في عالم صارت فيه الآلام والأوجاع من أهم سماته…تحتاج البشرية إلي الرجاء والأمل في حياة تهزم الموت وتغلب الألم وتشرق بالأمل…وتمنح السلام للنفوس المتعبة عبر رحلة الحياة علي سطح الكرة الأرضية.
ولهذا جاء استلهام الفنانين ليعبر بقوة في عيد الصليب عن حب رب المجد لخليقته من خلال الآية الرائعة التي تمنحنا هذا الرجاءلأنه هكذا أحب الله العالم حتي بذل ابنه الوحيد,لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية(يوحنا3:16).
ويعد تذكار الاحتفال بالصليب المقدس(وله عيدين),من أجمل الاحتفالات الكنسية,والتي يظهر صدق تأثر الفنانين بها من خلال أعمالهم الإبداعية.
تحتفل الكنيسة في 17توت(27سبتمبر),بتذكار تكريس كنيسة الصليب التي شيدتها الملكة القديسةهيلانةوالدة الإمبراطورقسطنطين…بعد أن نجحت في العثور علي صليب السيد المسيح-له المجد-من تحت كوم الجلجثة(والأتربة)(وكان يوجد ثلاثة صلبان)اثنان للصين الأيمن والأيسر.. ولكي يمكنها اكتشاف الصليب الحقيقي لرب المجد,تم وضع شخص ميت فوقه…ففي الحال قام من الموت…وكان ذلك في عام326ميلادية.
أما العيد الثاني في10برمهات…فهو تذكار لاستعادة الإمبراطور هرقلملك الروم لقطعة مسروقة من الصليب ولقيامه بإعادتها إلي مدينة القسطنطينية في عام628 ميلادية.
وعبر أزمان عديدة وقرون مختلفة تنوعت براعة الفنانين في إظهار أحداث الصليب من خلال تأثيره المقدس في إبداع كل منهم ووجدانه…
تراثية المخطوط
يمثل الصليب الأول تراثية أثرية من مخطوط رق,يرجع تاريخه إلي القرن التاسع الميلادي(عام823 ميلادية)…وقد عثر عليه في الصفحة الأول من سفر أشعياء النبي,وهومرسوم بدقة بالغة وألوان متناغمة…عبارة عن وحدات صلبان صغيرة يتوسطها الصليب الرئيسي في تناسق بديع,وفي أعلي جانبية كتبت الأحرف القبطية التي تمثل اختصار اسميسوع المسيح IHC , CPC.أما أسفل جانبيه فمرسوم طاووسين يتجه كل منهما إلي الصليب ناظرا إليهأعين الكل تترجاه…حيث يشير الطاووس إلي الحياة الأبدية(في الفن المسيحي)(كما تروي بعض الأساطير أن لحم الطاووس لا يفسد)…وفي هذا رمزية رائعة فنحن نتجه إلي الصليب الذي ينقذنا من الموت الدنيوي وينقلنا إلي الحياة الأبدية السمائية المستقبلية.أما النقوش التي يحملها ذيل الطاووس والتي تبدو كمئات الأعين-فهي ترمز إلي عين الله الساهرة عليناعيني عليكم من أول السنة إلي آخرها.كما تخرج أربعة إشعاعات من أركان الصليب وهي ترمز إلي البشائر الأربع وانتشار كلمة الله في أرجاء المسكونة.وهذا المخطوط يوجد حاليا بالمتحف القبطي…ويعد تحفة فنية رائعة بالإضافة إلي قيمته الأثرية والتراثية والروحية والرمزية.
صليب المعجزات:
ويطلق علي هذا الصليب البديعصليب المعجزات ذو الشفاه المتحركة…وهو صليب أثري ويرجح أن تاريخه يرجع إلي القرن الثالث عشرالميلادي,حيث يروي التاريخ أن الراهب فرنسيسالإيطالي كان يمر أمام كنيسة القديسدميانعندما شعر بقوة عجيبة تدفعه إلي دخول هذه الكنيسة,وعندما وقف يصلي أمام هذا الصليب…تحركت فجأة شفاه السيد المسيح(المصلوب) وقالت له:اذهب يا فرنسيس واصلح بناء كنيستي لأنها قد تعرضت للتخريبوبالفعل أطاع القديس فرنسيس الأمر.
ويعد هذا الصليب من الأعمال الإبداعية شديدة التميز حيث يتصدر الرب يسوع الصليب كله بحجم عملاق( يرمز إلي وجوده الأزلي ولاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين),وبجوار كل يد يوجد كل من القديسة العذراء والدة الإله والقديس يوحنا الإنجيلي بحجم صغير جدا…وأسفل اليدين يحيط به المريماتوكانت واقفات عند الصليب,وكذلك القديس يوحنا الإنجيلي(المرائي),وبجوارهم قائد المائةالذي مجد الله قائلا:بالحقيقة هذا إنسان بار(لوقا23:47)..
كما يوجد بحجم متناهي الصغر علي الجانبين أسفل هذه الشخوص جنديين (يرمزان إلي مدن سقاه بالاسفنجة الممزوجة بالخل ومن طعنه بالحربة في جنبه)…وفي أعلي تكوين الصليب يوجد بحجم صغير(ربما لضيق المساحة) السيد المسيح المنتصر القائم من الأموات(بذاته),وهو يتوسط الدائرة التي ترمز إلي أنه أزلي أبدي…بينما لونها الأحمر يشير إلي الملوكية والفداء والقيامة من الأموات والانتصار علي الموت…وحوله عشرة تلاميذ فقط (لأن يهوذا قد هلك,بينما القديس يوحنا الإنجيلي يظهر بجوار يديه).
كما يوجد أربعة ملائكة (علي اليمين واليسار)ويرمز هذا الرقم للجهات الكونية الأربع وللبشائر الأربعة حيث يشير لانتشار كلمة الله في العالم.ويلاحظ استخدام الفنانين بكثرة لهذا الرقم المقدس.نجح الفنان في إبداعه للتشكيل الفني للصليب والذي يحكي جانبا مهما من أحداث الصلب بدقة متناهية ورمزية عالية تحرك المشاعر بعظمة الحب الإلهي.
بانوراما الحب الإلهي
من أبرز الفنانين الذين قدموا الأعمال الإبداعية عن الصليب,اثنين من أوائل رواد فن الأيقونة القبطية,وصلا إلي العالمية…وهما المبدعان د.يوسف نصيف وشريكة حياته د.بدور لطيف.
قدم د.يوسف ود.بدور أيقونة طقسية رائعة استقت أحداثها من الكتاب المقدس-المصدر الرئيسي لاستلهام فناني التراث القبطي-حيث جاء تركيزها علي تنويعات بانورامية للحدث العظيم…
تصدر التكوين الرئيسي للأيقونة السيد المسيح المصلوب وفي خلفية الأيقونة يظهر حجاب الهيكل وقد انشق من وسطه متخذا شكل المثلث -هندسيا-ليرمز إلي عقديتنا الأرثوذكسية(الثالوث المقدس) بالإضافة إلي تشكيلة كما لو كان شعاعا يصل إلي السماء ليشير إلي أن الفداء عن طريق الصليب هو وسيلتنا الوحيدة لطريق السماء….أما الألوان القائمة علي جانبي الأيقونة فتظهر حزن الطبيعةكانت ظلمة علي الأرض كلها..وأظلمت الشمس والأرض تزلزلت والصخور تشققت…وأسفل الصليب تظهر القديسة العذراء والقديس يوحنا الإنجيلي وبحجم صغير الجنديين(بالاسفنجة والحربة)…وعلي جانبيه اللصين…أما أروع ما في الأيقونة فهو لغة العيون التي نجحا يوسف وبدور في توظيفها لأحداث لحظة صدق بالغة العمق حيث تتحدث عيون السيد المسيح في عتاب برقة بالغة إلي البشرية وإصرار علي بذل الذات حتي الموت موت الصليب وامتزجت نظرته المقدسة بحب عجيب للبشر وفرحة بالغة لإيمان اللص اليمين وانضمامه معه إلي الفردوس حتي وإن كان في لحظاته الأخيرة.
وتشير الجمجمة إلي الموضع الذي صلب فيه السيد المسيح(جلجثة) باللغة العبرانية وكذلك الدم الذي يسيل من قدمي السيد المسيح الطاهرتين يرمز إلي أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (الشيطان).وأيضادم المسيح يطهرنا من كل خطية,برغم من استخدام الفنانين المبدعين د.يوسف ود.بدور للألوان المائلة للقتامة.. إلا أن الثراء التكويني في الأيقونة قد نجح في التركيز علي الفكرة الرئيسية حيث يتوسط الأيقونة السيد المسيح المصلوب فاتحا ذراعيه بكل الحب ليحتضن البشرية كلها بخطاياها وآلامها ليفديها ويخلصها..فقدما بانوراما الحب الإلهي الذي يطمئننا بقول السيد المسيح لنا:سأراكم…فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكموأيضا:إن آلام هذا الزمان الحاضرلا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا…