الأوتوقراطية في العالم العربي المتحالفة مع القوة العظمي, وكذلك قراءتها لأدوار حركات المعارضة الإسلامية العنفية وغير العنفية والتحديات التي تمثلها اليوم وغدا للمصالح الأمريكية.
باحث بمعهد كارنيجي للسلام