في مايو 1989 فتحت الحكومة الإصلاحية المجرية حدودها مع النمسا قبل عدة شهور من تحطم جدار برلين, وفي 4 يونيه 1989 حققت المعارضة البولندية أول فوز في انتخابات حرة تجريها دولة شيوعية, وفي 9 نوفمبر 1989 اندفعت الحشود لتحطيم جدار برلين الشهير, في 22 ديسمبر فتحت بوابة براندنبرج رمز تقسيم المانيا, وفي 30 ديسمبر اجتمع عند بوابة براندنبرج 50 ألف شخص من جميع أنحاء العالم للاحتفال بعصر جديد, وجاء أول يناير 1990 ليشكل لحظة تفاؤل حقيقي وعظيم وهائل لمستقبل جديد للإنسانية. بعد أن كلفت الشيوعية العالم نصف قرن من الحروب الباردة والساخنة.
كان سور برلين رمزا لمدينة مقسمة في دولة مقسمة في قارة مقسمة في عالم مقسم بين معسكرين, وشكل سقوط السور النهاية الحقيقية للحرب العالمية الثانية والتي تركت نتائجها معلقة منذ مؤتمر يالطا(4-11 فبراير1945) حيث لم تنته الحرب العالمية الثانية بمعاهدة سلام قاطعة , وتوالت النتائج الحقيقية التي شكلتها رمزية سقوط السور,انتهي كل هذا التقسيم بنهاية الحرب الباردة, وسقطت الشيوعية سقوطا مدويا, وتفكك الاتحاد السوفيتي إلي خمس عشرة دولة, ولم يبق من هذا النظام برمته إلا ذيول صغيرة في كوبا وكوريا الشمالية ينظر العالم لشعوبها بأسي علي هذه السجون التي يعيشون فيها, ويشكل جدار ماليكون بين كوريا الشمالية والجنوبية آخر الحواجز التي تحيط ببقايا دول الستار الحديدي, هذه الدول التي كانت تخشي مواجهة الحرية والديموقراطية وتحبس شعوبها في مجتمعات شديدة الإنغلاق حتي لا تعرف ما يدور حولها في العالم وحجم البؤس الذي تعيش فيه, ويكفي القول إن الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الشمالية عام 2008 يعادل 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية عن نفس السنة, وأن الذين هربوا من جحيم الشيوعية من ألمانيا الشرقية إلي إلمانيا الغربية في الفترة من عام 1949 حتي 1961 يشكلون حوالي 3 ملايين شخص من أفضل الكفاءات في الشطر الشرقي من ألمانيا وقتها, وهذا الفرار الجماعي كان السبب الرئيسي وراء بناء السور والذي بدأ العمل به في 13 أغسطس 1961 بطول 165 كيلومترا يتخلله 302 برج مراقبة وبارتفاع حوالي خمسة أمتار .
لقد عاش العالم علي أعصابه طوال نصف قرن تخللتها أحداث محفورة في ذاكرة التاريخ, الجسر الجوي لبرلين المحاصرة عام 1948, الحرب الكورية (1953-1950), إطلاق السوفيت للقمر الصناعي عام 1957, بناء جدار برلين عام 1961, خطاب كيندي أمام السور مطلقا عبارته الشهيرة ## إني مواطن من برلين##, أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962,حرب فيتنام, غزو السوفيت للمجر عام 1962, ولتشيكوسلوفاكيا 1968, حرب النجوم وتحدي إمبراطورية الشر في عهد ريجان, تحولات جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي عام 1985, وصرخة ريجان في وجهه أمام بوابة براندنبرج في 21 يونيه 1987 ##يا سيد جورباتشوف حطم هذا الجدار##. والآن يقول المحللون أن الموضوع كان مبالغا فيه بدرجة كبيرة ,وأن النظام الشيوعي كان مفلسا عقائديا وغير كفء اقتصاديا وبدائيا من الناحية السياسية وكانت نهايته حتمية, وأن هذا الخلاف الفلسفي علي شكل نظام الحكم في القارة الأوربية وفلسفته لم يكن ينبع من كراهية وإنما تجربة لنظرية جديدة في الحكم تصور واضعوها إنها ستمثل طفرة في تحقيق العدالة والمساواة والرخاء لمجتمعاتهم, وفشلت هذه النظرية في نهاية المطاف مع الأحلام الرومانسية في العدالة علي الأرض, ومن ثم كان خلافا محكوما بتطبيق هذه النظرية واختبارها علي أرض الواقع.
هناك من يري أن 9 نوفمبر عام 1989 لم يكن بأهمية أول فبراير عام 1979 حيث هبطت طائرة أير فرانس تحمل الخوميني إلي طهران لتندلع الثورة الإسلامية في إيران لتدشن هذه المرة حربا شرسة للصراع بين الحضارات والثقافات والأديان, وأن الكراهية التي انطلقت عام 1979 من الجانب الإسلامي هي سمة رئيسية في هذه الحرب التي سوف تشكل الملمح الرئيسي للقرن الحادي والعشرين باكمله, وأن الغرب حتي الآن لم يبلور استراتيجية واضحة لمواجهة هذه الحرب الجديدة.
علي أن هناك من يري أن هناك محطات رئيسية اتبعت مع العدو الشيوعي وعلينا اتباعها مع الأصولية الإسلامية مثل نظرية احتواء الشيوعية, وإذاعة أوربا الحرة, اتفاقية هلسنكي, برنامج كارتر لحقوق الإنسان, الرسالة المسيحية للحريات والكرامة الإنسانية التي أطلقها البابا يوحنا بولس….. وكل هذه الأمور تنطلق من المنافسة علي كسب العقول والقلوب, ولكن يشكك البعض الآخر في جدوي هذه الاستراتيجية مع الأصولية الإسلامية, فهل هناك أكثر مما قدمته الولايات المتحدة للرائد نضال مالك حسن الذي احتضنته وعائلته من المخيمات إلي واحدة من أجمل ولايات أمريكا في فيرجينيا ليتعلم بعد ذلك في أرقي التخصصات وأعلاها دخلا في أمريكا وهو الطب , وليحصل علي مرتب سنوي بعد ذلك يعادل مرتب ألف أستاذ جامعة مصري عن نفس المدة… فهل نجحت معه استراتيجية كسب العقول والقلوب؟ وكيف يمكن أن تثمر استراتيجية فكرية من منتجات القرن الحادي والعشرين مع شخص يعيش بعقلية القرن السادس الميلادي وببدوية وجلافة وجفاف الصحراء, وهل يمكن مقارنة سكان أوربا الشرقية بالمجاهدين في أفغانستان والصومال وأدغال اليمن؟ وأي برامج هذه التي يمكن أن تبدل عقول بظلامية عقل الزرقاوي وبن لادن والظواهري ومحمد عطا؟.
نعم سقط حائط برلين ولكن الغرب يواجه عدوا لا مثيل لقسوته ودمويته وعشقه للخراب وله تجربة تاريحية طويلة في الغزو والقتل وتدمير الحضارات, وعلي الغرب أن يشحذ كافة عقوله للبحث عن استراتيجية مجدية لمواجهة هذا العدو الشرس الجديد .