الأمريكيون قدموا للمنطقة مفهوم الفوضي الخلاقة, وحركة حماس تهدي المنطقة فوضي الخلافة. الإسلاميون لا يعترفون بالدول والحدود, بالنسبة لهم نحن أمة إسلامية واحدة, فلا داعي للحدود ولا لجوازات السفر, يريدون العودة إلي زمن الخلافة. غضب بعض العرب عندما سمعوا بأن أمريكا تريد إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط, واليوم هم الذين يعيدون رسم الخارطة بأيديهم وأرجلهم, إذ يطالب البعض اليوم, وفي العلن, مصر بأن تقف مع حماس وأن تضع يدها في يد إيران لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. إذن, نحن تماما في حالة مواجهة بين الفوضي الخلاقة وفوضي الخلافة. كما وضعت الفوضي الخلاقة الولايات المتحدة في مواجهة مع دول المنطقة, ستضع فوضي الخلافة المنطقة العربية برمتها في مواجهة حقيقية مع نفسها. الفوضي الخلاقة هي معركة مع الخارج, أما فوضي الخلافة فهي تنقل المعركة إلي الداخل. إذن نحن ننتقل إلي الحروب الأهلية. المشكلة في عالمنا العربي اليوم هي عدم استطاعة أي منا الوقوف بوجه فوضي الخلافة.
في العالم العربي اليوم, أربعة أغطية جاهزة تستطيع من خلالها الجماعات أو الأحزاب أو الأفراد, أو حتي الدول, أن تشتم من لا تحب وتهين من لا تحب وترتكب كل المحرمات, طالما رفعت واحدة من تلك الشعارات أو الأغطية الأربعة. فإذا رفعت جماعة ما شعار الإسلام مثلا, فهي تستطيع أن تكفر من تريد, وأن تطلق من تريد من زوجته, وتحجب من تريد, وتسمي من تشاء شهيدا أو قتيلا حتي لو كان الاثنان (الشهيد والقتيل) من أبناء جلدتها ودينها. وباسم المقاومة, تستطيع أية جماعة أن تستبيح ما تريد من حدود الدول وحدود اللياقة. أما إذا رفع أحدهم شعار فلسطين, فيمكنه أن يرتكب كل المحرمات السياسية والاجتماعية. وأخيرا باسم العروبة والقومية الواحدة, لن يقف أحد أمام دولة مثلا, إذا ما قررت هدم بيوت الجيران أو غزو بلد عربي جار, كما فعل صدام في غزوه للكويت عام 1990, فنحن في البداية والنهاية أمة واحدة, ولا داعي لتلك التقسيمات القطرية التي صنعها الاستعمار.
تغاضي العرب عن العنف الثقافي واللفظي, الذي مارسته جماعات ترفع هذه الشعارات, فهل سيتغاضون اليوم عن تحول كلام الخلافة إلي سلوك؟ أعتقد بأنه متي تحول الأمر إلي سلوك, فلا بد من وقفة. ما حدث علي الحدود المصرية ـ الفلسطينية يحتاج إلي وقفة. إن تكسير الحد الفاصل بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية هو جرم سياسي بكل المعايير الدولية, مهما كانت الحجج والذرائع. سور غزة الذي هدمته حماس لم يكن حائطا يسهل تحطيمه كما وضحت الصور المتلفزة التي شاهدناها. سور الحدود هذا هو سور حديدي مثبت في الأرض ولا يمكن إزالته بهذه السهولة, الأمر يحتاج إلي تخطيط وإلي تدبير. فإن نجحت حركة حماس اليوم بالتعدي علي الحدود المصرية وانتهاك حرمات الحدود الدولية, فما الذي سنتوقعه من الحركات بعد ذلك.. اليوم مصر وغدا من؟ الحركات السياسية تجرأت لدرجة أنها تستطيع, وبتأييد شعبي وترويج من الإعلام الحكومي أحيانا, أن تنتهك محرمات السياسة والعلاقات الدولية, وهذا ما فعلته حماس بالحدود المصرية. لو قامت حماس بنفس السلوك في أي بلد عربي آخر يقيم فيه فلسطينيون لحوسبت علي فعلتها حسابا عسيرا.
إن انتهاك المحرمات السياسية في صورة هدم الحدود بين مصر وفلسطين, هو إسقاط لهيبة الدولة, بغض النظر عن نبل التفسيرات. للأسف بيننا من يصفق لهذا السلوك ظانا أنه سلوك عفوي, مع أن كل الدلائل تشير إلي أنه أمر مدبر.
لافت للنظر أن إسرائيل لم تتحرك للجم حماس, وهي الدولة الأقدر في الشرق الأوسط من حيث المعدات والعتاد والجيوش, وهي التي لم تسكت علي صاروخ حمساوي واحد. لم تتحرك إسرائيل لأن حركة حماس نجحت في ما فشلت فيه إسرائيل علي مدي صراعها مع العرب. إسرائيل أخفقت, بكل قوتها وجبروتها, في تمزيق وحدة الصف الفلسطيني, لكن حماس مزقت الفلسطينيين علي مستوي الجغرافيا والأيديولوجيا. حماس بإصرارها علي السيطرة الكاملة علي قطاع غزة ومعابره, فهي بذلك تتجه إلي حل الثلاث دول, الذي تحدثت عنه في مقال سابق بعنوان دولتين ونص, وتضيع بذلك علي الفلسطينيين استغلال الرؤية الجديدة التي أتي بها الرئيس الأمريكي جورج بوش في زيارته الأخيرة للمنطقة, وهي الرؤية المتعلقة بدولة فلسطينية مترابطة جغرافيا. اليوم, وبعناد حماس لم يعد التحام الضفة الغربية وقطاع غزة ممكنا. حماس تقوم بتصفية القضية لحساب إسرائيل, ونحن بسذاجة نهتف بـ(حماس) للتحرير الثاني, تحرير غزة من سلطة محمود عباس, من دون أن ندري أن في تحرير غزة تضييعا لكل القضية.
عناد حماس في السيطرة علي القطاع, قد يعني أيضا تصفية القضية الفلسطينية كما نعرفها, والعودة ستين عاما إلي الوراء, هذا في أحسن الأحوال وأحسن الظنون. أي أن تتسلم مصر إدارة قطاع غزة كما كان الحال قبل عام 1967, وبالمقابل تتسلم الأردن إدارة الضفة الغربية أيضا كما كان الحال قبل عام .1967 فهل هذا ما تريده حماس؟
هل تريد حماس أن يقيم الفلسطينيون بشكل مؤقت علي أرض سيناء, وتدريجيا يتحول الوضع المؤقت إلي وضع دائم؟ ألم يكن وجود الفلسطينيين في لبنان وضعا مؤقتا ذات يوم, وأصبح الحديث اليوم عن توطين الفلسطينيين في لبنان؟ ألم يكن وجود الفلسطينيين في الأردن وضعا مؤقتا, واليوم يتحدث الإسرائيليون عن أن الأردن هي فلسطين, أو فلسطين هي الأردن؟
الرؤية الإسرائيلية, كما طرحها أوزي أراد, المستشار السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت, في مؤتمر هرتسليا للدراسات الاستراتيجية في الفترة (من 20 ـ 23 يناير 2008,) نحو تصور جديد للسلام بين العرب وإسرائيل, أساس هذه الرؤية هو تعديل خرائط منطقة الشرق الأوسط بشكلها الحالي. أي أن يستقطع جزء من شمال سيناء ويعطي للفلسطينيين وتعوض مصر عن هذه الأرض في صحراء النقب. الإسرائيليون يقدمون هذا التصور علي أنه رحمة بالفلسطينيين المكدسين في تلك البقعة الصغيرة من الأرض كي تتسع بهم المساحات ويمكن لحظتها الحديث عن دولة فلسطينية لها القدرة علي الحياة. هذه الرؤية طرحت أيضا تعديل الحدود مع لبنان وسورية والأردن.. رؤية يجب علي العرب أن يقرأوها بشكل جيد. ويجب علي العرب أيضا أن يتفكروا جيدا في عدم الاهتمام الإسرائيلي بما فعلته حركة حماس علي الحدود المصرية, والذي يصنف في القاموس السياسي الإسرائيلي علي أنه انتهاك لمحرمات دولية, وهي الحدود.
موضوع فوضي الخلافة وصل إلي حد الخطر.. ولكن لا بأس في النهاية بقليل من الهزل: يحكي أن جماعة إسلامية من العرب المقيمين في غرب أمريكا, قررت إقامة دولة الخلافة في تلك البلاد الجديدة, علي أن تكون كاليفورنيا هي عاصمة الخلافة, وكعادة الإسلامويين, كل شيء قابل للأسلمة من البنوك إلي الدول مرورا باسم الولايات, كل ما نحتاجه هو تغيير بسيط وطفيف.. لذا فقد حولوا اسم الولاية من ولاية كاليفورنيا إلي خليفورنيا.