* * 5 ملايين جنيه فقط إجمالي تكاليف الفندق
* * الفندق يتحول إلي مستشفي للحلفاء مرتين
في مطلع القرن الماضي… طلب من مهندس معماري شهير اصطحابه علي ظهر حصان في الصحراء بالقرب من طريق السويس القديم. وصعد الرجلان هضبة صغيرة وضربت وجهيهما رياح جافة… وهنا قال رجل الصناعة البلجيكي البارون إمبان بإصرار أذهل المهندس: أريد بناء مدينة هنا, سيكون اسمها هليوبوليس أي مدينة الشمس.
وأطلق البارون العنان لنفسه وحقق المعجزة ونجح في تحويل هذه المساحة الجدباء الهائلة من الرمال والحصي إلي مدينة خضراء جميلة تكشف النقاب في مصر عن الوجه المختبئ لتاريخها الإغريقي.
وضمت تلك الضاحية الحدائق وفندق هليوبوليس بالاس الذي وصفته لوس دولارو ماردروس زوجة المترجم الشهير لرواية ألف ليلة وليلة بأنه قصر من قصور الأساطير العربية شيد وسط الرمال وجاءت مدينة لتحيط به. بني القصر ليكون فندقا ضخما يواكب الحركة السياحية الجديدة التي بدأت تتوافد علي مصر تشجيعا علي الإقامة في الحي الجديد… بدأ بناؤه بين عامي 1908 إلي 1910 علي طراز أفخم الفنادق الأوربية علي مساحة 40 ألف متر, وبلغت تكلفته الإجمالية بعد تأثيثه خمسة ملايين جنيه, وفازت رسومات المعماري البلجيكي أرنست جيسبار في المسابقة بتصميماته المميزة, وديكوراته الداخلية المأخوذة عن مصنفات للنقوش العربية رسمها عالم الآثار إميل بريس دافين وتولت تنفيذه وإقامته شركة ليون رولين-رولان وشركاه وشركة دينتا مارو وفيرو وهما من أكبر شركات المقاولات في مصر وقتئذ, وقام بأعمال الشبكات الكهربائية شركة سيمنز شوبرت-برلين الألمانية.
ومن أبرز معالم الفندق القبة الشهيرة المقامة علي 22 عمودا بارتفاع 55 مترا والواقعة فوق قاعة الاستقبال والتي تبلغ مساحتها 589مترا مربعا, وصمم هذه القبة المهندس ألكسندر مارسيل وزينها المهندس جورج لوي كلود الفرنسيان, أما نجف الفندق فقد صمم ونفذ علي الطراز العربي في دمشق, وغطت السجاجيد الشرقية أرضية الفندق بالكامل, وتم استيراد أثاثات الفندق بالكامل من لندن بعد أن صنعت من خشب الماهوجني النادر ما عدا غرفة الورق فكانت من باريس, وزينت صالات الفندق خصوصا القاعات الكبري بالمرايا من الأرض إلي السقف. وبهذا يعد الفندق رائعة أرنست جسبار وألكسندر مارسيل.
وفي أول ديسمبر عام 1910 تم افتتاح الفندق في حفل ضخم بعد تأثيث أربعمائة حجرة تأثيثا فاخرا و55 جناحا فاخرا لكبار الزوار, وحضر الافتتاح مالك الفندق مسيو ماركت ومعه لفيف من المشاهير في ذلك الوقت وعين أول مدير للفندق وهو هردرهوفر الألماني ومسيو بيدار مديرا للأغذية والمشروبات, ورئيس الطهاة الشيف جوين, وجاءوا جميعا من مطعم بايار الشهير في باريس. هذا ما جاء في كتاب ماجد فرج مصر المحروسة.
ولما كان البارون إمبان يتحين الفرص لاجتذاب الجماهير تجاه مصر الجديدة, فقد نظم أمام فندق هليوبوليس بدءا من سنة الافتتاح مسابقة جوية تمنح فيها مكافآت تشجيعية, وقد اشترك في هذه المسابقة فرنسيون وإنجليز وألمان وبلجيكيون, ونجحت هذه المسابقة في اجتذاب الزوار للفندق, كما أخذ يلفت الأنظار إليه من قبل الأجانب والمصريين نظرا لروعة قاعاته التي لا تقل جمالا عن قاعات القصور الملكية مثل عابدين والطاهرة والقبة ورأس التين ومن أشهر قاعاته قاعتا لويس 14, ولويس 15.
ومن العجائب غير المسبوقة في مصر أن المرافق والخدمات التي شغلت البدروم تحت سطح الأرض كانت من الاتساع بحيث استلزم الأمر لتسهيل تبادل الحركة بين تلك المرافق تجهيز البدروم بخط داخلي خاص من السكة الحديد تجري عليها عربات خاصة بالمبني لتربط بينها… وكانت هذه العربات تمر علي المطابخ, الثلاجات, المخازن, المكاتب, ومطعم العاملين.
واستمر الفندق في ازدهار وشهرة حتي أصبح أكبر فندق في أفريقيا والشرق الأوسط, وقد استولي الجيش البريطاني في بداية الحرب العالمية الأولي علي فندق هليوبوليس بالاس لتحويله إلي مستشفي عسكري لعلاج المصابين بسبب تعدد غرفة وكمال منشآته واستقبل ما يقرب من ألفين وخمسمائة مريض رغم أنه لم يكن مجهزا سوي لخمسمائة وعشرين سريرا, وبانتهاء الحرب عاد الفندق إلي مهمته الأولي وعاد إلي رونقه وازدهاره مرة أخري.
وانبهرت بالفندق شركات الطيران حتي اختارته ليقيم فيه الطيارون وأطقم الضيافة الذين يتوقفون ترانزيت في مطار ألماظة, حيث كان كل شئ معدا لتسليتهم والترويح عنهم قدر الإمكان خلال فترة إقامتهم في مصر الجديدة.
وكانت حدائق بالاس أوتيل غاية في الروعة حيث تأوي أنواعا متعددة من العصافير من بينها نوع كان يظل يزقزق وقت الغروب وهو الوقت الذي كانت تقام فيه حفلات الشاي الراقصة في خلفية الفندق, وفي هذا الوقت كان الخدم أغلبهم من النوبة ويرتدون الجلاليب التقليدية بألوان تدل علي درجة كل منهم في السلم الوظيفي بالفندق, وكان الزبائن يتبارون فيما بينهم في الأناقة. وعلي الرغم من أن رسم الدخول كان 35 جنيها مصريا ومع ذلك كانت عادات بعض سكان مصر الجديدة أن يلتقوا هناك يوميا, والبعض من سكان القاهرة الذين يقطعون المسافات الطويلة للجلوس والتمتع بحدائق بالاس أوتيل… كما ورد في كتاب ذكريات مصر الجديدة… ومن المفارقة أن أحداثه الاجتماعية هي التي كانت ذات الشهرة, وخاصة البار الشهير بزبائنه الرئيسيين ومنهم البارون -كما يقال- وبصحبة الملك فاروق.
أضف إلي ذلك الحفلات الراقصة رائعة الجمال مثل الحفل الراقص للأسرة البيضاء الصغيرة الذي ينظم كل ربيع بمبادرة من الملك فاروق ويعتبر حدثا. وكانت هذه الحفلات تتسم بالأناقة الغامرة, وكانت تعد بمثابة عرض حقيقي للأزياء الراقية حيث كانت السيدات يرتدين ثيابا من أكبر بيوت الأزياء العالمية. وأصبح الفندق ملتقي المشاهير وكبار الزوار, كما كانت تقام فيه أبهي حفلات الزواج, فمن بين أفخر حفلاته الجديرة بالذكر حفل زفاف ابن بوغوص نوبار باشا عام 1937 والذي حضره ألف مدعو. وفي أحد بدرومات الفندق تم تجهيز ملهي ليلي ترقص فيه كل ليلة راقصة شرقية مشهورة, وكان يتسع لما لا يقل عن مائة مدعو.
وعندما تحول الفندق إلي مستشفي عندما وصل الجيش الألماني إلي العلمين في الحرب العالمية الثانية تم التخلص من شاشات العرض والمسرح والمقاعد الخاصة بإحدي السينمات المكشوفة الموجودة في حدائق الفندق, وبعد الحرب العالمية الثانية استعاد فندق بالاس مكانته الأولي… وبدأ التحديث في كل أركانه حيث كان يوجد داخل نطاق مقدمة هليوبوليس بلاس أوتيل ناد للفروسية وكانت اسطبلات الخيول بعيدة وتوجد بالقرب من سنترال ألماظة الآن لإبعاد الروائح المنفرة… وألغي نادي الفروسية لبناء شارع كبير. أما الأنشطة الاجتماعية الراقية فقد انتقلت وقتها إلي الرواق ذي الشرفات الرائعة والمرتفع قليلا عن الأرض… وكان يقدم في أمسيات أيام السبت والأحد عشاء راقصا. وهناك قدم بوب عزام أغنيته الشهيرة مصطفي يا مصطفي… وأصبح هذا الرواق اليوم تابعا لمقهي جروبي.
وانتشرت السياحة في مصر, وانتشرت معها الفنادق علي ضفاف النيل مثل سميراميس وغيره -كما ورد في كتاب أحياء القاهرة المحروسة لعباس الطرابيلي- حيث تحول السياح عن فندق هليوبوليس بالاس وتوقفت الحياة في الفندق العريق وظل مهجورا إلي أن تم تحويله إلي مقر للحكومة المركزية عقب إعلان الوحدة بين مصر وسورية عام .1958 وفي الستينيات تحول إلي مكاتب حكومية توارثتها جهات عدة مثل اتحاد الدول العربية وحمل اسم البرلمان الاتحادي. ثم عاد الإهمال إلي المبني الكبير بغرفه وقاعاته إلي أن اختير في بداية الثمانينيات ليصبح مقرا رسميا للحكم في مصر, ويرجع السبب في اختياره مقرا للرئاسة هو قربه من إقامة رئيس الجمهورية. وتم إعداد الفندق لكي يلائم المهام الجديدة وتم تجديده بالكامل وطلاؤه باللون الأصفر… وعرف عند العامة بعدها بالقصر الأصفر.
وعادت الحياة إلي قاعاته وغرفه التي شهدت الكثير من المؤتمرات الاقتصادية والسياسية, وفي قاعته الرئيسية كرم الرئيس مبارك د.أحمد زويل بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للعلوم.
* * وهكذا عادت الأضواء والكاميرات إلي الفندق بعد مرور مائة عام علي إنشائه ودبت الحياة ليس فقط في الفندق بل في كل المنطقة المحيطة به.