عيد الغطاس المجيد هو عيد العماد للسيد المسيح, وكان هو بدء خدمته العامة الجهارية, وكان في سن الثلاثين لميلاده بالجسد, أو للتجسد الإلهي, وهو عند بني إسرائيل, وغير بني إسرائيل, سن اكتمال الرجولة النفسية والذهنية والجسدية, أو هي سن الإنسان الكامل.
وتحتفل به كنيستنا القبطية في اليوم الحادي عشر من طوبة, ويقابل عادة التاسع عشر من شهر يناير – كانون ثان – وهو أحد أعيادنا السيدية الكبري.
ويذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب وكذلك المقريزي في كتابه الخطط أنه إلي أيام الأخشيديين والفاطميين كانت الدولة المصرية تحتفل رسميا بهذا العيد, وتوقد النار, وتضاء المشاعل, وتشعل الصواريخ, ويغطس الناس في النيل تبركا بهذه المناسبة.
وفي ترتيب الكنيسة القبطية إذا وقع عيد الغطاس في يوم أربعاء أو جمعة, فيفطرون فيه ولا يصومون, وإذا وقع اليوم السابق علي عيد الغطاس في يوم سبت أو أحد, فلا يصومون فيهما, وإنما يصومون يوم الجمعة السابق علي الغطاس.
وفي عيد الغطاس أو العماد أعلن الآب السماوي, بصوت واضح مسموع, أن يسوع الذي غطس وتعمد هو ابن الله, صورة الله غير المنظور, بمعني أن يسع في صورة الإنسان هو بذاته الصورة المنظورة لله الذي لا يري, فيسوع هو ابن مريم, وفي نفس الوقت هو ابن الله. وهو ابن الله لا بالمفهوم الجسداني المادي والحسي كما في عالم الإنسان والحيوان, ولكن بالمفهوم الروحاني نور من نور. وشهد الآب السماوي قائلا: أنت هو ابني حبيبي الذي به سررت (مرقس 1: 11), (لوقا 3: 22), هذا هو ابني حبيبي الذي به سررت (متي 3: 17).
وقد كان هذا الصوت الإلهي من السماء واضحا وعلي مسمع من الجميع, وكان مصحوبا بظواهر حسية مرئية ومسموعة من يوحنا المعمدان ومن جميع الناس, ومن الكائنات غير المنظورة من الملائكة والشياطين… قال الإنجيل وفي تلك الأيام جاء يسوع من الناصرة بإقليم الجليل إلي يوحنا في الأردن ليعتمد منه. ولكن يوحنا اعترض قائلا: أنا محتاج أن أنال المعمودية منك وأنت تأتي إلي؟ فأجاب يسوع قائلا له: اسمح بهذا الآن, لأنه هكذا يليق بنا أن نتمم كل بر, ومن ثم طاوعه, واعتمد من يوحنا في الأردن, حتي إذا اعتمد يسوع صعد توا من الماء, وعلي الفور فيما كان صاعدا من الماء رأي السماوات تنشق, قد انفتحت له, والروح القدس, روح الله, ينزل بهيئة جسمية, في شبه حمامة, ومقبلا عليه, ويستقر علي رأسه. وإذا صوت يجئ من السماء, قائلا: أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت.. هذا هو ابني حبيب الذي به سررت (متي 3: 13-17) (مرقس 1: 9-11), (لوقا 3: 21, 22).
هذه الشهادة العلنية بصوت من السماء, بعد أن انشقت السماء وانفتحت ونزل منها الروح القدس, روح الله, بهيئة جسمية مثل حمامة مقبلا علي يسوع المسيح وهو صاعد من الماء بعد عماده توا وصوت الآب السماوي أنت هو ابني.. هذا هو ابني حبيبي…. أوضحت حقيقتين عظميتين:
الحقيقة الأولي: أن يسوع بن مريم هو ابن الله بمعني أنه من طبيعة الله ومن جوهره, وأنه فيه يري الناس الله الذي لم يره أحد من الناس قط (يوحنا 1: 18) ولا يستطيع أن يراه (1تيموثيئوس 6: 16).
الحقيقة الثانية: أن الله الواحد في طبيعته وجوهره وذاته العلية, ذو ثلاثة أقانيم فالآب يشهد عن الابن والروح القدس روح الله يظهر في هيئة جسمية في شبه حمامة, ويقبل علي الابن المتجسد ويستقر علي رأسه.
ولهذا يسمي عيد الغطاس باسم آخر له دلالته, وهو عيد الظهور الإلهي (ثيئوفانيا Theophania) بمعني أن الله الواحد الأحد أظهر ذاته في ثلاثة أقانيم بغير انقسام. والأقانيم ليست أجزاء في الله الواحد, لأن الله لا ينقسم ولا يتجزأ, ولكنه واحد ذو ثلاث خاصيات أو صفات ذاتية تقوم بها ذاته العلية. وقالت آباء الكنيسة الله أحدي الذات, مثلث الأقانيم والصفات.
وصفات الله الذاتية أو أقانيمه هي غير صفاته النسبية.
إن لله صفات نسبية كثيرة, تعد بالعشرات أو المئات وربما أكثر. إنما صفاته الذاتية التي تقوم بها ذاته العلية ثلاث: فهو أصل الوجود الكائن بذاته, ولذلك فهو الآب. والآب لفظة سامية تعني الأصل.
والله الواحد هو العقل الأعظم أبو جميع العقول. ولما كان الله قد تجسد في المسيح. فالمسيح هو الله الكلمة لأن الكلمة تجسيد للعقل.. إذ العقل غير منظور, لكنه يظهر ويتجلي ويتجسد في الكلمة.. ومع أن الكلمة من العقل لكنها لا تنفصل منه, والعقل لا يسبق الكلمة في الزمن, والكلمة لا تتخلف عن العقل في الزمن, لأنه حيثما كان العقل ففيه الكلمة باطنة أو ظاهرة, هي منه, ومعه, وفيه, ولا تنفصل عنه.
ولما كان الله قد تجسد في المسيح, فالمسيح هو الابن في الثالوث لأنه من طبيعة الله الآب ومن جوهره. ولأن من رآه فقد رأي الآب. (يوحنا 1: 18), (14: 9). والابن من الآب لكنه لا ينفصل عنه.
مثله مثل أشعة الشمس إلي الشمس ذاتها, منها وفيها ولا ينفصل عنها ثم هو معها منذ وجودها, فحيثما كانت الشمس كانت أشعتها, منها وفيها ومعها بغير انفصال.
وبهذا المعني قال المسيح إنه مرسل من الآب, والإرسال هنا ليس من خارج الذات الإلهية كإرسال الأنبياء والرسل, ولكنه كإرسال الشمس لأشعتها, إرسال من الذات وفي الذات. وبهذا المفهوم قال المسيح الله لم يره أحد قط, الابن الوحيد الذي في حضن الآب أي في ذات الآب هو الذي أخبر عنه (يوحنا 1: 18).
وأما الروح القدس فهو روح الله, لأن الله روح لا مادة. وعلي ذلك فالروح القدس ليس جزءا من الله, لكنه هو الله الحي بروحه.
وإذن فالله الواحد هو الآب وهو الكائن بذاته وهو الآب لأنه الأصل الأول لكل الوجود.. وهو العقل الأعظم, والناطق بكلمته فهو العقل, وهو الكلمة, وهو الابن.
والله هو الروح الأعظم, وهو لذلك الحي الأعظم, الحي القيوم والحي بروحه.
فالتثليث المسيحي ليس تثليث ذوات, بل هو تثليث أقانيم. أما الله فواحد أحد. والمسيحيون يجهرون في قانون الإيمان الذي يرددونه في صلواتهم الخاصة والعامة بقولهم بالحقيقة نؤمن بإله واحد. وإذ ينطقون البسملة يقولون باسم الآب والابن والروح القدس, الإله الواحد. فالله واحد واسمه واحد. ولذلك يرددون القول باسم أي أن الاسم واحد بالمفرد, وهو اسم الله الواحد الأحدي الذات, المثلث الأقانيم والصفات.
والمسيحيون لا يجدون تعارضا أو تناقضا بين قولهم بالله الواحد, وبين قولهم بثالوث الأقانيم. فالوحدانية هي من حيث الذات, وأما التثليث فهو من حيث الأقانيم أي الخاصيات والصفات الذاتية التي تقوم بها الذات الإلهية.
وعلي ذلك فالتثليث في المسيحية يختلف اختلافا جذريا وأساسيا عن أي نوع آخر من التثليث قال به الوثنيون. فقد كان قدماء المصريين يقولون بثالوث هو أزوريس, وإيزيس, وحورس لكن هذا التثليث المصري القديم هو ثالوث آلهة, لا تثليث أقانيم. فأزوريس إله, وإيزيس إلهة, وحورس إله, فهم ثلاثة آلهة, لكل منهم كيانه وشخصيته مستقلا عن الآخر. ثم إن هذا التثليث المصري القديم تثليث خلقه التزاوج بين أزوريس وإيزيس, وكان حورس هو نتيجة التزواج بين أزوريس وإيزيس. فهو تثليث له نظائره في كل أسرة وعائلة من بين الناس. فالرجل يتزوج بامرأة, ومنها يولد ولدا هو ثمرة التزاوج بين الرجل والمرأة.
فما أبعد الفرق بين الثالوث القدوس الذي أعلن عن ذاته في نهر الأردن بمناسبة عماد المسيح أو الغطاس, وبين الثالوث الذي قام به المصريون القدماء في العهد الوثني.
وكذلك قل عن أي تثليث آخر من نوع التثليث الذي عرفه المصريون القدماء, أو عند الهنود أو عند العرب في الجاهلية.
إن تثليثنا المسيحي ليس كمثله شيء.. إنه تثليث أقانيم أو خاصيات أو صفات ذاتية, وليس تثليث آلهة أو ذوات.
فالله واحد أحد ولا يمكن إلا أن يكون واحدا.
قال الوحي الإلهي علي فم القديس بولس الرسول لا إله إلا واحد. وإن وجد ما يسمي آلهة في السماء كان أو علي الأرض. وأما عندنا, الله واحد: الآب الذي منه كان كل شيء ونحن أيضا به (1كورنثوس 8: 4-6).
وثمت أعمال متنوعة, ولكن الله واحد, الذي يعمل الكل في الكل (1كورنثوس 12: 6).
واحد هو الله, أبوالكل, الذي هو فوق الكل, وبالكل, وفي الكل (أفسس 4: 6).
علي أن التثليث المسيحي ليس من ابتكار المسيحيين, بل هو حقيقة أعلنها الله ذاته عن ذاته. وليس للمسيحيين فيها دور أكثر من أنهم قبلوها كإعلان إلهي وآمنوا بها بعد أن أعلنها الله ذاته, مثلها مثل جميع الحقائق الدينية المعلنة في الكتب المقدسة.
فالإنجيل يتكلم عن الله الواحد, ويتكلم عن الآب والابن والروح القدس, معلنا ومبينا أن الآب والابن والروح القدس إله واحد, ويتكلم عن الله الآب, ويتكلم عن الله الابن, ويتكلم عن الله الروح القدس – ويقول عن الآب إنه الله, وعن الابن أو الكلمة أو المسيح إنه الله, وعن الروح القدس إنه الله. وليس هناك نص واحد يقول إن الآب والابن والروح القدس ثلاثة آلهة, كما أنه ليس هناك نص واحد يدل علي انقسام في الذات الإلهية أو انفصال بين الأقانيم أو تجزئة, أو أن هناك ثلاثة كيانات مستقلة أحدها عن الآخر. وإنما علي العكس هناك عشرات النصوص التي تدل قاطعة علي وحدانية الذات الإلهية. ولذلك فإن ترديد المسيح المستمر أنه مرسل من الآب هو لبيان أنه ليس إلها بذاته منفصلا عن لآب, وذلك لكي يطمئن بني إسرائيل وغير بني إسرائيل أنه وإن كان عمل أعمالا لم يعملها أحد غيره (يوحنا 15: 24), وكان يجري كل أنواع المعجزات بسلطانه المطلق, ومن دون أن يستمد قوة من خارج ذاته, لكنه مع ذلك كان حريصا علي بيان أنه واحد مع الآب (يوحنا 10: 30), وأن كل ما يصنعه من معجزات يعمله مع الآب, وليس منفصلا عن الآب. وهذا هو معني قوله الحق الحق أقول لكم: إن الابن لا يسعه أن يعمل من نفسه شيئا (يوحنا 5: 19) أي أن جميع أعماله يعملها مع الآب لأنه علي ما قال مرارا إني أنا في أبي, وأبي في (يوحنا 14: 10, 11, 20), (10: 38), (17: 21).
نعم, إن التثليث المسيحي ليس اختراعا بشريا, إنما هو حقيقة إلهية منزلة من السماء.
قال المسيح لتلاميذه وهو يوصيهم بعد قيامته بنشر دعوته فاذهبوا إذن وتلمذوا جميع الأمم, وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس (متي 28: 19).
ومن هنا كانت المعمودية المسيحية التي رسمها المسيح بعماده في نهر الأردن وأمر بها تلاميذه, هي باسم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس, ولذلك جرت المعمودية حسب التعليم الإنجيلي والتقليد الرسولي, بثلاث غطسات في جرن المعمودية علي اسم الثالوث القدوس.. ومن ثم حرصت الكنيسة المسيحية علي الالتزام بصيغة واحدة للعماد علي اسم الثالوث القدوس: أعمدك يا فلان باسم الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس.
وكذلك البركة الرسولية يمنحها الرسل, والأساقفة والكهنة من بعدهم باسم الثالوث القدوس:
يقول الرسول القديس بولس لأهل كورنثوس في ختام رسالته الثانية إليهم نعمة ربنا يسوع المسيح, ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس, معكم جميعا آمين (13: 14).
إن عيد الغطاس هو عيد تأسيس المعمودية المسيحية بعماد المسيح بالتغطيس في نهر الأردن, راسما بذاته الطريق والمدخل إلي ملكوت السماوات في الأرض وفي السماء الحق الحق أقول لك: إن الإنسان ما لم يولد ثانية من فوق, لا يمكنه أن يري ملكوت الله… الحق الحق أقول لك إن الإنسان ما لم يولد من الماء والروح لا يمكنه أن يدخل ملكوت الله (يوحنا 3: 3, 5).
كما أنه هو عيد الظهور الإلهي, فيه أعلن الله بذاته عن ذاته, وأنه الواحد الأحد, هو الآب والابن والروح القدس, معا ثالوث في واحد, وواحد في ثالوث من غير انفصال في الذات, ثالوث متمايز الصفات, أحدي الذات.