يتوافق يوم 11 ديسمبر مع ذكري ميلاد الأديب المصري العالمي الراحل الأستاذ نجيب محفوظ, الذي ولد في 11 ديسمبر من عام .1911
ويحضرني في هذا المجال أن الدكتورة ليلي فريد كانت قد أفردت في كتابـها ##الروح مصرية … لمحات لمصرية مهاجرة## الفصل الأول بأكمله من هذا الكتاب عن هذا الكاتب والروائي الكبير, وجاء هذا الفصل تحت عنوان ( في محبته) , وشمل ستة أبواب, بدأتها في الباب الأول بتوجيه التحية لـه في عيد ميلاده التسعين, ومتمنية له الصحة وطول العمر وبأن يدوم لنا, يجمل الحياة بوجوده فيها .
في بقية الأبواب الأخري من الفصل الأول, وأيضا عن نجيب محفوظ , كشفت لنا الكاتبة – التي تغلغلت الروح المصرية في أعماقها هي أيضا – عن المشاعر الإنسانية التي تفيض وتسيطر علي فكره وعقله ومشاعره ووجدانه وبخاصة نحو الشخصية المصرية بكل أنماطها بما فيها الشخصيات غير السوية مثل شخصية سعيد مهران في اللص والكلاب , وشخصية ريري في السمان والخريف , وحميدة في زقاق المدق , ونفيسة في بداية ونهاية .
وكان وصف الدكتورة ليلي فريد لأسلوب نجيب محفوظ المتعاطف مع هذه الشخصيات والذي تناول به الأبعاد الإنسانية فيها في المقام الأول, ومن خلال معالجته لها بالكشف عما يدور في أعماقها من صراعات نفسية واجتماعية, بل ودينية أيضا , بأنه كما لو كان يريد به أن ينبهنـا ويذكـرنا بقـول السيد المسيح: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر .
وتستطرد في الحديث عن نجيب محفوظ قائلة بأنه لم يكن كاتبا وأديبا ومفكرا فقط, ولكنه كان مصلحا اجتماعيا أيضا , ذلك لأنه إنسان بالدرجة الأولي , مرهف الحس والوجدان, يحمل في جوانحه كل تلك المعاني التي تتغلغل في أعماق فكره والتي صاغها في رواياته العديدة , وذلك في أسلوب رشيق ورقيق وعميق .
في الباب الرابع من فصل ( في محبته ), وهذا الباب عن أساتذة نجيب محفوظ الذين كتب عنهم مشيدا بهم ومعترفا ومدينا لهم بالفضل في تشكيل فكره ووجدانه, كتبت الدكتورة ليلي تشكره علي كلماته عن أساتذته قائلة: هذه الكلمات التي حملت لنا الذكري العطرة للرموز التي أنارت حياتنا في النصف الأول من القرن العشرين, ولايزال التراث الخالد الذي تركته لنا هو الملجأ والملاذ عندما يخفت الضياء ويكفهر وجه الحياة .
وفي الباب السادس والأخير, وتحت عنوان ( لست وحدك ) تستكمل الدكتورة ليلي فريد كتابتها عن الراحل الكبير نجيب محفوظ في مرثية وداعية يشوبها الحزن والألم علي رحيله وتتساءل قائلة: __ سبحان الله ! ما كنه هذا الإنسان ؟ وما هو هذا السر الذي أودعه الله فيه وحباه به لتجتمع حوله القلوب بهذا الحب الخالص المنزه عن أي غرض؟! كما تقارن بين وجود نجيب محفوظ ووجود الأهرامات التي تشعرنا بأننا لم نخطئ المكان, وبأننا ما زلنا في أرض أجدادنا العظام , وبأن الشخصية المصرية الأصيلة لم تندثر تماما .
وهنا أجدني أتفق تماما مع الكاتبة وأقول نعم يا سيدتي , كلنا كنا نتمني أن يظل بيننا, وموجود معنا , نستمتع بروائعه الأدبية واحدة بعد الأخري , يثري الشخصية المصرية بكل ما هو نبيل من القيم والأخلاق من خلال عقله الذي يشع بالاستنارة والإيمان بالعلم , ورافضا للجمود والتخلف, وبقلبه الذي تطهر من الأحقاد والأطماع الدنيوية وبترفعه عن الصغائر , وبإحساسه وباستشعاره للتغييرات المدمرة التي تهدد مصر وشعبها .
فلقد عشت أنا في فترات الزمن الراقي الهادئ الجميل, زمن إعمال العقل الواعي والمتحضر, زمن فرسان الكلمة وأساتذة الأدب والفكر المتنور, زمن الأيام, والمعذبون في الأرض, ودعاء الكروان, وحديث الأربعاء مع الدكتور طه حسين, زمن عبقريات عباس محمود العقاد, وزمن أهل الكهف, وعودة الروح, وحمـار الحكيم مع توفيق الحكيم, زمن الصالونات والندوات الأدبية مع كبار المفكرين والأدباء والشعراء, وزمن لغتنا الجميلة مع فاروق شوشة.
عاصرت زمن شمس الأصيل وذكريات أم كلثوم وأحمد رامي ورياض السنباطي وعشت زمن الكرنك والجندول والصبا والجمال مع محمد عبد الوهاب, بل وكنت أحس برقة النسيم عندما غنت ليلي مراد _ ياما أرق النسيم _ !!, عشت مع هؤلاء وغيرهم ممن أثروا ساحة الفن الراقي بأعمالهم وإبداعاتهم الجادة والراقية التي حددت إطار ومعالم ورموز هذا الزمن الذي مضي وولي وراح !!.
نجيب محفوظ .. الإنسان والأديب , كان أيضا أحد هذه المعالم , كما كان رمزا للفكر الراقي المتفرد والمتميز .
ولكم كنت أحد المحظوظين الذين أسعدتهم الظروف بأن يتقابل ويتكلم ويستمع للكاتب والروائي الكبير الأستاذ نجيب محفوظ عندما لمحته جالسا في الدور العلوي ( بكافيتريا علي بابا ) التي كانت تقع في ميدان التحرير, وكان ذلك في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين, أي منذ أكثر من ربع قرن, لقاء عابر بدون أية مقدمات أو ترتيب حيث إنه لم تكن هناك أية سابق معرفة شخصية مباشرة بيني وبينه , لقاء بين أي اثنين تجمعهما مساحة أرض صغيرة في كافيتريا تعج بالمئات من الرواد, كان يجلس يحتسي فنجانا من القهوة التركي – ربما كان الفنجان الثالث أو الرابع منذ أن وقعت عيناي عليه ؟ – فتجاسرت وتقدمت نحوه في الركن الذي كان يجلس فيه بمفرده, ولشدة دهشتي وجدته هو الذي يبدأ بأن يمد يده لكي يصافحني, وبكل الكياسة والذوق وسمو ورفعة الأخلاق , وبقمة الأسلوب الحضاري والمتواضع في الوقت ذاته, وجدته هو الذي يبدأ بأن يقدم نفسه لي وهو يبتسم : أنا نجيب محفوظ …. وحضرتك؟!! .
وجدتني أقدم نفسي بصوت مضطرب وخافض, وعندما لاحظ اضطرابي الذي كان من الطبيعي أن يحدث لأي فرد عادي يتقابل ويتكلم مع شخصية في قامة نجيب محفوظ؟ وجدته وبكل بساطة وتواضع, وبابتسامة أخري عريضة ومشجعة في الوقت ذاته , أجده يدعوني للجلوس معه علي طاولته ذاتها!!.
يا إلـهي !! من أنا الذي سيجلس ويتكلم وربما يتجرأ ويتحاور مع صاحب ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية ؟!, من أنا الذي سوف يتشرف بالحديث مع الذي حكي لنا التاريخ القديم لمصر الفرعونية في ثلاثية عبث الأقدار, ورادوبيس وكفاح طيبة ؟! من أنا الذي سوف يجلس ويستمع للأستاذ صاحب القلم الجرئ الذي كتب رواية الكرنك التي كشف فيها القمع والاستبداد الذي مارسته ثورة العسكر؟!, من أنا ومن أكون لكي تجمعني عدة دقائق مع الذي غاص في أعماق المجتمع المصري وكشف كل ما فيه من قيم نبيلة وحسنات وعري ما فيه من مساوئ وسيئات عندما كتب زقاق المدق وبداية ونهاية واللص والكلاب , والسمان والخريف ؟!.
تشجعت وتماسكت , وجمعت شتات أفكاري وجلست , ووجدته يتكرم ويسألني ما إذا كنت أريد أن أتناول فنجانا من القهوة عندما جاءه الجرسون بالفنجان الرابع أو الخامس !! شكرته قائلا بأنني لم أرد أن آخذه من خلوته مع نفسه , وسألته فقط عن رأيه فيما كان يحدث في المجتمع آنذاك؟, حيث كانت سمات الشارع المصري تنحدر إنحدارا سريعا وشديدا نحو هوة سحيقة لا عودة منها ؟ وإلي مستنقع أسن يبدو أن لا مهرب ولا خلاص ولا فكاك منه!!, لم يرد الأديب الكبير في التو واللحظة , بل شرد وسرح بنظره بعيدا كما لو كان يسترجع الحالة التي كان عليها كل من الشارع المصري والشخصية المصرية؟!, وفي كلمات بسيطة وقصيرة , وفي نبرة يشوبها الألم والحزن أجابني قائلا: __ الشارع المصري أصيل أصالة التاريخ , والشخصية المصرية التي ارتوت بمياه النيل منذ فجر التاريخ هي مثلها مثل تربة الأرض الخصيبة بطبيعتها, ولكن أن منعت عنها مياه هذا النهر فأنها تجف وتتصحر, هكذا الشخصية المصرية؟!. العيب إذن فيمن يتسلطون وفيمن يتحكمون في مقدرات الشعب وفي كافة المصادر التي تجعله يستمر علي الحالة الخصبة التي هو عليها من الأساس## .
إجابة بسيطة ووافية في كلمات قليلة وشافية , هكذا كان رد الأستاذ الأديب الكبير علي تساؤلي عن واقع الشارع المصري والشخصية المصرية آنذاك .
شكرته وأنا أهم بالانصراف , ولكنه استطرد قائلا وهو يرفع عينيه نحو السماء : __ خلينا نقول يارب ..##.
أستاذنا الراحل الكبير , نحن ما زلنا نقول يارب , وأيضا سنظل نقول يارب!!.
نعم يا سيدتي , وكما تتمنين أنت , كلنا كنا نتمني أن يظل بيننا, وموجود معنا, نحمل معه الشعلة التي أوقدها لنا بفكره المستنير, وبالمبادئ الإنسانية الراقية التي قلما توجد في هذا الزمان, نعم كلنا كان يتمني ويرجو ويأمل, ولكن هل نستطيع أن نتحدي الناموس الإلهي الذي وضع للخليقة كلها, والذي يؤكد علي وجوب نهاية كل حي علي وجه هذه البسيطة؟.
فقط أستطيع القول بأننا يجب أن نغبط أنفسنا لأننا وعينا وعشنا في الزمن الراقي الجميل , هذا الزمن الذي كان نجيب محفوظ علما خفاقا من أعلامه , ورمزا نادرا من رموزه.