الدولة هي التنظيم القانوني للمجتمع, الكيان الذي يجسد الإرادة العامة ويعبر عن المصالح المشتركة لجماعة من الناس يقيمون علي الدوام في إقليم ما, وللدولة سيادة علي الإقليم وسلطان علي سكانه الذين هم رعاياها -يتمتعون برعويتها ويحملون جنسيتها- والسيادة في القانون هي حق التشريع (والسيادة هي الحاكمية في الفقه الإسلامي), والسلطة هي ممارسة السيادة في فرض القوانين وإلزام رعايا الدولة بها (والسلطة هي الأمر في الفكر الإسلامي), من هنا كان للدولة حقوق علي المواطنين أهمها الخضوع الكامل لسلطانها والالتزام بقوانينها, والدفاع عنها ضد العدوان, في مقابل التمتع برعويتها والتي من خلالها تحقق لهم -الدولة- الأمن والاستقرار والرفاهية, فتكفل -الدولة- لجميع رعاياها الحق في الحياة الكريمة كما تكفل سيادة القانون وتطبيق العدالة, وبهذا المعني يدخل جميع مواطني الدولة أو رعاياها دون تمييز وفي مساواة تامة في منظومة الحقوق والواجبات وفي رعاية الدولة والتي تنظر إليهم علي هذا الأساس, وهوية المواطن أمام الدولة جنسيته, لا تبالي بأية هوية أخري دينية كانت أو قومية أو طبقية, ومن هنا أيضا فإن التمييز بين المواطنين علي أساس كائنا ما كان إنما يهدم الأساس الذي تقوم عليه الدولة ويهدد بانهيارها, إذ تتفرق الإرادة العامة وتتضارب المصالح فتظهر الثنائيات الحادة والاستقطاب.
ويكون بين مواطني الدولة هيئة حاكمة -حكومة- تتولي الممارسة العملية لسيادة الدولة وتجسد سلطانها, وتتولي حماية منظومة الحق والواجب وسيادة القانون, وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم دستور الدولة, وفي هذا السياق يطرح المفكر الفرنسي ##جان جاك روسو## نظرية ##العقد الاجتماعي## كأساس لقيام الدولة, تم لتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين, والعقد شريعة المتعاقدين وهو ملزم للطرفين, ولابد الآن من التأكيد علي ضرورة وجود سلطة عليا يخضع لها طرف العقد, سلطة تعلو علي سلطة القانون وأية سلطة أخري, ولا تقوم علي الالزام المادي بل من خلال سلطانها الروحي والمعنوي علي الضمائر, ولا تحتاج إلي التجسيد, فليس ثمة حاجة لمن ينوب عنها, بل هي تمارس إلزامها وسطوتها بشكل مباشر دون وسيط, وهنا نطرح الأخلاق لتكون بمثابة هذه السلطة العليا, وتقودنا الأخلاق إلي الدين باعتباره المصدر الأكثر ثراء للقيم الأخلاقية والروحية.
مما سبق يتضح أن الشعب هو مصدر السلطات وهو الذي يخول السلطة طواعية لحكومته من خلال العقد الاجتماعي, ثم تتبدي حقيقة أخري لا تقل أهمية, وهي أن الدول إلي جانب الدستور والمؤسسات والسلطات الثلاث يلزم لوجودها وبقائها ما هو أقوي من جميع السلطات, ما هو أسمي من جميع الغايات وتستمد منه علة وجودها ذاته.
والدولة وإن كانت تقوم لتحقيق غايتين -الأمن والمصلحة- فهي لا يمكنها بحال أن تغفل غايتها الأخلاقية تلك التي تصوغ هويتها وتحفظ كيانها وتراثها الثقافي, كما تكون هي ذاتها ضمانة بقائها..
وليس الحاكم الأمثل هو الذي يكون قادرا علي البطش والتخويف أو هو الأقدر علي الخداع فلن يتمكن كائنا من كان أن يخدع كل الناس لكل الوقت, إنما الحاكم الأمثل هو الأقدر علي الاستحواذ علي قلوب الرعية, والعلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة معقدة متعددة الأبعاد يصعب ردها إلي اعتبارات مصلحية بحتة أو إلي علاقات القوة, والاعتبارات الأخلاقية والإنسانية إنما تمثل لب هذه العلاقة وجوهرها, إنما الحاكم الأمثل بالنسبة للمحكوم هو الأكثر احتراما لآدميته وتتأتي شرعية الحكم من مدي التوافق بين سياساته وممارساته والمعايير والقيم الأخلاقية السائدة.
والدين والأخلاق صنوان لا ينفصمان, ولذا لا يمكن بحال من الأحوال فصل الدين عن الدولة والسياسة فالدين وما يستمد منه من قيم أخلاقية هو عماد الدولة وهويتها وعلة وجودها وبقاؤها لا سيما في المجتمعات المتدينة.
وهنا يبرز مصطلح خلقنة السياسة, أو تديين السياسة, عند السلفيين, ولكن لنا تحفظات علي هذا المصطلح الذي يثير الجدل والشقاق.. وتبرز إشكالية: هلي تصاغ جميع تشريعات الدولة وسياساتها -في الدولة ذات الهوية الدينية- مستمدة من النصوص الدينية بشكل حرفي؟
هذه إشكالية العلاقة بين الدين والدولة لا سيما إذا كنا بصدد تأسيس دولة مدنية حديثة.
نقول إن التزاما كهذا لا يستطاع ولا يقره عقل فهو يؤدي حتما إلي التصلب والرجعية, إلي جمود في كافة مظاهر النشاط الإنساني.
الدولة كيان زمني بتغير تشريعاته والعلاقات الكائنة بداخله وكذا جميع ألوان الممارسات الحاصلة في إطاره بتغير الأزمان, أما هوية الدولة ذاتها فتلك ما لا يجوز أن تغير, ولما كان هذا الكيان قد نشأ لخدمة غايات وتحقيق أهداف لا دينية دنيوية بجانب الغايات الأخلاقية أو الدينية (الدولة لا بدلها أن تحفظ الدين وتحمي حرية العقيدة وممارسة الشعائرالدينية باعتبار الدين أهم الظواهر الاجتماعية وأكثرها تداخلا مع مختلف جوانب الحياة, ولما كانت مصالح الناس ومآربهم في تغير وتبدل دائمين كان من المستحيل إخضاعها لقوالب جامدة من طبيعتها الثبات ولا تعرف التغيير, وهنا يبدو التناقض والتعارض الظاهري بين الدين والسياسة, فالدين في جوهره ثابت لا يتغير فهو ناموس إلهي لا يختلف باختلاف الزمان والمكان بينما السياسة فمن شأنها التعاطي مع عالم التغير والصيرورة, عالم لا يكف عن الحركة ويزخر بالمتناقضات, ولكن ما هو ثابت من الدين هو الجوهري -العقيدة والقيم الأخلاقية والمبادئ العامة والكلية للشريعة -وهو ما يسمي الأصول في لغة علماء الدين, وأما في شأن مصالح الناس وأمور معاشهم المتبدلة من زمان إلي آخر فالدين يقدم مبادئ ومثلا تشكل مصدرا ثريا للاستنباط والاشتقاق والقياس, ولم يقدم تفصيلات جزئية محددة في مثل هذه المسائل, وهكذا ينتفي ما بدا من تناقض آنفا, إذا فالقانون المنظم للعلاقة بين الناس في المجتمع, وكذا العلائق بين الدول إنما يستمد من مصادر متعددة ومناهج مختلفة بما يحقق المصلحة للجميع ودونما تعارض مع مبادئ الدين والقيم الأخلاقية والإنسانية والقواعد القانونية العامة المستقاة من القانون الطبيعي (دون ذلك ما يطلق عليه السلفيون.. القانون الوضعي وهو ما يتعارض تماما مع مفهوم الحاكمية عندهم, بل يعدون في سن هذه القوانين نوعا من الشرك والخروج عن الإسلام) هنا يظهر مصطلح العلمانية المثير للجدل وهو يعني ##دنيوية## أولا دينية## وهو كما يبدو من المعني الاشتقاقي مصطلح فضفاض قد يراد به أكثر من معني, وقد تكون بعض هذه المعاني متعارضة فيما بينها, ولكن ما أفهمه من اللفظ بعيدا عن السياق الأوربي الذي استخدم فيه لأول مرة وبعيدا عن تأولياته لدي المفكرين العرب أنه إشارة إلي الطبيعة اللادينية لبعض مناحي النشاط الإنساني.. والسياسة في كثير من جوانبها تنتمي إلي هذه الفئة, ولا دينية, لا تعني أنها تعارض الدين ولكن تعني أن لها قواعدها وأدواتها وسننها الخاصة أي إشارة إلي استقلالها عن الدين, وإن كان هناك ثمة مخالفة لمبادئ دينية في كيفية التعاطي مع بعض هذه المسائل فذلك إنما يكون لاعتبارات الضرورة والمصلحة العليا, ولا عيب فيه فالضرورات تبيح المحظورات.
ثم تظهر الإشكالية الثانية الأكثر خطورة: إذا كان الدين يشكل هوية الدولة والمصدر الأساسي لتشريعها في حالة مصر فهل يستتبع ذلك بالضرورة التمييز بين مواطنيها علي أساس الهوية الدينية, وهل يفتح الباب أمام هيمنة رجال الدين (أهل الحل والعقد) علي أمور الحكم والسياسة؟
حينما يكون ذلك التمييز فإن مرده إلي الطبيعة الرأسية والأفقية للظاهرة الدينية, فيكون التعصب العقائدي الناشئ من اليقين المطلق عند ملاك الحقيقة المطلقة, والتعصب للجماعة التي يعتبر المخالف لها خارجا عليها وفي بعض الأحيان معاديا لها.
وذلك إنما مرده إلي الخلط بين ما هو من الدين وما هو من عند رجال الدين, إلي آفة المرجعيات وأهل الفتوي, وعند هذه النقطة يلزم التأكيد علي أن تميز الدولة بهوية خاصة كقولنا (مصر دولة عربية إسلامية) لا يستتبع بالضرورة خلق تمييز بين مواطنيها علي أساس أية هوية باستثناء الرعوية والانتماء للدولة, والأول ضرورة لحياة الدولة وتأكيد خصوصيتها واستقلالها, وفي الأخير خطر يتهددها.
هذه التفرقة بين الأفراد داخل المجتمع تعود إلي فهم قاصر وتصور خاطئ لطبيعة الدين وطبيعة الدولة, وجهل بمعاني وأدبيات المواطنة وما ترتبه من حقوق وواجبات.
وأما هيمنة أهل الحل والعقد فذلك يعود بناء إلي نظرية العقد الاجتماعي وأهمية الدين لكونه بمثابة حافظ وضمان للعقد وباعث علي الالتزام بالحق والواجب لدي الجميع ولكن من دون وسيط ومن دون وصاية, والدولة الدينية في سياق التاريخ الأوربي ورجال الإكليروس, أو ولاية الفقية عند الرافضة في الدولة الشيعية فتلك مفاهيم غريبة عن الواقع المصري وعن التاريخ الإسلامي برمته.
وفكرة أهل الشوري -أهل الحل والعقد- تعود إلي قصور الفهم والجمود الفكري عند السلفية, وهي فكرة تتعارض والديموقراطية وإن حاول بعضهم التوفيق بينهما, فهم يفرضون الوصاية علي الناس, يصادرون حقهم في الاختيار لا محل إذا عن الحديث عن دولة دينية كالتي سادت أوربا في عصور الظلام, فهذا السياق لا يعنينا ونحن لم يكن في تاريخنا أبدا دولة ثيوقراطية ولم يكن عندنا (رجال كهنوت).
وبالنسبة لمصر فمصر دولة إسلامية وكانت وستظل هذه هويتها وليس ثمة تعارض بين الهوية الدينية للدولة من ناحية والدولة المدنية من ناحية أخري, فوصف مدنية يعني الحداثة أو التحضروالتمدين وفيه إشارة إلي زمنية السلطة والممارسة السياسية أو إلي شكل وطبيعة هذه الممارسة القائمة علي مبادئ الديموقراطية والقيم الليبرالية, الهوية ثابتة ولابد أن تكون كذلك والسياسة من شأنها التغير والتحديث الدائمين ولا تناقض أو تضاد بين الاثنتين.
الدولة المدنية السيادة فيها للقانون وللسلطة المدنية, وفي الدستور المصري المصدر الأساسي للتشريع هو الشريعة الإسلامية لكنه ليس المصدر الوحيد.
وأخيرا نعاود التأكيد علي أن الدين لا يمكن فصله عن الدولة, الدولة تنظيم سياسي اجتماعي والدين أهم الظواهر الاجتماعية, ولكن ما يلزم فصله عن السياسة هو الأفكار والمفاهيم المتشددة والمتحجرة والتي جوهرها الإقصاء والتعنت وهي ليست من الدين في شئ وهناك مسألة علي كثير من الأهمية وهي أن الدولة المدنية المزمع بناؤها في مصر لابد وأن تكون مصرية في هيكلها وجوهرها, في أسسها وقيمها أي أنها لا تخرج عن سياق الواقع المصري وتراث مصر الحضاري والثقافي واستنادا إلي الهوية المصرية وخصوصيتها.