من منا يملك يومه؟ من منا يعلم كيف يكون الغد وأين تحط بنا الأقدار؟ من يتمكن أن يحصي خلايا القلب النابض بالأفراح أو الأحزان؟ من يتحلي بوهم كمال مطلق؟ كل منا يسعي في هذا الكون إلي المجهول مدفوعا بطموحه تارة وبطمعه تارة, ولكن أن ينسي الأبناء ذويهم وسط السعي فلتسقط كل الطموحات ولتبقي صلة الدم..
في شجن غلفه الخجل قصت علي ما فعله الطموح أو لنقل الطمع في أبنائها… تفاصيل تجاعيد ملامحها روت عنها ما لم تروه… وخلف كل خط حفره الزمن علي وجهها العجوز وقفت قصة ملؤها الوجع. وهي تروي وتقول أنا سيدة في السابعة والستين… تزوجت وعشت حياة ملؤها السعادة التي أدخلها علي وجود أبنائي…. إذ أنني أنجبت ثلاثة أبناء… كانت أحوالنا المادية عادية مستورة وتسير الحياة علي كل الأحوال… وتعلم الأبناء ليس فقط العلم المكدس بالكتب… لكنهم أيضا تعلموا قانون الحياة وكيف تفرض علينا اختياراتنا… تعلموا أن في سعادتهم اختياراتهم الأولي وأن المصلحة هي الأولوية الساحقة علي كل الأولويات حتي علي صلة الدم… ورعاية الأم… واختاروا واحدا تلو الآخر حياته… وتقدم الابن الأكبر بطلب هجرة شاءت الأقدار تمكينه من طلبه سريعا… تركني ولدي وهاجر وكان عزائي في أخويه ووالده يخففون عني ما أعانيه من ألم الفراق… بعد فترة وجيزة رحل زوجي عن عالمنا وتحديدا في عام …2001 ولم يتبق لي سوي الابنين… ومن آن لآخر كانت تنتابني مشاعر سلبية بأنني وحيدة وسأحيا وحيدة وأموت وحيدة… ويبدو أن مشاعري صدقت فبعد فترة من وفاة أبيهما فوجئت أن كل منهما قدم علي هجرة إلي الخارج دون علمي ودون علم أخيه حتي أن كل ابن من أبنائي يقيم الآن في بلد مختلف عن أخيه… وهاجرا واحدا تلو الآخر… وصرت أنا الوحيدة هنا.
لم يفكر أحد في اصطحابي إلي البلد الذي يحيا فيه… صمت صمت المصدومة وليس صمت الرضا كما تصور البعض… لكنني بقلب الأم دعوت لهم بالتوفيق… ذاك التوفيق الذي أرسلوا جميعهم علي اختلاف أماكنهم أنه لم يحالفهم بعد… وخابت آمالهم في الهجرة… سنوات مرت وأنا أنتظر قدومهم ولا يأتون… أمكث ساعات طويلة إلي جوار الهاتف وكلما دق يرف قلبي ربما يكون أحدهم… ولكن دون جدوي… فقدوا ذاكرتهم ونسوني… نسوا البطن التي حملت والثدي الذي أرضع… والعين التي حفظت… إنها دوامة الحياة التي انخرطوا فيها ربما خشوا أن أطلب منهم عونا ماديا… ربما مشغولون ربما وربما وربما…
كان علي أن أملأ الفراغ الذي تركه الأبناء الثلاثة فوجهت اهتمامي إلي أخي الذي كان أرملا وحيدا مثلي, كنت أخدمه وأزوره يوميا ولم أكن لا أنا ولا هو في احتياج مادي لأحد فمعاشي من زوجي يكفيني… وذات صباح دق جرس الهاتف ليبلغني شخص ما أن أخي بالمستشفي علي إثر حادث سيارة ونقله المارة في الشارع إلي أقرب مستشفي… وكان أحد المستشفيات الاستثمارية لسوء الحظ… أجروا له جراحتين تكلفتا عشرة آلاف جنيه… ولكن ماذا أفعل؟!… هل أنقل أخي إلي مستشفي عام فحالته لم تكن تسمح ودعوت الله أن يوجد لي حلا… في اليوم السابع المقرر له الخروج من المستشفي… أصيب بنزيف شرجي حاد… شخصه الأطباء أنه نزيف من المعدة… وبدأت معركة الاستنزاف ما بين أشعات وتحاليل وفحوص لا حصر لها… حتي تضخمت الفاتورة ووصلت إلي 52 ألف جنيه… اقترضت من طوب الأرض حتي أضمن له الحياة فليس لي سواه… تلك الحياة التي استمرت ثمانية أيام فقط من بدء النزيف… أصابتني حالة من الذهول… ما هذا الذي يحل بي!! وكلما أفقت من صدمة تلفحني نار الأخري… وما أن فقت من مراسم العزاء حتي وجدتني بين سيل من الديون التي كبلت نفسي بها… بعت كل ما أملكه من مصوغات ذهبية وغيرها من الأشياء التي يمكن أن تباع…. لكنها لم تأت إلا بأقل من نصف المبلغ… وسددت عشرين ألف جنيه… ذهبت إلي الكنيسة التي أتبعها فساعدوني بخمسة آلاف جنيه… وتبقي 27 ألف جنيه موزعة بين الجيران والمعارف… حاولت الوصول لأولادي ولا أمل فحتي عناوينهم وتليفوناتهم بخلوا علي بها… أحلف بربي وبضيقتي أني ما أعرف لأولادي طريقا علشان يساعدوني.
شيخوختي ووحدتي وتراكم الديون علي كاهلي لم يشفعوا لي أمام أحد حتي أنني بت لا أجد القوت اليومي فكل ما أحصل عليه من معاش أسدد به أجزاء بسيطة من الدين ولا تكفي فبعض الناس طالبتني بفوائد لديونها وصرت أدور في حلقة مفرغة لا تنتهي ولا أعلم متي أستريح من كل ما أحمله فوق أكتافي من عبء وأنا في هذه السن التي يخلد فيها أمثالي إلي الراحة وليس الشقاء… فهل من منقذ لراحتي بعد أن سدت أمامي كل السبل؟.
لصاحبة هذه المشكلة أقول:
كم أنت صلبة يا سيدتي… وكم هو رائع صمودك وسط كل ما مررت به من محن… فأقسي ما يمكن أن يتعس الأم هو فراق أبنائها… ولا أعلم كيف احتملت هذا الألم حتي الآن… ولا أعلم كيف ملك الثلاثة ذات الجرأة في التخلي عنك… ورغم ذلك تلتمسين لهم العذر وتقولين رضخوا لقانون الحياة… لكن قانون الحياة الذي تتحدثين عنه لم يمنع الكثير من الأبناء من مراعاة أمهاتهم والسؤال عنهن… لم يمنع كل من هاجروا من ترك عناوينهم وتليفوناتهم لذويهم… لم يقطع صلة الدم التي عاشوا عليها سنوات الصبا والشباب… فإذا كان طموحهم أقوي من صوت البنوة بل ومن صوت الضمير فبئس الطموح… إنه الطموح الملعون الذي يدمر كل ما هو باقي ليحصل علي كل ما هو زائل… والعجيب أنهم لا يحاولون الاطمئنان عليك.
ربما ما ننشره اليوم يكون ناقوسا يهز قلوبهم… ربما تقع أعينهم علي هذه السطور فيتذكرون يوما حنوك عليهم أو ليلا سهرتي لرعايتهم فيه… فترق مشاعر أحدهم تجاهك… وربما لا يقرأون أو يقرأون ولا يفهمون… أو يفهمون ولا يختارون… بعد أن تبلدت أحاسيسهم ببرودة الغربة وغطتها ثلوج البعد سنوات طوال… أخشي أن أمنحك أملا لا أملك منه شيئا فدعي الأيام تفصح عما تحمله ولنري ما هم فاعلون… فإن فعلوا فأنا علي يقين أن غفران الأمومة حاضر لديك… وإن لم يفعلوا فالفاعلون كثيرون فليطمئن قلبك.
رجع الصدي: تبرعت شابة صيدلانية بعدد من عبوات دواء ستارترا المطلوب لحالة الربيع العاجز المنشور عنها منذ أكثر من شهرين… آملة أن تتمكن من الحصول علي عبوات أخري من الدواء في القريب العاجل… وإذ يشكر باب افتح قلبك مشاركتها الكريمة وجميع المشاركات التي تسهم في رسم الابتسامة علي شفاه المحرومين والمكلومين والمتعبين.