الأساس في العلاقات الدولية أنها, كما يشير اسمها, هي علاقات بين دول يحكمها القانون الدولي واتفاقيات بين دول وأعراف دولية, وحين تسيطر تحركات قادة الحركات علي المشهد السياسي والإعلامي في منطقة ما من العالم, تصبح العلاقات مش دولية, وإنما علاقات دول بحركات, أو علاقات حركة بحركة, وليس في كل حركة بركة كما يقال. وليست هناك منطقة في العالم يذوب فيها الخط الفاصل ما بين الدولة والحركة أكثر من منطقة الشرق الأوسط, بما فيها إسرائيل وإيران وتركيا. منطقة بدا فيها واضحا أن هناك دولا لا يضيرها أن تتدني من مرتبة الرشد والدولة, إلي المراهقة والثورة والحركة. فإيران, وبعد مرور ثلاثين عاما علي الثورة الإسلامية, ما زالت تري في نفسها أنها حركة وثورة. ثلاثون عاما لم تكن كافية لإيران أن تنتقل فيها من حالة مراهقة الحركة إلي رشد الدولة, لذا فهي تعتمد في تعزيز مكانتها علي تقوية علاقاتها بالحركات لا الدول, وما استقبال إيران لخالد مشعل في الأسبوع الفائت إلا تعبير عن حركية النظام لا دوليته.
تنقل مشعل في فضاء الحركات, لذا كانت معظم زياراته إلي ما يمكن تسميته بـالدولة ـ الحركة, علي غرار الدولة ـ الأمة أو الـnation-state, حيث غادر مشعل إيران, ومنها توجه إلي ليبيا والسودان, واستقبل هناك من قبل أكبر قيادات البلدين. خالد مشعل بصفته قائد حركة يشتم تلك الرغبة الدفينة لدي بعض الأنظمة التي تراودها شهوة الحركة المنفلتة علي حساب رشد الدولة الصارم والملتزم, لذا إذا تتبعنا خط سيره نجده يتحرك في فضاء الحركات لا في فضاءات الدول, ولا أقول فضائياتها. وفي أحسن تقدير, فإن مشعل يتحرك في الخط الفاصل ما بين الدولة والحركة. الأصل في العلاقات الدولية هي الدول كوحدات تتفاعل في النظام الدولي, ومجموعة قيم وقوانين حاكمة للعبة بين هذه الوحدات (الدول) تتخذ إطارا مؤسساتيا في منظمات إقليمية ودولية, كالأمم المتحدة والجامعة العربية مثلا, وبيئة ومناخ تتحرك فيها هذه الوحدات. وهنا سؤال كبير عن تلك الفجوة أو الفراغ في العلاقات الدولية الذي تركته الدول في منطقتنا حتي بدأت الحركات في ملئه, هل هو فراغ ناتج عن عدم قدرات هذه الدول؟ أم أن مؤسسات العلاقات الدولية والقوانين والأعراف المنظمة لها بدأت في الترهل والتآكل فلم يبق هناك رادع للحركات في أن تهدم ما بقي منها؟
ظني أن دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الكويت الاقتصادية لنبذ الخلافات بين الدول العربية, كانت في المقام الأول من منطلق المحافظة علي منطق الدولة والعلاقات الدولية ضد ذهنية منطق الحركة والثورة. ورغم أن الموقف السعودي كان متشددا في البداية حول بعض الملفات العالقة بين السعودية وبعض الدول العربية, ورغم أهمية تلك الملفات وحساسيتها بالنسبة للمملكة, إلا أن السعودية تجاوزتها ورجحت عليها أهمية سيادة منطق الدولة في الإقليم الذي بات مهددا وبشكل فعلي من منطق الحركة الذي يعني بالضرورة تراجع دور الدولة. بلا شك أن تتخذ السعودية هذا الإجراء التصالحي, فمعني ذلك أن منطق الحركة قد وصل لدرجة يصعب السكوت عنها.
المشكلة هي أن لدينا في منظومة الدول العربية, بعض الدول وبعض القيادات ممن يري في نفسه قائدا لحركة لا لدولة, وأن بعضهم يري أن التلويح بيده لجماهير ملتهبة الحماس يرضي في داخله غرورا, ففي نظره الدولة إلي زوال والبقاء للزخم الثوري وللحركة. لذا وجدنا بعض الدول العربية تتنازل طواعية عن حقوقها كدولة وتتدني من سلم العلاقات الدولية إلي العلاقات الـمش دولية, وبالتالي يجب ألا نلوم المجتمع الدولي الذي بدأ ينظر إلي هذه الدول علي أنها حركات وليست دولا, يفرض عليها الحصار أحيانا, والحجر علي قادتها أحيانا أخري, أو حتي جرجرة بعضهم إلي المحاكم الدولية, حالة الرئيس البشير هي المثال الأوضح.
تري هل هناك تفسير لهذا السلوك في منطقتنا؟ لدي تفسير يبدأ من الفرد ثم يتحرك في اتجاه الحركة والدولة, ولدي تفسير آخر يخص خصائص النظام الإقليمي للعلاقات الدولية وكذلك طبيعة الدولة, ولكنني سأبدا بالفرد, لأعود إلي التفسيرين الآخرين في مقالات لاحقة. أعتقد, بلا شك, أن لب المشكلة لدينا هي تلك الرغبة الملحة بأن يعترف بنا, مشكلة الإنسان العربي اليوم هو عدم الاعتراف به كمواطن في دولة أو جزء من مجتمع أو كإنسان ناجح يستحق الاحترام. حياتنا, بداية من البيت إلي المدرسة إلي مكان العمل, تغالبها عقدة نقص الاعتراف, لذا تجدنا نتبني كل استراتيجية وتكتيك موجود لنظهر في الصورة, أي صورة كانت, في القرية أو في المدينة أو في الحكومة أو في المجتمع, سياستنا كلها يمكن أن نطلق عليها سياسة المظاهر أو politics of appearance, نزين بيوتنا من الخارج من أجل الآخر, ونلبس أجمل ثيابنا عندما نخرج من البيت لا في داخله, ونشتري أحدث سيارة وأحدث موبايل, ونبالغ فيما يميزنا عن أبناء أوطاننا, رغم أن الرغبة الطبيعية للإنسان هو التكيف مع المجتمع لا التظاهر عليه برموز القوة والفخامة. ودولنا كأفرادنا تعاني من مركب نقص الاعتراف, فرغم وجود مقاعد لها في الأمم المتحدة, إلا أنها دائما ما تشتهي أن تكون في شوارع منهاتن تحمل لافتات الاحتجاج ضد نظام هم أعضاء فيه.
لابد أن المواطن في كثير من الدول العربية لاحظ تلك الحالة الشاذة والفريدة من بعض قادتنا الذين يكونون في الحكم ويتبنون خطاب المعارضة, فيدبجون الخطب المطولة عن فساد نظام هو نظامهم في المقام الأول, يتحدثون ضد فساد النظام الذين هم علي رأسه, لا توجد هذه الظاهرة إلا في العالم العربي, أو في معظمه, حتي نكون منصفين. ما أود أن أقوله هو أن مركب نقص عدم الاعتراف هذا هو الذي يفسر تلك الشهوة لدي بعض دولنا أن تكون في صفوف الحركات لا في مصاف الدول.
وإذا ما نظرنا إلي الحالة الفلسطينية, فرغم كل ما نقوله عن شوقنا لميلاد الدولة الفلسطينية, إلا أن خطاب حركة حماس, الذي لم يشر من قريب أو بعيد إلي مسألة هذه الدولة, هو الذي يلقي ترحيبا جماهيريا عربيا, أو علي الأقل هذا ما يصوره الإعلام العربي لنا. خالد مشعل في كل ما يقوله, يريد ثورة دائمة وحركة دائمة ونضالا إلي آخر الزمان مهما كانت تكلفته, أما محمود عباس وجماعته, مهما كان تحفظنا عليهم, فهم يريدون أن يدخلوا عالم الدول, ومع ذلك لا يلقون الترحيب الجماهيري الذي تلقاه حركة حماس.
السؤال بالنسبة للعرب اليوم: هل ينتصر في فلسطين منطق الدولة علي منطق الحركة, وهل تتبني الدول العربية جماعة الدولة لا جماعة الحركة؟..من هنا أنظر إلي دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز في تغليب منطق الدولة علي منطق الحركة, علي أنها البداية السليمة للانتقال من مراهقة الحركة إلي رشد الدولة, ومن العلاقات الـمش دولية إلي العلاقات الدولية..وللحديث بقية.