الكنيسة القبطية… ودورها الوطني خلال معركة أكتوبر
كيف تفاعلت الكنائس في مصر والمهجر مع حرب أكتوبر؟
التماسك الاجتماعي هو أحد أبرز عناصر القومية لأي دولة, وكلما تحقق أكبر قدر منه بين طوائف المجتمع ككل كلما كان ذلك في صالح القوة الشاملة له والعكس فكلما ضعف هذا التماسك كلما ضعفت قوي الشعب وتفككت عراه, وللأقباط في مصر تاريخ طويل, فهم جزء أساسي من نسيج المجتمع المصري والتشكيك في مصريتهم هو تشكيك في صلب الكيان المصري نفسه, فتاريخ الأقباط هو نفس تاريخ كل المصريين… نفس الانتصارات…. ونفس الانكسارات, ولا جدال في أننا كمصريين نجحنا عبر عصور ماضية في طرد الهكسوس ومقاومة كل احتلال في التاريخ بالوحدة والتماسك والتعاون معا, ومن هنا فإن الشعار الذي يجب أن يظل مرتفعا علي الدوام هو وحدة مصر الوطنية, ونجعل من هذا الشعار هدفا قوميا وليس في الشعار أي وجه تعارض مع قيم المسيحية وتعاليم الإسلام.
وفي السطور التالية نسلط الضوء علي جزء من نسيج قوي متلاحم يمثل قوة الأمة المصرية اسمه الوحدة الوطنية, فقد مثلت حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وما تبعها من مد حضاري وسياسي أزهي عصور التوحد الوطني.
* التهاب الوحدة الوطنية قبل حرب أكتوبر
بداية نقف أمام بانوراما تاريخية لمعرفة الأجواء العامة في البلاد قبل اندلاع الحرب بوقت قصير نلاحظ أن السنوات السابقة للحرب مباشرة كانت نقطة فاصلة وحاسمة في تاريخ مصر بصفة عامة سواء بالنسبة للزعامة السياسية أو الزعامة الدينية, فمن الناحية السياسية انتهي عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع وفاته في سبتمبر عام 1970, ومن بعده تولي محمد أنور السادات رئاسة مصر, والسادات الذي شارك في أحداث ثورة 23 يوليو عام 1952, وكان له بعض المواقف السياسية قبل قيامها, كانت سببا في فصله من القوات المسلحة. حيث تم اتهامه باغتيال أمين عثمان, ورغم أن الرئيس الراحل أنور السادات كان من الضباط الأحرار الذين شاركوا في ثورة 23 يوليو عام 1952, وهو الذي قرأ بيانها علي أسماع الناس في الإذاعة المصرية إلا أنه رغم ذلك لم يتول أي منصب وزاري علي الإطلاق, ولكنه كان المتحدث الرسمي باسم البرلمان عام 1956 علاوة علي تكليف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر له بأداء بعض المهام الدبلوماسية بين الحين والآخر, ولم يكن الجمهور المصري ينظر إلي الرئيس الراحل أنور السادات علي أنه سياسي مخضرم ثقيل الوزن والأهمية, ولكنه أصبح رئيسا وفقا للدستور المصري, وسرعان ما وضع الرئيس الراحل أنور السادات قبضته علي مقاليد الأمور والحكم في البلاد, ومع مطلع عام 1971 أعلن أن عصر السادات قد بدأ, وبدأ يخطط لتأسيس عهد ساداتي جديد لا علاقة له بالعهد الناصري السابق عليه.
وفعلا بدأ يلتهم الناصريين في فترة قصيرة, وإحداث تحولات جذرية في تركيبة المجتمع المصري, وفي هذه الفترة كان التيار الناصري واليساري شبه مسيطر علي كافة أجهزة ومؤسسات الدولة وفي الجامعات والنقابات والأجهزة الإعلامية الأخري بشكل عام… إلخ, وأراد الرئيس الراحل السادات أن يضرب هذا التيار الناصري والشيوعي ويقضي علي تغلغله وانتشاره المتدفق, فارتمي في أحضان التيار الديني الأصولي, وأطلق علي نفسه اسم الرئيس المؤمن. وقام الدكتور محمود جامع بدور الوساطة بين جماعة الإخوان المسلمين والرئيس الراحل السادات الذي قرر السماح للإخوان بالعودة إلي العمل, فأفرج عن جميع المعتقلين الإسلاميين ومنهم صالح أبو رفيق وعبد القادر حلمي, وشجع بل مول إنشاء تنظيمات للجماعات الإسلامية للوقوف ضد التيارات الناصرية واليسارية, وفي اجتماع عقده الرئيس الراحل السادات مع عديله المهندس عثمان أحمد عثمان وكان محافظا لأسيوط آنذاك اتفق معهم علي ما سوف يكون, وكانت تلك هي الانطلاقة الأولي والبداية الحقيقية لنشأة الجماعات الإسلامية وما نتج عنها من جماعات متطرفة إرهابية أخري في مراحل لاحقة نتيجة الخلافات والانقسامات التي كانت سائدة, ورغم أن السادات كان يرمي في المقام الأول والأساسي إلي تحقيق هدف سياسي صرف هو استخدام هذه الجماعات كعصا فوق رقاب الناصريين, وعلي الفور بدأت هذه التنظيمات الإسلامية تعمل علي نشر ثقافة التعصب والكراهية والتكفير للأقباط, فصار عهد الرئيس الراحل أنور السادات مفتتح لتوالي وانتشار الأحداث الطائفية بين الأقباط والمسلمين, حيث تصاعدت حدة الأحداث علي غير ما يرغب أي حاكم لمصر. ولم يستمع الرئيس الراحل السادات إلي التحذيرات من خطورة امتداد هذه التيارات علي حال البلاد بصفة عامة وتأثيرها السلبي علي كافة المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
هذا علي المستوي السياسي أما فيما يتعلق بالمستوي الديني نجد أنه بعد رحيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بشهور وبالتحديد في مارس عام 1971 رحل قداسة البابا كيرلس السادس وعقب وفاته مباشرة بدأت عملية انتخاب البطريرك الجديد رقم مائة وسبعة عشر في عداد بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وطبقا للائحة انتخاب البطريرك الموضوعة من قبل في سنة 1957, والتي تم بناء عليها انتخاب البابا السابق قداسة البابا كيرلس السادس تم اختيار قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك رقم مائة وسبعة عشرة للأقباط في تاريخ الكنيسة المصرية.
* صدام الزعامة السياسية مع الزعامة الدينية
منذ البداية لم يحدث توافق من أي جهة بين شخصية قداسة البابا شنودة الثالث الذي يتمتع بشخصية كريزماتية وبين شخصية الرئيس الرحل أنور السادات, وبدأت بوادر ومؤشرات الصدام بين الطرفين مبكرا, فمع تولي الرئيس الراحل أنور السادات مقاليد الحكم وبدء الإعداد لإقرار الدستور الدائم بعد حركة 15 مايو عام 1971, المعروفة بثورة التصحيح كان من الواضح بروز تيار ديني متدفق بقوة يدعو إلي اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا أساسيا للتشريع تقابله دعوة أخري مماثلة من الأقباط إلي ضرورة التمسك بحرية ممارسة العقيدة والأديان وخاصة إلغاء الشروط العشرة المقررة لإقامة دور العبادة والكنائس… ولم يكن واضحا أن التغيير الذي يهدف إليه من اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا أساسيا للتشريع لن يؤثر علي تدهور حال الأقباط في البلاد سلبا.
ويبدو أن ثمة علاقة بين حالة القلق هذه التي سادت بين الرئيس الراحل أنور السادات وقداسة البابا شنودة الثالث وبين ذلك الحادث الفردي الذي وقع في الإسكندرية عام 1970 وهو الحادث الذي اعتنق فيه شابان من المسلمين الديانة المسيحية تحت ظروف مختلفة, وسرت أنباء ذلك الحدث بين الناس وكانت موضع تعليق ونقد لاذع بين بعض أئمة المساجد علي اعتبار أنها نشاط تبشيري, وأعد وكيل مديرية وزارة الأوقاف بالإسكندرية آنذاك تقريرا عن الحادث جاء فيه ذكر الأخطار التي تهدد الشباب المسلمين بسبب حملات تبشير نسبت إلي بعض القسوس, وكان ذلك التقرير يوزع سرا, غير أن مطلع عام 1972 شهد امتداد أيدي ما إلي صورة ذلك التقرير وتم نشره وتوزيعه علي نطاق واسع, وتضمن اتهامات موجهة إلي رجال دين أقباط كثيرين تثير استفزاز من يطلع عليها من المسلمين, وصيغت بطريقة توحي بالصدق الكامل. وبدأ أئمة المساجد يشنون حملة واسعة ضد هذا الأمر مما أدي إلي زرع بذور الشك بين الأقباط والمسلمين.
* حال الأقباط في عام 1972:
وفي أواخر مارس عام 1972 تصاعدت أحداث الفتن الطائفية بشكل أوسع بسبب التقرير الزائف الذي عرف باسم منشور البابا شنودة وتناقله الشارع المصري سريعا فكان بمثابة الفتيل الذي أشعل نار الفتنة الطائفية بين طوائف المجتمع المصري بمسلميه ومسيحييه, وضرب الوحدة الوطنية في الصميم, فنسب إلي قداسة البابا في محتوي هذا التقرير أقوالا يصعب تصديقها, وجاء نص المنشور كالتالي: إن الكنيسة القبطية تخطط لأن يتساوي المسيحيون في العدد مع المسلمين وأنه من الضروري إثراء الأقباط (أي تحويلهم جميعا إلي أغنياء) حتي تعود البلاد إلي أصحابها الأصليين المسيحيين من أيدي الغزاة المسلمين, كما عادت إسبانيا النصرانية بعد استعمار إسلامي دام ثمانية قرون من الزمان, وفي أغسطس عام 1972 دعا الرئيس أنور السادات مجلس الشعب إلي انعقاد جلسة طارئة لإقرار قانون جديد لحماية الوحدة الوطنية, وجاء قرار السادات بعد أن قام رجال الدين المسيحي بعقد مؤتمر في الإسكندرية في الفترة من 7 إلي 12 يوليو عام 1972. اتخذوا خلاله عدة قرارات انفعالية تعبر عن نبذهم لسيادة حالة الكراهية والقلق الذي يشعرون به, وأبلغوا كافة الجهات والهيئات والمؤسسات الحكومية المسئولة ومجلس الشعب أنهم يطالبون بحماية حقوقهم وعقيدتهم وأنه إن لم يتم الاستجابة لمطالبهم فسوف يكون الاستشهاد أفضل من حياة ذليلة.. وبدا الأمر بمثابة بركان يستعد للانفجار في أقرب وقت ممكن, من هنا دعا السادات إلي عقد المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي في 24 يوليو عام 1972 ليبحث موضوعا واحدا هو الوحدة الوطنية. في ذات الوقت الذي بدأ فيه الأقباط يخرجون بقضيتهم خارج مصر, وبالفعل اجتمع مجلس الشعب وأقر قانونا جديدا لحماية الوحدة الوطنية.
غير أن هذا القانون لم يحل دون تصاعد أحداث الفتن الطائفية حيث وقعت أحداث مؤسفة حتي بعد نشره في الجريدة الرسمية فوقع في محافظة البحيرة اعتداء علي مبني جمعية النهضة الأرثوذكسية في دمنهور في يوم 8 سبتمبر عام 1972, وتواصل تصاعد الأحداث بعد هذا ففي يوم 6 نوفمبر عام 1972 أيضا الذي كان يوافق الاحتفال بعيد الفطر المبارك قام مجهولون بإشعال النار في جمعية الكتاب المقدس بالخانكة وهي جمعية كان الأقباط يقيمون فيها الصلاة كل يوم جمعة بشكل دوري دون ترخيص وفي رد فعل متشنج قام جمع كبير من القساوسة بالقاهرة في يوم 12 نوفمبر عام 1972 وقادوا مسيرة إلي مقر الجمعية المحترقة, وكان الجمع كبيرا ولم يستمع لنصائح الجهات الأمنية مما اضطر الجهات الأمنية إلي العمل فقط علي حماية المسيرة, من الناحية الأخري وفي رد فعل متشنج تجمع عدد ضخم من المسلمين في مسجد السلطان الأشرف, وخرجوا في مسيرح احتجاج وأطلق -حسبما ذكرت الروايات- أحد الأقباط عيارا ناريا فوق رؤوس الأفراد المشاركين في هذه المسيرة من مسدس مرخص, فرد المتظاهرون وأشعلوا النار في مسكن ذلك الشخص وأماكن أخري خاصة بالأقباط, وفي اليوم التالي تدخلت الدولة في محاولة رسمية لاحتواء الأزمة, وتشكلت لجنة برلمانية خاصة للتحقيق في الحادث علي نحو يراعي مبادئ الوحدة الوطنية حيث ضمت ثلاثة من الأقباط ومثلهم من المسلمين, أما الأقباط الثلاثة فهم ألبرت برسوم سلامة, محب إستينو, رشدي سعيد, والمسلمون الثلاثة هم كمال الشاذلي, محمد فؤاد أبو هميلة, عبد المنصف حزين, وترأس الدكتور جمال العطيفي وكيل المجلس في ذلك الوقت اللجنة, وذهبت اللجنة إلي مكان وقوع الحادث بصحبة وكيل وزارة الداخلية للأمن العام لتسهيل مهمتها, وفي مسرح الأحداث ناقشت اللجنة المسئولين وشاهدت آثار النار ومساكن الأقباط التي تعرضت للتلف واجتمعت مع رجال دين مسيحيين كبار وعلماء مسلمين علي رأسهم شيخ الأزهر ووزير الأوقاف, واكتشفت اللجنة بعض الأمور أوردتها في تقرير لها عن الحادث منها أن جمعية أصدقاء الكتاب المقدس بالخانكة والتي تباشر نشاطها منذ عام 1946 هي جمعية دينية مسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية, غير أنها منذ سنة 1971 ضمت قطعة أرض لها تم شراؤها من المحامي أحمد عزمي, وعن طريق شخص وسيط أصبحت ملكا للأنبا مكسيموس مطران القليوبية, وفي صيف عام 1972 أقيم بها مذبح للصلاة وإقامة الشعائر الدينية يوم الجمعة دون الحصول علي ترخيص بذلك.
أضافت اللجنة في تقريرها أن أهالي المنطقة يعيشون في حال وئام وتعاون تجلي في مواقف عديدة أهمها ضرب إسرائيل لمصنع أبو زعبل في فبراير عام 1970, حيث قتل 75 شخصا وأصيب 69 من الأقباط والمسلمين علي السواء, كما أن رئيس مجلس المدينة شخص قبطي منذ اثنتي عشرة سنة, ولم يحدث أي حساسية تجاه هذا الأمر من أي مواطن مسلم, وكان أهم ما كشف عنه تقرير اللجنة البرلمانية أن ثمة مبالغة شديدة في تصوير الأحداث التي وقعت تم نقلها إلي قداسة البابا شنودة الثالث, وتضمن التقرير المقدم لقداسته اتهامات كاذبة لرجال المطافئ وجهات التحقيق بالتواطؤ بل إن التقرير اتهم الأجهزة المسئولة بعدم سلامة الإجراءات المتبعة. ثم سرد التقرير قصة المسيرة من رجال الدين المسيحي وما أعقبها من أحداث وآثارها… هذه هي مظاهر الموقف الملتهب منذ البداية والتوتر الذي ساد البلاد من الناحية الأمنية في فترة حاسمة في تاريخ مصر وعلي وجه التحديد قبل اندلاع حرب السادس من أكتوبر عام 1973 أي في عام 1972.
قداسة البابا يزور الجيش
رغم تصاعد هذه الأحداث المؤسفة وغيرها في البلاد قبل اندلاع حرب أكتوبر المجيدة عام1973 نجد قداسة البابا شنودة الثالث يزور الجيش المصري في مواقعهم علي خطة المواجهة في عام 1972, وهذا هو نص الخطاب الذي ألقاه قداسته عليهم:أحييكم كواحد منكم, فقد تخرجت من مدرسة المشاة لضباط الاحتياط عام1947, وقضيت المدة في الخدمة العسكرية متطوعا, فلم أضطر إلي الدخول لكن دخلت برغبتي متطوعا, فالعسكرية تعلم النظام والشجاعة, ونحن في هذه الأيام نخوض معركة البناء بيننا وبين اليهود فهم عدونا المشترك وهم أعداء المسيحية والإسلام, فالمسيحيون والمسلمون يؤمنون بأن السيد المسيح قد جاء أما اليهود فلا يؤمنون من الأساس بمجيئه, إنما ينتظرونه من نوع شمشون وجدعون, المسيحيون والمسلمون يؤمنون بالإنجيل المقدس, أما اليهود فلا يؤمنون به, لقد قال لهم السيد المسيح:لقد أبطلتم وصية الله, ولقد عاش اليهود فعلا بعيدا عن الله, وفي كثير من عهودهم عبدوا الأوثان…, واستطرد قداسة قائلا:إن مصر بلاد عظيمة محبوبة والدفاع عنها ليس شرفا فقط, إنما واجب إيضا, إننا نصلي باستمرار من أجلكم أن يحفظكم الله ونرجو أن تنتهي الحرب بسلام دون أن نفقد أي واحد منكم ولا شعرة من رأسه, وإذا كانت أرواحكم رخيصة من أجل وطنكم فهي غالية عندنا, وثقوا أنه مادام الله معكم فإنه سوف ينصركم علي أعدائكم, فالله ينصر المظلومين ولا ينصر الظالمين, إني أفارقكم إلي حين وصوركم في قلبي وفي قلوب الجميع حتي نحقق النصر….
وتكررت زيارة قداسة البابا شنودة الثالث عدة مرات للمقاتلين أثناء فترة الاستنزاف والإعداد للحرب, ومن كلماته في مخاطبة الجنود يقول:باسم كنيسة مصر إنني صديق كل ذرة رمل في صحراء بلادي… وفي هذا اليوم قدم الجنود الباسلون لقداسته هدية تذكارية حملها علي رأسه تكريما وتشريفا لهم كانت عبارة عن بدلة عسكرية قيمة.
*تأييد الكنيسة القبطية للقيادات المصرية:
وجاءت حرب السادس من أكتوبر في العام التالي وأحدثت التئاما كبيرا في الجراح. حيث شارك الأقباط بصورة رائعة, وكانت أول مشاهد للشهداء هو منظر واقعي لقبطي ومسلم متعانقين في ذات اللحظة أحدهما المقاتل غريب أحمد, والأخر شنودة, واشترك الأقباط من جنود وقادة في رفع العلم وتحقيق النصر, بل إن تحرير القنطرة شرق كان علي يد قائد مسيحي هو اللواء عزيز غالي ولا ننسي الشاب مجدي حنين حنا الله البورسعيدي الذي استشهد بمدينةهيوستن بولاية تكساس الأمريكية برصاصة غادرة أطقلها عليه أحد الأفراد الإيرانيين علي أثر حوار سياسي دافع مجدي خلاله عن بلده مصر وعن سياستها وعن قائدها الرئيس الراحل السادات فكان نموذجا للوطنية القبطية, وما أن أعلن الرئيس الراحل أنور السادات أن مصر الصامدة الصابرة قررت رد اعتداءات إسرائيل تناقلت وكالات الأنباء أخبار الانتصارات وتحقيق معجزات العبور إلي سيناء المجيدة حتي سارعت الكنيسة القبطية إلي تأييد القيادات المصرية واضعة كل إمكانياتها من أجل دعم المعركة, وطلب قداسة البابا أن يعيش المعركة في أرضها وأن يعبر إلي سيناء فالمعركة ضد إسرائيل معركة مقدسة, وعقد قداسته اجتماعا طارئا مع الكهنة والجمعيات القبطية لحثهم علي الإسهام في دعم المجهود الحربي, وطلب أن تقدم كل جمعية وكنيسة قبطية تقريرا يوميا عما تقدمه لهم, وتشكلت لجنة لجمع التبرعات ولجنة للإعلام الخارجي للاتصال بالكنائس في أنحاء العالم وشرح حقائق الموقف المصري, وعلي الفور سارعت الكنائس بتدريب الشباب للعمل في مراكز الإسعاف, وقدمت كنائس القاهرة وحدها مبلغ 15 ألف جنيه أوفد قداسة البابا الأنبا صموئيل لتسليمها للدكتور عبد العزيز كامل نائب رئيس الوزراء للشئون الدينية ووزير الأوقاف, وقدمت كذلك100ألف بطانية لوزارة الشئون الاجتماعية,إلي جانب 30ألف جهاز لنقل الدم إلي وزارة الصحة, وسارع الاستاذ راغب حنا وكيل المجلس الملي العام بإرسال برقيات للرئيس محمد أنور السادات يعلن فيها تأييد الأقباط لسيادته واضعين كل طاقاتهم وإمكانياتهم لخدمة القوات المسلحة وأصدر المجلس أيضا عددا من البيانات تناقلتها الصحف العربية وإذاعات العالم تؤكد أن أقباط مصر يقفون جنبا إلي جنب يحاربون مع إخوانهم المسلمين من أجل تراب الوطن الغالي, وقام فريق من الشباب الأقباط بزيارة الأبطال الجرحي في المستشفيات وقدموا لهم الهدايا التي تعبر عن تقدير الشعب القبطي لبطولتهم وشجاعتهم. وفي هذه الفترة كتب قداسة البابا شنودة الثالث ثلاث مقالات كان لها أثر عميق في الأوساط الإسرائيلية مازال بعض اليهود يثيرون زوابع حولها وعناوينها كالتالي:إننا ندافع عن أراضينا وهو دفاع عن الحق,أرض سيناء مقبرة للإسرائيليين, الصهانية أعداء المسيحية , وألقي قداسته كلمة بمناسبة حرب أكتوب المجيدة أذيعت في التليفزيون جاء فيها:يسعدني أن أتحدث إليكم في هذه الفترة الحاسمة من تاريخنا, وأبدأ كلمتي بأن أشكر الله الذي منحنا القوة حتي انتصرنا, نتوجه بخالص تحياتنا وتهانينا إلي رئيسنا المحبوب البطل أنور السادات الذي سيسجل التاريخ اسمه محاطا بالتقدير والإجلال نحيي فيه كلمته وجهاده وصبره وإيمانه وحكمته العميقة في اختيار الموعد المناسب لدخول الحرب وفي إحاطة هذا الموعد بسرية تامة لكي ما تكون للمفاجأة قوة تزلزل العدو, ونحن نحيي فيه أيضا محبته لوطنه ومحبته للسلام وتقديمه مشروعا للسلام وهو في عز الانتصار, وفي هذه المناسبة الجليلة أقدم تحياتي العميقة إلي قواتنا المسلحة الباسلة المصرية وإلي شقيقتنا سورية ورئيسها البطل حافظ الأسد-الرب معكم جميعا يحفظكم لاسترجاع الحق المسلوب, يفرح بكم القلوب, كلنا نصلي عنكم, كلنا نحمي ظهوركم ونؤيدكم ونساندكم في حالة الحرب….
*مشاركة أقباط المهجر
وتلقي قداسة البابا شنودة الثالث برقية من أقباط المهجر في دول أوربية عديدة تفيد مشاركتهم في تحمل أعباء معركة التحرير والنصر, فقرر أقباط مصر المهاجرون في نيوجيرسي بأمريكا شراء ثمانية وسبعون طردا كبيرا من أهم الأدوية التي تحتاجها مصر من فرنسا, وكان الدكتورعزيز فام الأستاذ المساعد في كلية الطب بجامعة القاهرة وعضو المجلس الملي العام قد قام بزيارة خاصة إلي أمريكا وحدد لهم الأدوية التي تتطلبها المعركة لعلاج الجرحي والمصابين,وخرج الأقباط المهاجرون في المدن الأمريكية الكبري مثل نيويورك وشيكاغو وعقدوا نداوات ومؤتمرات عامة شارك فيها الجميع لشرح الحق العربي, نفس الأمر حدث مع الأقباط في مونتريال وتورنتو بكندا, سيدني وملبورن بأستراليا, ونسقت كافة الكنائس القبطية المصرية في الخارج مع السفارات المصرية التابعة لها نشاطها في جمع التبرعات وشراء الأدوية, وقام بعض الأقباط المهاجرين باستئجار أوقات معينة في محطات التليفزيون الأمريكي من أجل شرح الموقف المصري من القضية الفلسطينية وحق العرب في استرداد أراضيهم المغتصبة, كما اشتروا مساحات في الصحف والمجلات الأمريكية نشروا فيها مقالات عديدة وآراء لتوضيح الحقائق المتعلقة بهذه القضية الحيوية للقراء الأمريكيين, ووصلت لقداسة البابا شنودة الثالث رسالة عاجلة من وزارة الخارجية المصرية تشيد بكافة الجهود المبذولة من قبل كنيسة مصر في الخارج بصفة عامة.
*الكنيسة القبطية بعد الحرب:
وفي مساء يوم 9أكتوبر عام 1974 دعي قداسة البابا شنودة الثالث بوصفه رئيسا للمجلس الملي العام إلي عقد مؤتمر شعبي للاحتفال بمرور عام علي اندلاع حرب أكتوبر المجيدة في القاعة المرقسية الكبري. وألقي قداسته(وهو فارس الكلمة) كلمة وطنية معبرة صور من خلالها الروح الخالدة للارتباط والتضامن بين المسلمين والأقباط معا, بصورة فريدة لروح المودة والمحبة والتألف والتآزر التي تجمع أقباط مصر ومسلميها عبر العصور إن كان في السلم أو في الحرب, جميعهم مصريون يدافعون عن مصر الوطن. وفيما يلي نص كلمته التي ألقاها في هذا المؤتمر التاريخي:
في الحرب عزيز غالي جنبا إلي جنب مع أحمد بدوي….ومن فوقها حسني مبارك يوجه ضربته الجوية إلي العدو فيتم الانتصار الكبير وفي السلم مجدي يعقوب وفاروق البارز معا…وفي الجامعة الجراح الدكتور فهمي المنياوي مع الدكتور علي باشا مبارك, وإن انتقلنا إلي التاريخ نجد محمد شفيق غربال الذي نشر الموسوعة العربية الميسرة والدكتور عزيز سوريال عطية الذي نشر دائرة المعارف القبطية… فكانت كلمات قداسة البابا ترجمة صادقة للحس العميق بمعني الوطنية والإدراك الكامل لعمق الأخوة الوطنية, وأن أقباط مصر جزء من نسيج هذا البلد نعيش جميعا فوق نفس الأرض وتظلنا نفس السماء.تتعطل أحلامنا لمجرد الاستيقاظ علي صوت ضجيج يقع هنا أو هناك…تتوقف نبضات قلوبنا من أجل بث نبض حي في أصحاب القلوب الضعيفة…قد نختلف في الدين والهوية الشخصية فهذا مسلم وذاك مسيحي ولم يكن ذلك في يوم من الأيام ضد توحدنا معا. وهكذا كانت ومازالت مصر دائما هي أرض السماحة والحب والإخاء والتي تتعانق وتلتحم معا فيها مآذن المساجد وقباب وأبراج الكنائس, حتي صارت الوحدة الوطنية في بلدنا متأصلة عميقة الجذور, فدائما ودوما وقف المسلمون والمسيحيون صفا واحدا علي أرض المعركة وسالت دماؤهم واختلطت رفاتهم وتجاورت قبورهم كأنها نسيج هذا الوادي الطيب.. وكما قال قداسة البابا شنودة الثالث في إحدي محاضراته:إن مصر بالنسبة لنا جميعا ليست وطنا نعيش فيه, إنما هي وطن يعيش في داخلنا, ومن كلماته أيضا:أن مصر وإن كانت أحيانا عقلا تتعدد وتتشعب أفكاره وآراؤه, فهي قلب واحد يتعانق شيوخه وأحباره….
*العمل الوطني العام للكنيسة القبطية:
هكذا كانت ومازالت وسوف تظل الكنيسة القبطية المصرية علي مر العصور رمزا تاريخيا راسخا في أعماق مصر, فهي تلك الكنيسة التي وقف أقباطها أمام هيمنة الدولة الرومانية, بل ورفضت أيضا مذهب الرومان الديني, وعبرت الكنيسة القبطية من خلال تاريخها الطويل ومواقفها العديدة عن ثوابت أساسية للمجتمع المصري, فهي تمثل العنصر الأساسي في حياة الأقباط المصريين, ومن ذلك فإننا نجد أن الكنيسة القبطية دائما فوق أي سيطرة خارجية, باعتبارها نبتا مصريا خالصا وأصيلا حوي كل ما سبق وأفرز مؤسسة لا نجد لها نظيرا, من حيث العمق التاريخي والاستمرارية, هذا فضلا عن المواقف الوطنية المشرفة الأخري التي قامت بها الكنيسة القبطية في عصر الرئيس الراحل أنور السادات, وفي فكر وطني مستنير يربط قداسة البابا شنودة الثالث نهضة الكنيسة بنهضة مصر بصفة عامة مما يؤكد مدي عمق ارتباط الكنيسة بالوطن فيقول:ليست هناك نهضة ورقي خاص بالأقباط بمعزل عن نهضة مصر كلها, وتستطيع كنيستنا القبطية أن تساهم وأن تشجع علي قيام النهضة والتقدم الدائم, ولكنها لا تنهض بمفردها لتحقيق هذا الهدف وذلك لأن الأقباط مواطنون موجودون في كل مجالات الحياة الاجتماعية المصرية بشكل عام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا, وهم ليسوا نسيجا متميزا ولكنهم أحد خيوط النسيج الوطني العام.
ومن هذا التوجه نجد قداسة البابا شنودة الثالث يعلن مدويا كلمته المأثورة قائلا:أنا مواطن من مصر يخدم الله في الناس ويصلي في الكنيسة من أجل الوطن ويتطلع إلي السماء من أجل نشر السلام علي الأرض كلها.
وفي النهاية فمصر في فكر قداسة البابا شنودة تتخلص في قوله المأثور:أنا أنظر إلي أرض مصر كأرض مقدسة ورد اسمها كثيرا وتردد في أكثر من موضع بالكتاب المقدس.. هذه الأرض التي شرفها بالزيارة عدد وافر من الأنبياء في مقدمتهم أبو الأنبياء إبراهيم وأيضا يوسف الصديق وأيضا إرميا النبي, وقدسها أخيرا السيد المسيح له المجد حينما أتاها طفلا هاربا من اليهود تحمله علي كتفها العذراء مريم.
*مراجع الدراسة:
*أقباط مصر في ثلاثة عهود-شعبان خليفة-إصدار دار إخناتون للنشر.
*…وماذا بعد حرب أكتوبر 1973؟-مجموعة كتب – إصدار دار المعارف.
*وثائق حرب السادس من أكتوبر-موسي صبري.
*وطنية الكنيسة وتاريخها المعاصر-الجزء الثالث -الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني.
*الأقباط في مصر والمهجر-رجب البنا.
*عرفت السادات-الدكتور محمود جامع.
*نص تقرير لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن مجلس الشعبصحيفة الأهرام-عدد 29نوفمبر عام1972.
*مجلةالمصور -العدد رقم 3875-بتاريخ 15يناير عام1999.
*أعداد أرشيفية لكتاب مختلفين من صحيفةالأهرام-نوفمبر عام1973.
*جريدةالجمهورية عدد9 نوفمبر عام1972.
*الأقباط وطنية وتاريخ-القمص بولس باسيلي.