“إن من يقتلنى
إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع
الذى يفضح صاحبه، والقول بأنى مجنون ينبغى أن يشمل كافة العاطفين فادرسوا أسباب
هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم…”
(من رواية اللص والكلاب)“وراحت تتكلم
عن الأمل فنظر إلى الليل، ورفرف الليل بجناحيه فتناثرت الأسرار كالنجوم، واستحال
كلامها وشوشة منبعثة من تهويمات حلم، وشئ حدثه بأنه عما قليل سينشق سطح الماء
القاتم عن رأس الحوت!!”.
(من رواية ثرثرة فوق النيل)
فى عيد ميلاده
التسعين قال “نجيب محفوظ”: “كتبت كثيراً من القصص بعضها مزقتها قبل
أن أرسلها إلى أى جريدة، وربما مزق بعضها القائمين على أمر الصفحات الأدبية، استمر
هذا طويلاً إلى أن جاءت أشياء تستحق النشر، بعدها سارت الأمور بشكل جيد… إحدى
هذه الكتابات كان كتاب “الأعوام” وقد كتبته تقليداً لكتاب
“الأيام” الذى ألفه “طه حسين” وعبر فيه عن حياته ومعاناته إلى
أن صار عميداً للأدب العربى، وعلى هذا المنوال مزقت كتابات أخرى شعرت إنها جاءت
على نسيج كتابات الآخرين أمثال: المنفلوطى، إلى أن كتبت قصة اسمها “ثمن
الضعف” رأيت إنها يمكن أن تنشر وأبدأ بها حياتى مع الإبداع، فأرسلتها إلى
مجلة (الجديد) وكان ذلك عام1934″، وأضاف: ” لقد عشت هذه الحياة بمرها
وحلوها وشكراً لله أنها احتملتنى طيلة هذه السنين أيضاً بحلوى ومرى “.
هذا هو الكاتب
المحبوب والإنسان البديع “نجيب محفوظ” فى ذكائه وتواضعه المعهودين… هل
كل أم تحس وتتنبأ بمن تلقم ثديها ماذا عساه أن يكون غداً…؟ هل دار بخلده يوماً
ما وهو يعمل بين دواوين الحكومة – شأنه شأن أى موظف- إنه سيصبح عالمياً…؟ لا
نعرف لهذين السؤالين وغيرهما إجابة محدودة.
(ولد نجيب محفوظ فى 11ديسمبر1911 بحى
الجمالية بالقاهرة، ثم انتقل مع أسرته إلى العباسية والحسين والغورية، وهى الأحياء
القديمة التى عبر عنها فى أعماله الأدبية فى عدد من الوظائف الرسمية، وبدأ كتابة
القصة القصيرة منذ عام1934. وأصدر عدة مجموعات قصصية منها: “دنيا الله”،
“الحب فوق هضبة الهرم”، ومن رواياته: اللص والكلاب، بداية ونهاية، زقاق
المدق، الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، أولاد حارتنا وغيرها. فبلغ
مجموع مؤلفاته خمسين عملاً أدبياً، كما كتب فى الفترة (1952-1959) عدداً من
السيناريوهات للسينما، وتحولت بعض رواياته إلى السينما مثل: الكرنك، ميرامار،
الشحاذ، الطريق، ونقل عدد من أعماله إلى لغات متعددة ولا سيما الفرنسية
والإنجليزية بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام1988).
(قدم لنا نجيب محفوظ
فى إبداعاته فلسفة خاصة تعددت حدود السرد والحكى… يقول على لسان “سعيد
مهران” بطل رواية “اللص والكلاب”: “لست كغيرى ممن وقفوا قبلى
فى هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع إنه لا فرق بينى
وبينكم إلا إنى داخل القفص وأنتم خارجه، وهو فرق عرضى لا أهمية له البتة أما
المضحك حقاً فهو أن أستاذى الخطير ليس إلا وغداً خائناً، ويحق لكم العجب، ولكن
يحدث أن يكون السلك الموصل للكهرباء قذراً ملطخاً بإفرازات الذباب”.( رواية
اللص والكلاب صفحة 119 ، 120 )
الذات الضائعة فى
أدب نجيب محفوظ:
“البحث عن الذات”… قيمة
فنية طالما ترددت أصداؤها فى إبداع نجيب محفوظ فى مراحل كتاباته المختلفة:
الرومانسية التاريخية، الواقعية، الواقعية الجديدة.
فالذات دائماً قلقة لا تهدأ ولا
تستريح… تبحث لها عن وجود حقيقى يضعها على خريطة العالم، وفى رحلة البحث هذه قد
تخطئ وقد تصيب، قد تسلك سلوكاً حسناً طيباً وقد تسلك سلوكاً حسناً طيباً وقد تسلك
سلوكاً ردئياً… تارة تتضرع إلى الله علها تجد الخلاص من هذا العالم الموحش
القاسى، تارة أخرى تتردى فى حمأة الخطيئة… أنها ذات ضائعة تحاول الفكاك من
أقدارها.
ولعل تمركز “محفوظ” حول
الذات ومصيرها المحتوم قد يرجع – فى تقديرى- إلى دراسته الفلسفية من ناحية، وتأمله
الشديد للعالم ومجريات الأمور من حوله من ناحية أخرى، كان يقسم يومه بين عمله الوظيفى
الحكومى، وانكبابه على الاطلاع والقراءة والكتابة، فلم يكن من الباحثين عن رغد
العيش أو من ذوى التطلعات الطبقية، والكتابة عنده ليست رفاهية، وليست وسيلة للبحث
عن الشهرة ولكنها مسألة حياة أو موت.
شئ من هذا نجده فى
حديث له بمجلة آخر ساعة ديسمبر1962: “أما أنا فالكتابة بالنسبة لى عملية
تعذيب تمزق أعصابى فعملى الحكومى يستغرق معظم النهار، وفى الليل أمسك الكوبيا وأظل
أكتب ساعتين على الأكثر ثم لا أطيق… ويسمى الناس ما أكتبه أدباً فقط. أما أنا
فأسميه أدب موظفين”.
مرحلة الرومانسية
التاريخية:
فى هذه المرحلة اتجه
الأستاذ “نجيب محفوظ” إلى تاريخ مصر القديمة، فكتب ثلاث روايات تاريخية
حافلة بالسير الرومانسية والمغامرات والحروب وهى: “عبث الأقدار عام1939،
رادوبيس عام1943، كفاح طيبة عام1944).
وفى الروايتين الأخيرتين صور عناء
الشعب المصرى من جراء الاحتلال، ومحاولته البحث فى ماضيه المجيد عله يستمد العون
ويستلهم الإرادة فى طرد المستعمر وتحقيق الاستقلال.
ففى
“رادوبيس” تتطلع الذات المصرية الضائعة إلى الملك الشاب التى تصورت أنه
فرعون مصر الجديدة الذى ستحقق آمال الشعب على يديه، إلا أنه سرعان ما تكتشف هذه
الذات المصرية الضائعة – التى تأن تحت نير الاحتلال فى ذلك الوقت- فساد هذا
الفرعون وانصرافه عن مصلحة رعيته على يد الغانية “رادوبيس”، مما يجعل
هذه الذات تصرخ فى وجهه رافضة حكمه، ويسقط قتيلاً على يد ثورة هذه الذات، وهذه
النهاية ربما مثلت آنذاك رسالة إنذار للجالس على عرش مصر.
وكأن الكاتب يقول:
“إذا كانت مصر اليوم تائهة ضائعة فغداً ستثور على هذا الضياع والتفكك، وربما
تصل ثورتها إلى هذا القتل… وغداً لناظره قريب”.
“وفى أثناء ذلك
كانت توجه إلى باب القصر الكبير ضربات شديدة قاصمة، ولم يتجاسر أحد على اعتلاء
السور كأنهم توجسوا خفية من انسحاب الحرس المفاجئ وتوهموا أنه ينصب لهم شراكاً
قاتلاً، فوجهوا كل قوتهم إلى الباب ولم يحتمل الباب ضغطهم زمناً طويلاً فتزعزعت
المتاريس وارتج بنيانه وهوى بقوة عنيفة رجت الأرض رجاً، واندفعت الجموع متدفقة
صاخبة، وانتشروا فى الفناء كغبار ريح الصيف، ومازالوا فى تقدمهم حتى شارفوا القصر
الفرعونى، ولمحت أعينهم الواقف عند مدخل الممر، وعلى رأسه تاج مصر المزدوج فعرفوه،
وأخذوا بمنظره ووقفته وانتظاره وحيداً لهم… ولكن كان بين الثائرين دهاة يشفقون
مما يرجو قلب “سو قحاتب”، وخشوا أن ينقلب فوزهم هزيمة ويخسرون قضيتهم
إلى الأبد، فامتدت يد إلى قوسها، ووضعت سهما فى كبده، وسددته إلى فرعون وأطلقته،
فانطلق السهم من وسط الجمع واستقر فى أعلى صدر الملك دون أن تمنعه قوة أو
رجاء….” (رادوبيس الطبعة الثالثة1958 ص226 وما بعدها).
وفى “كفاح
طيبة” نجد مثالاً آخر لبحث مصر عن ذاتها الضائعة – فى مطلع الأربعينيات- وذلك
بالعودة إلى صفحة أخرى من صفحات تاريخها المجيد ألا وهو كفاحها ضد الهكسوس وطردهم
على يد أحمس، تنبئوا بطرد الإنجليز بانتصار هذه الذات المصرية الضاربة فى جذورها
فى التاريخ، ويستوقفنى هنا موقف امرأة مصرية فى محاكمتها أمام أحد القضاة بسبب
رفضها الخضوع لرغبة أحد ضباط الاحتلال: “فأحمر وجه المرأة ارتباكاً، وقالت
وهى لاتزال تحافظ على هدوئها: كنت أسير فى طريقى إلى حى الصيادين، فإذا عربة(!)
تعترض سبيلى وينزل منها ضابط فيدعونى إلى الركوب دون إمهال ولا سابق معرفة، فارتعت
وأردت أن أتحاشاه ولكنه مسك بيدى وقال إنه يشرفنى بضمى إلى نسائه، فقلت له إنى
أرفض ما يعرضه على، ولكنه سخر منى، وقال لى أن رفض المرأة الظاهرى عين
القبول” (كفاح طيبة، الطبعة الثالثة1957 ص94) –أن هذه المرأة- التى لم تسقط
حتى فى أشد الظروف قهراً وضيقاً ما هى إلا مصر.
المرحلة الواقعية:
تشمل هذه المرحلة:
(القاهرة الجديدة عام1945، خان الخليلى عام1946، زقاق المدق عام1947، السراب
عام1948، بداية ونهاية عام1949، ثم الثلاثية الشهيرة “بين القصرين، السكرية،
قصر الشوق” التى نشرها 1956-1958) وإن كان قر كتبها فيما روى قبل ثورة
يوليو1952 وقد أرسى نجيب محفوظ فى هذه الأعمال دعائم هذا اللون من الإبداع.
وأعمال هذه الفترة
تجمعها حقيقة واحدة (الفقر)، والمادة هى العامل الأساسى والمحرك الأول للعلاقات
بين الشخصيات، وفى الوقت ذاته لا يغفل تلك العوامل الأخرى التى تؤثر فى تكوين تلك
الشخصيات وفى توجيه حياتهم.
مرحلة ما بعد
الواقعية:
فى هذه المرحلة
ارتقى “نجيب محفوظ” بالرواية العربية ولحق بركب الرواية الحديثة فى
العالم، بدأها برواية “اللص والكلاب عام1962” ثم توالى الأعمال
الروائية: “السمان والخريف عام1963″، “الطريق عام1964″،
“الشحاذ عام1965″، “ثرثرة فوق النيل عام1966″، “ميرامار
عام1967″، “أولاد حارتنا عام1967″، “الكرنك عام1969”.
ومجموعات قصصية: “همس الجنون عام1963″، “دنيا الله عام1963″،
“بيت سيئ السمعة عام1965″، “خمارة القط الأسود عام1968″،
“تحت المظلة عام1969”.
مرحلة ما بعد
السبعينيات:
كتب فى هذه المرحلة:
المرايا، الحب تحت المطر، حكايات حارتنا، قلب الليل، حضرة المحترم، ملحمة
الحرافيش، عصر الحب، أفراح القبة، ليالى ألف وليلة، الباقى من الزمن ساعة، أمام
العرش، ابن فطومة، العائش فى الحقيقة، يوم قتل الزعيم، حديث الصباح والمساء،
قشتمر.
ومجموعات قصصية:
حكاية بلا بداية ولا
نهاية، شهر العسل، الجريمة، الحب فوق هضبة الهرم، الشيطان يعظ، رأيت فيما يرى
النائم، التنظيم السرى، صباح الورد، الفجر الكاذب، إصدار السيرة الذاتية، القرار
الأخير، صدى النسيان.