استيقظت مدينة الإسكندرية في ذات صباح علي مولد فاروق عبد العزيز حسني عام1938,ذلك الشاب الذي ولع بالفنون إلي الدرجة التي جعلته يلتحق بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية عام1964,ولم تمنعه موهبته كفنان تشكيلي من شغل العديد من المناصب نذكر منها:رئاسته للمجلس الأعلي للآثار,والمجلس الأعلي للثقافة,وعضويته لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية,ولنقابة الفنانين التشكيليين,إلي أن توج ذلك المشوار الطويل بتوليه منصب وزير الثقافة منذ ما يقرب من عشرين عاما,ولعل ثراء خبراته التي اكتسبها من خلال موهبته إلي جانب ترحاله المتكرر وإقامته لسنوات طويلة في العديد من الدول الأوربية جعلت لديه العديد من الأطروحات للقضايا الثقافية والأدبية الموجودة علي الساحة والتي نستطيع استنباطها من خلال لقاءاته المتعددة مع المثقفين والمفكرين المصريين والأجانب داخل مصر وخارجها.
آمن فاروق حسني وزير الثقافة بأن الحضارة العربية أسهمت في التأسيس والبناء للحضارة الإنسانية عن طريق علماء وفلاسفة وأدباء وفنانين وأطباء عرب نشروا معارفهم وثقافاتهم وأتاحوها لأوربا لتضئ تاريخها وجنباتها فزادت حصيلة الحصاد الفكري المتنوع لدي الشعوب وامتلأت الساحة الدولية بالمعارف المختلفة,ومن هنا حلقت في الأفق كلمةالثقافة تلك الكلمة السحرية التي احتوت عمقا تاريخيا وحضاريا لابتكارات فكرية وعلمية وفنية وفلسفية لجميع شعوب الكوكب الذي نعيش عليه,ومن هنا أصبحت الثقافة كلمة لها شموخها وأصبحت الدول التي تمتلك حجما ثقافيا عظيما هي الدول التي تصيغ الحضارة التي عرفها الأديب السعودي سعيد البواردي قائلا:الحضارة ليست أدوات نستعملها ونستهلكها,وإنما هي أخلاق سامية نوظفها.
اليونسكو والتعددية الثقافية
ويذكر فاروق حسني العالم بالفقرة الخامسة من ميثاق الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تنص علي:ندين دون تحفظ جميع مظاهر التعصب الديني أو التحريض أو المعاقبة أو العنف ضد الأشخاص أو الطوائف علي أساس الأصل العرقي أو المعتقد الديني أينما تحدثذلك المبدأ الذي أقرته منظمة اليونسكو بأنه ليست هناك ثقافة أسمي من ثقافة ,وأن شعوب العالمي جميعا أسهمت في صناعة الحضارة الإنسانية,داعية إلي نشر ثقافة السلام التي نادت بها الزعيمة السياسية الأمريكية إليانور روزفلتقائلة:ليس كافيا أن نتحدث عن السلام,علينا أن نؤمن به,وليس كافيا أن نؤمن به,علينا أن نعمل من أجله,وإيمانا بحوار الثقافات يعلن فاروق حسني أن الاحتفال بذكري إقامة أولي المؤسسات الناطقة باللغة الفرنسية هو احتفال بالقيم المشتركة التي تجمع بيننا وبين اللغة الفرنسية التي تمثل عاملا للتبادل الثقافي والأخلاقي حيث إن علم المصريات بدأ علما فرنسيا أعطانا مفتاحا لفك طلاسم التاريخ القديم,ومن ثم أصبحت اللغة الفرنسية إداة لا غني عنها لمعرفة مصر القديمة,وبهذا تعمقت هذه العلاقات علي نحو أكبر من خلال اللغة,والفلسفة,والآداب حيث نسجت شعوب هذه المنطقة علاقات فكرية وعاطفية مع الفرانكفونية-تلك العلاقات التي أثبتت أن المصالحة بين الشرق والغرب ليست حلما رومانسيا ولكنها حركة ديناميكية وعمل جماعي ولعل هذا ما جعل ليوتولستوي يقولي:علي الإنسان أن يكون رحيما,لأن الرحمة تجمع بين البشر وأن يكون أديبا,لأن الأدب يوجد القلوب المتنافرة.
الفن مطرقة تعيد تشكيل الحقيقة
ويناشد فاروق حسني العالم بأسره داعيا إلي حركة ثقافية كبري تتكون من ثلاثة محاور الدين واللغة والفن,وبالنسبة إلي الدين ففاليية الشعوب تستظل بثلاثة أديان هي اليهودية والمسيحية والإسلام ومعتنقيها يجمعهم قيم مشتركة تحثنا علي توعية الأجيال بها وهي قيم السلام والتسامح ونبذ العنف,كما يقول الماهتما غاندي:الضعيف لا يمكنه الغفران,فالتسامح شيمة الأقوياء,أما اللغة فهي تعد أداة للتواصل بين الشعوب ووسيلة لفهم الآخر,لذلك يقولبول دونكان:إن الجاهل هو أكثر الناس تعصبا,أخيرا الفنون التي تؤكد أن حوار الثقافات قديم قدم الحضارة ذاتها,فلم تمنع ثقافات أوربا شيوع تأثير العمارة والفنون والآداب العربية,ولم تمنع الحملات العسكرية الشعوب العربية من الاستفادة من النهضة الأوربية لذلك يري الشاعر الألمانيبرتولت برشتأن الفن ليس مرآة للحقيقة بل مطرقة تعيد تشكيله.
حرية الإبداع
بؤرة ضوء أخري في مواقف الوزير الفنان نراها بوضوح أثناء الاحتفال بمرور ثلاثين عاما علي تأسيس اتحاد كتاب مصر,حيث أكد علي أن حرية الرأي والتعبير يكفلها القانون,ويسهر اتحاد الكتاب علي ضمانها وبذلك ألغيت الرقابة ولم يعد ممكنا أو مقبولا أن يجرم فكر,أو يحرم كاتب من التعبير عن مختلف التيارات السائدة في المجتمع,وكما يقول جورج برنارد شو:إن الحرية تعني المسئولية ولذلك يفزع منها معظم الناسلذلك يجب أن يدرك جميع الكتاب أن علي عاتقهم تقع مسئولية وطنية وقومية إلي جانب أنهم يمثلون ضمير الأمة الذين بهم ترتقي ثقافتها وبفكرهم وأقلامهم يتحقق الإبداع والتنوير وتعلو قيم العمل والتطوير وتنتشر روح التسامح وتنزوي روح التطرف.
يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامي:إن الثقافة هي صرخة الإنسان في وجه القدرلذلك أطلق فاروق حسني صرخة اعتراض علي كل من يزج بحرية الإبداع إلي غياهب السجون حيث أرضياته الباردة وإضاءته الخافتة وقضبانه التي تحجب طيور الحرية خلفها ,فقرر أن يطلق كروان الحرية في السماء ليمتع سامعيه بأجمل الألحان ولعل هذا استلزم منه أن يغامر بالدخول إلي تابوهات الدين والتقاليد والأعراف,معرضا نفسه لحروب يخشي الكثيرون الخوض فيها ولم يكن هذا بالأقوال فقط بل بالأفعال أيضا,ومن أشهر قراراته التي أثارت عليه النقد,قراره بنشر رواية وليمة لأعشاب البحرللكاتب السوري حيدر حيدر عام2000 فلا توجد سلطة دينية أو سياسية علي حرية الإبداع,وتكررت قضية حرية الإبداع مجددا عندما سقط كروان الحرية جريحا بعد أن أصدرت محكمة القضاء الإداري الحكم بسحب ترخيص مجلة إبداعالتي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة بسبب نشرها قصيدةشرفة ليلي مرادللشاعرحلمي سالموالتي اعتبرها الكثيرون مسيئة إلي الذات الإلهية متجاوزة بذلك جميع القيم الدينية الثابتة للمجتمع,وفي هذه القضية دخل وزير الثقافة إلي عش الدبابير وأمسك بسيف الفن الذي يعشقه ليحارب لصالح المثقفين وطالب بحرية الرأي والتعبير,ورفض سحب جائزة الدولة للتفوق في الآداب التي منحها لحلمي سالم.
تراث مصر ملك للبشرية
ويبقي لفاروق حسني تأكيده علي أن تراث مصر ملك للبشرية لذلك الحفاظ عليه بعد مهمة إنسانية تجاه الدنيا كلها ولحمايته كان يجب البدء بإجراء مسح شامل لكل الآثار وتقدير حالتها الراهنة والإقرار بإهمال البشر لها,ولأن الطريق إلي التقدم ليس سريعا وليس سهلا كما قالتماري كوري لذلك استلزم الأمر الاهتمام بتوعية الشعب بقيمة الأثر بصفته روحا حيا يبعث في الإنسان من حوله رؤية الفخر وتحدي الزمن وحب الحياة,ومن الأشياء التي تثير الفخر أن هذه الملمحة الكبري من التطوير اتسمت بالشمولية التي جعلت لكل تراثنا نفس القيمة والتقدير لأن صانعيه أجيال من الإنسانية أحبت الحياة وتاقت إلي الخلود,فتم ترميم وصيانة الآثار الفرعونية من معابد ومقابر ثم الآثار القبطية من أديرة وكنائس,تلتها الآثار الإسلامية من مساجد وأسبلةوأعقبتها المعابد اليهودية حيث تعد آثار هذه الحقب المتعددة تراثا للإنسانية جمعاء,كما أنه بكل هذه الإرهاصات تنوعت الثقافة وبها أثري الإنسان الإنسانية طوال تاريخها.
ويكون فاروق حسني للمرأة كل الاحترام حيث يعتبرها وحدة بناء المجتمع لذلك يتمني أن يطلق المجال لها في أدوار التبادل السياسي المعرفي بين مجتمعاتنا,أما الشباب فهم الطاقة الحقيقية لأي مجتمع والأقدر علي صياغة واقع ومستقبل مجتمعاتهم إذا تمكنا من إشراكهم في العملية القيادية سياسيا وثقافيا هذا إلي جانب منظمات المجتمع المدني التي تصوغ رؤي التعدد في أهداف مجتمعاتها هذا العدد والتنوع الذي يمكن صانعي القرار الاجتماعي من رؤية أوسع لمسئولياتهم وفاعلية أكبر لتوجيه الطاقات.