ظلت الذات الإنسانية محور اهتمام أديبنا العملاق، فظل يكتب باحثاً عن قيم الحق والخير والعدل والحرية التى نتوق إليها جميعاً، و”الذات” فى أعماله دائماً قلقة لا تهدأ ولا تستريح… تبحث لها عن وجود حقيقى يضعها على خريطة العالم، وفى رحلة البحث هذه قد تخطئ وقد تصيب، وقد تسلك سلوكاً حسناً طيباً وقد تسلك سلوكاً رديئاً… قارة تتضرع إلى الله علها تجد الخلاص من هذا العالم الموحش القاسى، قارة أخرى تتردى فى حمأة الخطيئة… إنها “ذات ضائعة” تحاول الفكاك من أقدارها…
– ولعل تمركز محفوظ حول “الذات” ومصيرها المحتوم قد يرجع إلى دراسته الفلسفية من ناحية، وتأمله الشديد للعالم ومجريات الأمور من حوله من ناحية أخرى.
والقارئ لإبداع نجيب محفوظ يقف على بعدين أساسيين:
أولها: الشقاء الإنسانى على اختلاف أنواعه
ثانيها: اللجوء إلى الله الملاذ الأوحد والأعظم
– إن هذين البعدين جعلا أعمال محفوظ أعمالاً إنسانية خالدة تتخطى حدود الزمان والمكان، على أن البعد الروحى والدينى أحتل مكانة خاصة فى عقل ووجدان محفوظ منذ البداية، وقيل أن يبدأ رحلته الإبداعية برواية “عبث الأقدار” عام 1939، من هذا ما تقرأه فى مقال له بعنوان “الله”.
– “تشهد حياة الإنسان منذ النشأة الأولى التى عرفها العلم والتاريخ بأن الدين كان وما يزال عنصراً جوهرياً فيها، يقوم بدوره الجليل فى صدر الإنسان وضميره، ويمتد أثره إلى ميدان المجتمع الفسيح فلا يدع ظاهرة من ظواهره إلا ويؤثر فيها ويضفى عليها من لونه، ولذلك كانت فكرة الله وهى محور الدين وروحه أكبر ما يثير الشغف ويغرى بالأطلاع وما من مفكر أو عالم إلا وقد تعرض لها وكان له عنها رأى أو اعتقاد…”
(الله- مقال- المجلة الجديدة- العدد الأول- السنة الخامسة- يناير 1936 ص 43: 45، جدير بالذكر أن دار الشروق نشرت الكتابات الأولى والنادرة لمحفوظ مجاناً على موقعه على الأنترنت).
– وفى هذه الدراسة نقدم رؤية إنسانية وفنية لعمل روائى مهم “ثرثرة فوق النيل” أبدعه محفوظ فى مرحلة “الواقعية الجديدة”، وتجتمع فيها سمات الضياع والشقاء الإنسانى ومدى تعطش أبطالها الدفين إلى الله بغية السكينة والسلام…
رواية “ثرثرة فوق النيل” عام 1966
” أنا أنتمى أساساً لثورة يوليو ولذلك فأن الإصلاح الزراعى والعدالة الاجتماعية وكل منجزات ثورة يوليو البناءه قريبة إلى وجدانى، ولكن فى نفس الوقت بجانب أنتمائى لها أتناقض معها فى أمرين: سلبيات الذين أفسدوها عن التطبيق من جهة، ومن جهة أخرى عدم استكمالها بالديموقراطية، لذلك أنقد الثورة من موضع الانتماء لا من موضع الرفض، أنتقد اللصوص، أنتقد الاستبداد…”
– هذه الكلمات جزء من حوار للأديب العالمى نجيب محفوظ أجراه معه الكاتب عبد العال الحمامصى وضم فى كتاب “هكذا تكلم نجيب محفوظ”.
– وإذا رجعنا إلى رواية “ثرثرة فوق النيل” التى صدرت عام 1966 نجد أنه يمكن تطبيق هذا الكلام عليها، فهى من الروايات السياسية التى ينتقد فيها محفوظ الثورة.
رؤية مثيرة للجدل
تدور أحداث الرواية حول مجموعة من الأصدقاء (رجالاً ونساء) لديهم سمات مشتركة فى نمط التفكير والثقافة والنظرة العبثية إلى الحياة والإدمان… وقد أتخذوا من عوامة فوق النيل مكاناً للقاء واللهو والعبث والمناقشة فى أمور حياتهم بالإضافة إلى هموم مجتمعهم، ثم يعود كل إلى منزله فيما عدا أنيس (البطل والراوى) الذى يقيم بالعوامة، ويطلق عليه بقية الأبطال أيضاً لقب “فارس الشلة” وهو رجل مثقف كان طالباً ريفياً جاء إلى القاهرة والتحق بكلية الطب ولم يكمل دراسته، وأستطاع بواسطة أحد الأساتذة فى الكلية أن يلتحق بالعمل فى وزارة الصحة، ليس هذا فحسب بل أن زوجته وطفلته رحلا عن عالمنا فى يوم واحد مما جعله يعتاد الإدمان، أما عن دوره فى الرواية فهو يمثل صوت السارد الفنى الذى يقوم بالتعليق على ما يدور حوله أو التعبير عن الأفكار والتأملات العميقة بالرواية.
– على أن مجموعة الأصدقاء الذين يجتمعون على أشياء واحدة فى الرواية يختلفون فى وظائفهم، فمنهم أحمد نصر مدير الحسابات ومصطفى راشد المحامى وعلى السيد الناقد الفنى وخالد عزوز كاتب القصة ورجب القاضى الممثل وسارة بهجت الصحفية وسناء الرشيدى بكلية الآداب وليلى زيدان المترجمة بالخارجية وسنية كامل الرائدة القديمة بالعوامة وصديقة على السيد، وعم عبده حارس العوامة وخادم زوارها، هؤلاء جميعاً يجتمعون كل ليلة للهروب من الهموم الخاصة والعامة يتمرغون فى حمأة الخطيئة والمتع بكل أطيافها، وهم فى ذلك كله ليس بمعزل عن الحياة العامة حولهم، وإنما كانوا جزءاً منها فهم يتحدثون عن كوبا وفيتنام والرشوة والأشتراكية ومشاكل العمال والفلاحين والجمعيات التعاونية وغير ذلك مما يعتدى الحياة العامة من حولهم من أحداث عامة.
– أما عن الأسلوب الذى اتبعه الأستاذ نجيب محفوظ فى هذه الرواية فهو أسلوب مختلف عما أتبعه فى روايات أخرى، ذلك إنه لم يترك الشخصيات تعبر عن نفسها للقارئ من خلال تفاعلها مع الأحداث، بل نجده يستخدم صوتاً أخر (سارة بهجت الصحفية) بالإضافة إلى صوت السارد الرئيسى فى العمل (أنيس) فهى تهوى التأليف المسرحى وتتعقب هذه الشخصيات لتسجلها فى مذاكراتها التى تعد مشروعاً لعمل كبير تنوى كتابته فى مسرحية مما يدعم هذه الشخصيات بالخروج من حالة الفردية الذاتية إلى حالات عامة تتفاعل مع الكون وتعبر عن وضع الإنسان فى هذا الكون وحيرته أمام أسراره وبخاصة فيما يتعلق بقضايا الوجود والموت، أيضاُ فإن النظرة إلى الحياة هى نظرة فلسفية، فالحياة تفقد معناها بالنسبة لهم، إذ هم بلا هدف فينهار عندهم الإيمان بأية قيمة فى الحياة، فيحل العبث محل الجدية حتى لانهم وهم فى غمرة عبثهم ولهوهم سكرى فى شارع الهرم يصدفون قروية بسيطة لتلاقى حتفها فى الحال وهم لا يزالون فى ضحكاتهم وصخبهم.
– وتأتى أهمية رواية “ثرثرة فوق النيل” من إثارتها للجدل فى تلك الفترة، وفى هذا الصدد يقول نجيب محفوظ فى أحد حواراته مع الناقد رجاء النقاش: “ظهرت رواية ثرثرة فوق النيل فى عز مجد عبد الناصر، وفى وقت كان فيه الإعلام الرسمى يحاول ليل نهار أن يؤكد أنتصار الثورة والنظام وأنعدام السلبيات والأخطاء، فجاءت ثرثرة فوق النيل لتنبه إلى كارثة قومية كانت قد بدأت تطل برأسها على السطح، وكان لابد أن يكون لها نتائجها الخطيرة، وكنت أعنى بذلك محنة الضياع وعدم الأحساس بالانتماء، وهى المحنة التى بدأ الناس يعافون منها، خاصة فى أوساط المثقفين الذين أنعزلوا عن المجتمع، وأصبحوا يعيشون فى شبه غيبوبة، فلا أحد يعطيهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة، ولا هم قادرون على رؤية الطرق الصحيحة، وفى المرة الوحيدة التى حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق أرتكبوا حادثة رهيبة فى شارع الهرم، ولاذوا بالفرار”.
– حقاً لقد كانت شجاعة من نجيب محفوظ أن يعبر عن هذه السلبيات، وكانت شجاعة أكبر من عبد الناصر أن يقول عن الرواية إنها صادقة، وأن علينا أن نستفيد من هذا النقد الشديد الخالى من سوء النية.
9 – 12 – 2011
إ س