إن الأدب يشبه الكائن الحي الذي لا يمكن تقطيع أوصاله إلي أعوام,بل هو حالة مستمرة مرتبطة بتراكمات الماضي التي لها تأثيراتها علي الحاضر والمستقبل,والأدب الفلسطيني يقدم مثالا حيا لمدي تأثر الأدباء والشعراء بالأحداث التي تعرضت لها القضية الفلسطينية علي مدار أكثر من نصف قرن,بداية منذ انهيار الدولة العثمانية عام 1914 ووقوع فلسطين بين مخالب الاستعمار البريطاني,وعد بلفور عام 1917م ,وانتهاء الانتداب البريطاني عام 1947,ثم استصدار الأمم المتحدة لقرارها بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب ,وبسبب رفض الفلسطينيين لهذا التقسيم أقيمت الحرب وهزمت الجيوش العربية عام 1948 واحتلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية بمساحات أكبر مما جاء بقرار التقسيم,ومرت السنون بلا أحداث تذكر حتي حدث العدوان الثلاثي علي مصر التي انتصرت سياسيا وانسحبت الدول الثلاث المعتدية,ثم جاءت نكسة 1967 التي بسببها احتلت إسرائيل القدس الشرقية والضفة الغربية وسيناء والجولان السورية,إلي أن جاءت حرب 1973 والعبور العظيم,ثم تلتها معاهدة كامب ديفيد التي اعتبرها العرب عارا,ورفض ياسر عرفات عرض السادات بالسلام وهاجمه ,ومنذ هذا التاريخ تحول دور مصر من قيادة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين إلي نوع من الوساطة في المفاوضات فيما بينهم.وخلال تلك الحقبة الزمنية التي استمرت أكثر من سبعين عاما قام الكثير من الشعراء والأدباء العرب والفلسطينيين باستنهاض الأمل في يوم الخلاص والتحرير,وظهر ما يسمي بأدب المقاومة الذي يبعث روح المقاومة والتحدي ويحفز الهمم ويناشد العرب بالقتال,من أجل الانتصار والاستقلال,وظلت هذه القصائد تحفظها الأجيال وتسلمها إلي الأبناء إرثا لا يتخلي عنه بأي حال من الأحوال.
جاوز الظالمون المدي
ظللت القضية الفلسطينية منذ مهدها تشغل بال الأدباد والشعراء إلي الدرجة التي جعلت الشاعر علي محمود طه يتنبأ بما تحمله السنون من أوجاع للشعب الفلسطيني,مناشدا العرب بالجهاد من أجل الحرية في قصيدته فلسطينحيث نراه يقول:
أخي,جاوز الظالمون المدي فحق الجهاد,وحق الفدا
أنتركهم يغصبون العروبة مجد الأبوة والسؤددا؟
وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتا لنا أو صدي
فجرد حسامك من غمده فليس له,بعد,أن يغمدا
ونراه في مقطع آخر من القصيدة يري أنه لا سبليل لرفع راية الحق خفاقة غير القتال فيقول:
فلسطين يفدي حماك الشباب وجل الفدائي والمفتدي
فلسطين تحميك منا الصدور فإما الحياة وإما الردي
هوامش علي دفتر النكسة
واستمرت القضية الفلسطينية موضع اهتمام الشعراء والأدباء,حتي أن الشاعر السوري نزار قباني شاعر العاطفة والغزل,وقصائد الحب المترفة تجده تحول عنها إلي كتابة القصائد السياسية الحادة التي تستثير الهمم وتنبه إلي الأخطاء,وتمارس النقد للحاكم والمحكوم,فمنذ نكسة 1967 انتقل شعره نقلة نوعية من شعر الحب إلي شعر السياسة والرفض والمقاومة,فكانت قصيدتههوامش علي دفتر النكسةالتي كتبها عام 1967 تنبض بالحزن والجرح حين يقول:
يا وطني الحزين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين
ثم قام بحكمة بالغة بتلخيص القضية العربية في عبارة واحدة,قائلا:
خلاصة القضية
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية…
ويثير نزار الدمعة في المقل حين نري حنينه إلي الوطن والهوية ينساب في تلك الأبيات من قصيدةطريق واحد
عشرون عاما..وأنا
أبحث عن أرض وعن هوية
أبحث عن بيتي الذي هناك
عن وطني المحاط بالأسلاك
أبحث عن طفولتي..
وعن رفاق حارتي..
عن كتبي..عن صوري..
عن كل ركن دافيء..وكل مزهرية..
عاشق من فلسطين
وحينما نتكلم عن المقاومة الفلسطينية لا يفوتنا أن نذكر أحد أهم شعراء المقاومة وهو محمود درويش الذي ولد عام 1941 في فلسطين,وفي عام 1948 لجأ إلي لبنان وهو في السابعة من عمره وبقي هناك عاما واحدا,عاد بعدها متسللا إلي فلسطين فقد كان يخشي أن يتعرض للنفي من جديد إذا كشف أمر تسلله ,ومع ذلك اعتقل أكثر من مرة منذ عام 1961 بتهم تتعلق بأقواله ونشاطاته السياسية,حتي عام 1972, حيث نزح إلي مصر وانتقل بعدها إلي لبنان,حيث عمل في مؤسسات النشر التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية,وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين,وأقام في باريس قبل عودته إلي وطنه والسماح له بالبقاء فيه,وكان من بين مؤلفاته:عصافير بلا أجنحة,أوراق الزيتون,عاشق من فلسطين وغيرها.
وحصل محمود درويش علي العديد من الجوائز منها:جائزة لوتسعام 1969 درع الثورة الفلسطينية عام 1980,وفي أغسطس الماضي رحل الشاعر الكبير عقب إجراء عملية جراحية في القلب بأمريكا ودفن في غزة بعد أن رفضت إسرائيل دفنه في مسقط رأسه في الخليل.
والقاريء لقصائد محمود درويش يري في قصيدتهعاشق من فلسطينمناجاة له كمحبوبته فيقول:
ليذكر جيلنا الآتي
مسار به إلي البيت!
فلسطينية العينين والوشم
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهم
فلسطينية المنديل والقدمين والجسم
فلسطينية الكلمات والصمت
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلاد والموت
حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حملتك زاد أسفاري
كما ينعي في قصيدتهيوميات جراح فلسطينيمنزل الأحباب الذي أصبح مهجورا, بسبب الموت الذي يدق علي كل باب.
العودة
وقبل أن يودعنا عام 2008 بأيام قليلة قامت إسرائيل بإطفاء شموع الأمل في عام جديد يتمتع فيه العالم أجمع بالسلام والخير,وذلك بسبب غارتها الجوية المكثفة علي المدنيين الأبرياء في غزة,وتزامن هذا مع إصدار الشاعر والأديب الفلسطينيسمير عطيةكتابا جديدا يحمل اسمديوان العودة تضمن مائة قصيدة شعرية مختارة من الأدب العربي,تحدثت عن فلسطين خلال أكثر من سبعين عاما.
واستطاع عطية في هذا الكتاب أن يزيل النقاب عن معلومات جديدة ومهمة, تتمثل في كون الشاعر أحمد محرم أول من أدخل مفردة نكبة فلسطين إلي الشعر العربي قبل وقوعها بخمسة عشر عاما, مشيرا إلي أن محرم شاعر مصري من أصول شركسية .
يقول محرم في قصيدته في حمي الحق ومن حول الحرم.
يا فلسطين اصطليها نكبة هاجها للقوم عهد مضطرم
وأشهديه في حماهم مأتما لو رعوا للضعف حقا لم يقم
وسلط عطية الضوء في هذا الكتاب علي نماذج أدبية للعديد من الشعراء,وقدم نصوصا شعرية متميزة تنشر لأول مرة,ويعتبر هذا بحد ذاته إثراء للتجربة الثقافية الفلسطينية والعربية, وخاصة أن شعراء فلسطين حظوا بنصيب مهم من هذا الكتاب علي اختلاف تجاربهم الثقافية وألوانهم الفكرية.
يتكون كتابديوان العودةمن ثلاث أبواب,جاء الأول منها تحت عنوان الوطن علي مرمي قصيدةواحتوي علي وقفات مع الثقافة الفلسطينية وما تواجهه من تحديات, إضافة إلي قراءات في النصوص الشعرية ودلالاتها.
أما الباب الثاني فجاء تحت عنوان قصائد ما قبل النكبةواحتوي علي 15 قصيدة, هذا بالإضافة إلي الباب الثالث الذي يعد أكبر أبواب الكتاب, وجاء تحت عنوانقصائد ما بعد النكبةوأشتمل علي ستة فصول جاءت عناوينها بشكل متتابع علي النحو التالي:تشريد ولجوء,خيام وآلام,الهزائم والسلام,مجازر وأوجاع,غربة وحنين,وأخيرا جاء الفصل السادس تحت عنوانعلي درب العودة.
كاتيوشا..يا سهم النار
وأخذ الهجوم البري الذي قامت به إسرائيل في مطلع هذا العام علي غزة يذيب القلوب ويشهد علي انعدام الإنسانية في القرن الواحد والعشرين, إلي الدرجة التي جعلت شعراء الغرب وليس شعراء العرب يكتبون قصائدهم التي تنعي زمن الحرية والسلام وأغصان الزيتون التي تفحمت,فكتب الشاعر البريطاني شين أوبرين في مقدمة قصيدته كاتيوشا قائلا:الشعر يسكن العالم مثل أي شيء آخروهو يحاول أن يخلق معني أدبيا للأحداث بما فيها الصراعات, وهذه القصيدة ليست رسالة,إنها تمثل الرعب في الأحداث التي تجري في غزة وخلال سطورها الثمانية عشر, فاللزمةكاتيوشا,كاتيوشاتتردد كصدي وخلفية عبر القصيدة, وقد طوعت اسم الصاروخ الذي يبدو كأنه مفردة للتصغير بالروسية, مثل لفظ تدليل الطفل,إنها صلاة وتهليل في الوقت ذاته تتحدث عن شيء مروع.
والجدير بالذكر أن الشاعر شين أوبرين أستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة نيوكاسل فاز بأهم جائزتين للشعر عام 2007 في المملكة المتحدة,وهما جائزة ت.س إليوت للشعر,وجائزة الفوروردقد صرح لصحيفة الجارديان البريطانية قائلا:إن الغطرسة في هذا الصراع تحول نوايا الصفح إلي غضب متزايد والنفوذ الدولي لا يفعل الكثير وإن سفاهة الأفعال تؤكد مرة تلو مرة وتؤدي إلي رعب بلا حدودوقامت الصحيفة في أول أيام هذه السنة بنشر قصيدته التي يقول فيها:
كاتيوشا,كاتيوشا
يا سهم النار.
ليأت ملكوتك,أليس كذلك
للأسفل أم للأعلي؟
مخنوق أنت في نفق
مع المورفين والخبز
أو متفحم في حطام
بستان الزيتون؟