تابعت كما تابع المصريون جميعا حريق مبنى المجمع العلمى المصرى بشارع مجلس الشعب وأدركت الخسارة الفادحة التى أصابت مصر بفقد جزء مهم من تراثها . ولكن عندما علمت أن الكتب والمخطوطات التى تم إنقاذها قد نقلت إلى دار الكتب والوثائق القومية على كورنيش النيل بالقاهرة ، هرعت إلى الدار لأتعرف على الوضع ولأنقضى تاريخ المجمع العلمى .
زيارة دار الكتب ليست تجربة غريبة على ، فطالما توجهت إليها للحصول على المعلومات وللاطلاع . ولكن هذه المرة المشهد كان مختلف حيث رأيت مجموعة كثيرة من الشباب المتطوعين شباب وشابات فى أعمار مختلفة يرتدون بلاطى بيضاء ، ومتجمعون بالقرب من بوابة فرعية للدار فى الداخل ، أما خارجاً فكانت هناك سيارة نصف نقل قد انتهى المحيطين بها من إنزال عنها صناديق ممتلئة بالكتب والوثائق المحترقة إلى حد كبير بالطبع لم تحترق كاملة لكنها فى حالة سيئة للغاية ، وكان يحيط البوابة العديد من ضباط القوات المسلحة ، وكانت عمليات جلب المتبقى من الكتب مستمرة لا تتوقف ، ودون أن أدرى وجدت نفسى فى الداخل أتحدث مع الموجودين والكل يجيب على اسئلتى بكل ترحاب ، ونظراً لوجود أعداد كبيرة من فريق العمل سواء من الباحثين المتخصصين أو المتطوعين ، فقد كان الجميع يعملون ، البعض يشترك فى استقبال وتلقى دفعات الصناديق المحملة بالكتب والقصاصات ، وكانت رائحة الورق المحروق تملئ المكان ، حيث كانت الطرقات الداخلية مفترشة بباقيا الكتب المبللة بمياه الأطفاء ، وفى اليمين من يقوم بعمليات فرز لمحتويات الصناديق ، وفى اليسار من يقوم بنشر الكتب والوثائق بشكل مرتب تحت إشاعة الشمس .
ومن الذين تحدثت معهم هيثم عثمان أحد المتطوعين فى أعمال الترميم ، حيث أنه دارس لهذا التخصص وقام بسرد لى مراحل العمل التى تبدأ بفصل الكتب لتنشفتها مروراً بمرحلة التعقيم والشفط ، ومن ثم القيام بترميمها ، مؤكدا أن ماحدث إهانة للتاريخ ، لكنه فى نفس الوقت أشار إلى جهود التعاون سواء من جانب الجامعة الامريكية وبعض الهيئات الأخرى أو من جانب المتطوعين الأفراد كجانب إيجابى فى كل ماحدث .
ومن الذين التقيت بهم أيضا داليا نبيل متخصصة فى ترميم الآثار وضمن فريق العمل المتطوع حيث قالت : بعد إشتعال المجمع العلمى تجمع العديد من الأشخاص والشباب لإنقاذ مايمكن إنقاذه من هذا التراث ، لكن كان بشكل يتسم إلى حد ما بالعشوائية ، وهذا يرجع لضعف إدارتنا للأزمات ، لكن يوجد بيننا خبرات مصرية ودولية من جانب اليونسكو . واضافت قائلة : جزء كبير من المشكلة يتمثل فى غياب الوعى الثقافى ، فلا أحد من المتسببين فى الكارثة يعلم أى قيمة لذلك المكان وما يحتويه من تراث علمى لا يقدر بثمن كما تحدثت مع ناصر الكلاوى مدير المتابعة الفنية بالمجلس الأعلى للآثار الذى أبدى أسفه الشديد فيما حدث قائلاً : ماحدث كارثة بكل المقاييس ، فهذه البلد لا تتقدم إلا بالعلم والعمل ، وليس بتدمير التراث العلمى ، فكتاب وصف مصر يمثل نسخة نادرة احتوت على نتائج ثلاث سنوات تخص كافة نواحى العيادة فى مصر خلال حملة بونابرت ، مؤكداً على ضرورة تسجيل كافة التراث العلمى والفنى والإنسانى الكترونيا بجانب الأصل الورقى ، خاصة كل المكتبات والمعاهد التى تحتوى على كتب ووثائق ودوريات نادرة مثل مكتبة الدومينيكان والمراكز الوثائقية بالمعهد الفرنسى كما أشار لاهمية استخدام أنظمة الأطفاء الحديثة وإجراء تجربة الحريق بشكل دورى ، كما طالب بأهمية الأخذ بنموذج دار الكتب والوثائق القومية ، سواء من ناحية الأستفادة من التطبيقات الالكترونية المنسوخة من الأصول وإتاحتها للجميع . أو من الناحية التأمينية لكل مقتنياتها .
ثم جاء اللقاء الأخير فى هذا الموقع مع كامل عبد الله باحث الترميم بدار الكتب والوثائق القومية : الذى أكد أن هذه الكتب كانت عبارة موسوعات علمية تاريخية سوف تحرم منها الأجيال والاحفاد القادمة ، هذا الباحث الجم ارتسمت على وجهه ملامح الحزن والحسرة على بقايا الكتب التى كانت تملئ كل الطرقات حتى الحديقة الملحقة للدار ، ثم أخذنى إلى الداخل ، حتى وجت نفسى أتجول بين العديد من الأرفف الممتلئة من الكتب التى طالها أثر الحريق بالإضافة إلى المياه نتيجة أعمال الأطفاء ، ثم أخذ يطالعنى على أشلاء كتب ووثائق المجمع العلمى المحترقة ، ومن بينها الاوراق الخاصة بموسوعة وصف مصر التى طالتها النيران قبل أن تتشبع بالمياه ، وكانت مفاجأة لى أن أرى هذه الموسوعة الفريدة التى كتبت باللغة الفرنسية ، وهى عبارة عن سلاسل متناسرة من أوراق المخطوط فى قطع كبير للغاية ، مثلما تعودت على رؤية المجلدات الضخمة لإعداد الصحف السنوية وغيرها ، وكان المكان يشبه غرفة العمليات (أى عمليات الترميم) التى ينتظر بها المريض لحين إجراء العديد من العمليات له . إذا كان المكان ممتلئ بالارفف المقسمة إلى أقسام واجزاء والتى كانت تتضمن جميعها أجزاء الكتب والوثائق والدوريات والخرائط فى إنتظار إجراء كافة مراحل الترميم . كما أكد لى كامل عبد الله أنه سوف يتم إزالة الرطوبة من أثار المياه أولاً : ثم الدخول فى مرحلة إزالة أثار الدخان والرماض ، حتى تصبح جاهزة للتعقيم من الفطريات ، وتم ترميم الكتب التى تم تجميعها بالكامل . أما القصاصات فيتم تصنيفها على حسب الموضوع لمحاولة الوصول لعنوان الكتاب حتى يتم إضافته وتجميعه من جديد . وعندما سألته عن التكلفة الأقتصادية لهذه العمليات : قال إنها باهظة لكنها لاشئ بالنسبة لإنقاذ هذه الكنوز .
ثم قررت أخيرا الصعود إلى الدار كما تعودت من قبل أن أذهب إليها ، لكن هذه المرة رغبة فى مطالعة أى كتاب أو دورية قديمة تتحدث عن تاريخ إنشاء المجمع العلمى ، وعندما صاعدت إلى الطابق الخامس لقسم الكتب ، دخلت أولاً مكتبة “نوبل” ققابلنى المسئولة بكل ترحاب وأخذت تبحث معى عن عنوان يقربنى للموضوع لكنها لم تجد ، ونصحتنى بأن اتجه لقسم الدوريات فى الطابق الثانى لعلى أجد شئ مكتوب عن المجمع العلمى ، وبالفعل نزلت إلى القسم وتحدثت مع القائمين عليه لكن دون جدوى ، وسريعا دخلت إلى الانترنت لعلى أجد دليل ، فقط لم أجد سوى موقع “ويكيبديا” وما كتبته الصحف اليومية كمجرد تغطية للحدث المؤسف مطعمة ببعض الخلفيات التاريخية المؤهلة فقط . ومن المكان الذى كنت فيه رأيت من النافذه مجموعة من أعضاء الفريق الذين تركتهم يقومون برص مجموعة اخرى كبيرة من الكتب والوثائق على سطح مجاور لنفس مبنى دار الكتب ، لكن كانت هذه المجموعة فى حالة أفضل من كل الكتب التى رأيتها . وعلم أحد الموجودين أننى أبحث عن تاريخ مكتوب للمجمع العلمى ، فأسرع قائلاً يمكنك البحث عن” مجلة المجمع العلمى ” لعلك تجد فيها شيئا من التفصيل . هذا الشخص هو د. حسام عبد الظاهر الباحث بمركز تحقيق التراث بدار الكتب ، الذى نصحنى بالرجوع إما إلى المعهد الفرنسى أو إلى مكتبة الدومينيكان كمصدرين وحيدين لوجود تاريخ مكتوب وموثق عن المجمع العلمى.
—
س.س