عصر الإسكندرية الذهبي إن هذا العنوان لكتاب الدكتور نبيل راغب يجعلنا نعود إلي الخلف لآلاف السنين حيث كانت الإسكندرية تعيش في قمة عصورها الإنسانية التي إذا تمت مقارنتها بما يحدث في هذه الآونة لوجدنا أن الفجوة بينهما تكاد تكون مرعبة – فجوة تبعدنا كثيرا عن الإسكندرية في عصرها الذهبي التي كانت تعد واحدة من عواصم الحضارة المصرية مثلها في ذلك مثل طيبة وممفيس من قبل, بحيث تحولت الحضارة الهلينية ثم الرومانية إلي مجرد مرحلة من مراحل الحضارة المصرية العريقة.
يقدم الدكتور نبيل راغب رؤية مصرية علمية لعصر الإسكندرية الذهبي بعد أن تعددت الرؤي اليونانية والرومانية القديمة وكذلك الرؤي الغربية التي طمست دور الرافد المصري المتدفق بأمواج الحضارة الذي أمد الإسكندرية بكل منابع العلوم الطبيعية والإنسانية والفنون والآداب وجعل منها عصرا ذهبيا للحضارة الإنسانية جمعاء.
لذلك فإن هذا الكتاب يثبت بالوثائق والأدلة والاستنباطات التاريخية أن الإسكندرية في عصرها الذهبي كانت أوضح وأخصب نبع حضاري للحضارة الهلينية ثم الرومانية سواء فيما يتصل بمكتبة الإسكندرية أو مدرستها وعلمائها الرواد في مجالات: الدين والعلم والفن سنذكرهم بعد قليل, ولم يكن الخير العميم الذي تمتعت به الإسكندرية سوي الفيض المقبل من الأراضي المصرية ذاتها بحيث مكن ملوكها وكبار رجال المال والأعمال فيها من السيطرة علي التجارة العالمية.
الإسكندرية.. مدينة الجمال
ويعود بنا الدكتور نبيل راغب إلي بداية بناء الإسكندرية علي يد الإسكندر الأكبر الذي عهد بتخطيطها إلي دينوقراطيس الروس الذي كان أعظم المهندسين المعماريين في عصره وعاش حتي زمن بطليموس الثاني. وبدأ العمل في بناء المدينة مع بدايات حكم بطليمس الأول الذي منح كل تشجيعه وتأييده ومساندته لهذا المشروع الذي احتل مساحة ضيقة من الأرض, يحدها من الشمال البحر المتوسط ومن الجنوب بحيرة مريوط, وقد اتخذت شوارعها شكل رقعة الشطرنج وقسمت المدينة إلي خمسة أقسام, وقد شغلت القصور الملكية ومعها المعابد والحدائق العامة حوالي ربع أو ثلث المدينة, وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت بوتقة انصهرت فيها كل الأجناس التي وفدت إليها بحيث انقطعت صلتها تقريبا بالمناطق التي جاءت منها, وبذلك جسدت الإسكندرية بمفردها نظرية الإسكندر في وحدة العالم حتي تجمع بين الاختلافات الفكرية والدينية في حضارة مدينة واحدة.
العقل المصري القديم
وتؤكد فصول هذا الكتاب علي مدي التأثير المصري الحاسم والواضح علي كل مجالات الحياة اليونانية سواء كانت علمية أو دينية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية, فالعلماء والمهندسون والرحالة والجغرافيون والمؤرخون الأدباء اليونانيون لم يتقوقعوا في الإسكندرية بل جابوا الأراضي المصرية طولا وعرضا بحثا عن أسرار حضارتها العجيبة, ومن الواضح أن كل إعجاز علمي أو عندي أو معماري قاموا بزيارته ودراسته, كان يشكل تحديا لكل العلوم والمعارف التي بلغوها, ولنا أن نتخيل ذهول المعماريين اليونانيين عند وقوفهم أمام الأهرامات وأبي الهول والدير البحري أو الكرنك أو أبي سبمل, أما مكتبة الإسكندرية التي كانت أشهر المكتبات في العهد القديم, فإنها لم تكن المكتبة الوحيدة علي أية حال, كما أنها لم تكن أقدم المكتبات لأنه من المؤكد أن مجموعات من أوراق البردي كانت موجودة في مصر, وهذه المجموعات كانت تشكل مكتبة زاخرة بكل فروع المعرفة – والثقافة – بدليل الحضارة المبهرة التي واكبتها, ولابد أن تكون مكتبة الإسكندرية قد استفادت من هذه المكتبة المصرية خاصة أن كثيرا من الكهنة والعلماء المصريين في عهد الإسكندرية الذهبي كانوا يجيدون اللغة المصرية واللغة اليونانية, فلم تكن لفائف البردي المصري سرا مغلقا علي العلماء والفلاسة – اليونانيين, ومن هنا كان سعي بطليموس الأول لجميع الكتب الموجودة في المعابد المصرية وجعلها نواة للمكتبة ومصدرا سياسيا لكل فروع المعرفة الإنسانية.
كان بطليموس الأول في تأسيسه لمدرسة الإسكندرية أيضا ذا نظرة بعيدة المدي, فقد كان متحمسا لقيم الحضارة الهلينية.
كما كان بطليموس الأول في تأسيسه لمدرسة الإسكندرية أيضا ذا نظرة بعيدة المدي, فقد كان متحمسا لقيم الحضارة الهينية, كما كان عليما بإنجازات الحضارة المصرية, كما لمس اعتزاز الإسكندر الأكبر وتقديه لكل قيم مصر الدينية والحضارية فأراد أن يقيم مؤسسة علمية تتراوح فيها الحضارتان.
أم حضارات البحر المتوسط
إن علاقة مصر بشعوب البحر المتوسط علاقة ترجع إلي العصور القديمة, ففي المتحف المصري بالقاهرة هناك لوح نصر من الجرانيت للملك تحتمس الثالث, يري الملك في أعلاه مصحوبا بآلهة جبانة طيبة وقد محيت المناظر التي عليه في عصر إخناتون لكنها أعيدت إلي أصلها بعد ذلك, وتشمل هذه النقوش قصيدة توضح كيف مكن الإله ابنه تحتمس من الانتصار علي بلاد النوبة وبلاد ما بين النهرين وفينيقيا وفلسطين وغيرها من البلاد, وشهد تاريخ الفكر المصري المعاصر تأكيدا لهذه العلاقة القديمة, ففي عام 1938 أصدر طه حسين كتاب مستقبل الثقافة في مصر الذي أكد فيه علي أن اليونان في عصورهم الراقبة يروون أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها الرفيقة, وأن العقل المصري كان أكبر العقول التي نشئت في هذه الرقعة معه الأرض وأبلغها أثرا, وقد سبق طه حسين مارتن برنال بنصف قرن حين أصدر كتابه الرائد أثينا السوداء من جزأين عام 1987 و1991 وأكد فيه أن الحاضرة اليونانية كلها من أصل فرعوني, وأن مصر الفرعونية هي أم حضارات البحر المتوسط وليست إحدي الحضارات وأنها كانت البوتقة التي انصهرت فيها الأجناس من كل لون, والقاعدة التي انطلقت منها كل العلوم والمعارف والفلسفات والأفكار والفنون والآداب.
مدرسة الإسكندرية
تعد مدرسة الإسكندرية آخر مرحلة من مراحل الحضارة الإنسانية قبل الميلاد, ولذلك فإن مصطلح مدرسة أكثر شمولا وأكثر دقة من الموسيون التي أطلقت علي ذلك المعهد العلمي التاريخي, أن هذه الكلمة تعني دار آل الموساي أي ربات المعرفة وهن بنات الإله زيوس والإلهة منيموسوني أي آلهة الذاكرة وهن راعيات العلوم الإنسانية وعددهن تسع وهن: كلايو ربة التاريخ ويو تربي ربة الشعر الغنائي وثالايا ربة الكوميديا والشعر الفكاهي وملبوميني ربة التراجيديا والشعر التراجيدي, وتربسيخوري ربة الرقص والموسيقي, وإيراتو ربة شعر الغزل, وبوليمينيا ربة الأناشيد, ويورانيا ربة الفلك, وكاليوبي ربة شعر الملاحم, وكان أبوللو إله الغناء زعيما لهن جميعا.
إن النموذج الأصلي لمدرسة الإسكندرية كان يتمثل في تلك الأكاديميات المنتشرة في اليونان بصفة عامة وأثينا بصفة خاصة مثل أكاديمية أرسطو وأكاديمية أفلاطون غير أن الصورة تفوقت علي الأصل, فلم تعد تلك الأكاديميات شيئا بالقياس إلي مدرسة الإسكندرية, التي أنشأها البطالمة, ولاشك أن بطليموس الأول في تأسيسه لمدرسة الإسكندرية كان متأثرا بالأكاديميات اليونانية, فمدرسة الإسكندرية من حيث مبانيها وحدائقها وقاعاتها كانت تشبه أكاديميات أثينا, وقد استعان بخيرة ديمتريوس الفاليري في تأسيسه لمدرسة الإسكندرية التي ازدهرت في عصر بطليموس الثاني حيث سرعان ما تحولت إلي مكان للدراسة والتعليم, حيث كان العلماءيلقون محاضراتهم في شتي فروع العلوم والإنسانيات والفنون والآداب, الأمر الذي لاشك فيه أن المدرسة قد حافظت علي التراث اليوناني ولولاها لاندثر الكثير من هذا التراث وضاع, وإذا كان بعض المؤرخين يعتبرون المدرسة مركزا للبحوث العلمية والمكتبة مركزا للدراسات الإنسانية إلا أنها كانت أيضا قسما ضروريا من أقسام المدرسة, ومن هنا يتضح أن العلاقة كانت وثيقة وعضوية بين المدرسة والمكتبة سواء في البقعة التي كانت تضمها سويا أو في خضوعهما لنفس الأوامر الملكية المباشرة الصادرة إليهما, فقد كانت المكتبة بمثابة العقل لأقسام المدرسة المختلفة – كما كان النشاط العلمي موزعا بين المدرسة والمكتبة, إنه من الصعب في كثير من الأحيان تحديد مكان أنشطة علمية كثيرة في المدرسة وحدها أو المكتبة وحدها.
علماء الإسكندرية
أفرزت مدرسة الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية علماء بارزين في شتي مجالات المعرفة العلمية والفكرية والفنية, ومن أشهر هؤلاء العلماء البارزين:
* هيرومتاليس الذي قام بتأسيس طب علمي يعتمد علي ممارسة تشريح الإنسان الحي.
* زينيدوتوس الذي ولد عام 325ق.م, وشغل منصب رئيس المكتبة, وكان يدرس مؤلفات هوميروس وحقق نص الأوديسا والإلياذة كما قام بتصنيف الملاحم اليونانية والأشعار الغنائية.
* أيولونيس عام (295 – 125ق.م) فهو شاعر ملحمي يوناني ولد بالإسكندرية وكان رئيسا لمكتبة الإسكندرية (260 0 247ق.م).
* أراتوسثنيس (273 – 192ق.م) أكثر علماءا لقرن الثالث تميزا حيث قام بعمل مراجعة شاملة للخريطة الجغرافية.
* ديمتريوس الفاليري الذي ولد عام 350ق.م, وهو مؤسس فكرة مكتبة الإسكندرية الذي قام بجمع النواة الأولي للكتب بها.
* كاليماخوس (310 – 240ق.م) من أبرز كتاب الشعر السكندري, وكان أمينا لمكتبة الإسكندرية, وبنسب له أهم عمل بيلوجراف وهو تجميع سجلات المكتبة في 12 مجلدا لجمع الكتب الموجودة بها.
* إراز ستراتوس (300 – 250ق.م) تزعم حركة الطب الجديد مع هيروفيليس.
* إرستاخوس (127 – 43ق.م) كتب 1800 مؤلف في شرح كتب القدماء وشملت الأعمال الكلاسيكية اليونانية كلها.
* أرستوفاينس (257 – 180ق.م) وهو من الشخصيات المهمة في مجال النقد الأدبي وقام منفردا بتحقيق كامل لنصوص الملاحم والشعر الغنائي والشعر التمثيلي اليوناني من العصر الكلاسيكي وله بعض الأعمال السياسية.
هذه هي الإسكندرية وعلماؤها في عصرها الذهبي.. فهل من عودة لهذا الزمن الجميل؟!