قمنا بالثورة… دفعنا ثمن الحرية من دماء أبنائنا… فهل نسلم مصر إلي جماعة ظلت عقودا طويلة محظورة… وأنا هنا لا أنكر عليهم شرعيتهم بل وحقهم في الحصول علي نسبة في البرلمان كفصيل يجب تمثيله… لكن أن نجد هذا الفصيل وقد سيطر علي مقدرات شعب بأكمله… ثم يضع لنا الدستور هذا ما لا يمكن قبوله أبدا… فالنتائج الأولية للفرز في المحافظات التسع التي جرت فيها المرحلة الأولي للانتخابات تشير إلي أن التحالف الديموقراطي ##حزب الحرية والعدالة## الذي هو الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين يهيمن علي معظم الأصوات… وصفتنا وسائل الإعلام بالشعب العظيم العريق الذي تفوق علي نفسه لينتقل إلي الديموقراطية… ونسي الجميع الدوافع التي تكمن وراء من تهافتوا علي الاقتراع… تلك الدوافع التي ظهرت جلية للجميع لكن غض الناس البصر عنها آملين في غد أكثر إشراقا لمصر…
فرغم أن البعض ذهب للانتخاب بدافع وطني خالص النية للفرار من المناخ السياسي المتخبط والوصول إلي حالة الاستقرار المنشود… إلا أن بعض المسلمين توجهوا إلي صناديق الاقتراع دفاعا عن الهوية الإسلامية لمصر وخوفا من حصول الليبراليين والأقباط علي أصوات مرتفعة ##فتقوي شكوتهم ويتفرعنوا## هكذا قال البعض… ولم يتغير الأمر كثيرا لدي المسيحيين الذين تدافعوا خشية قدوم الدولة الدينية وإرساء دولة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية فتصبح مصر دولة وهابية… تحولت المعركة الانتخابية للمرة الثانية بعد معركة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية إلي معركة دينية… بعد أن قام كل فريق بحشد أنصاره للتصويت لصالحه وشن حملات التشويه علي الفريق الآخر… فعلينا ألا نخدع أنفسنا بعرس الديموقراطية الوهمي الذي تشدق به كثيرون.
قوائم الكنيسة بين الوصاية والنفي
المعركة صارت شهادة للدين… فالمسيحيون ألقوا بكل قوتهم علي الكتلة المصرية باعتبار أنها التكتل الوحيد المعروف لديهم فأفقدوها الكثير… فأتت الرياح بما لا تشتهي السفن بعد أن انتشرت أخبار القوائم المزعومة ورسائل الهواتف التي أرسلت عبارات التأييد للكتلة… حتي إن أنصار الحرية والعدالة والنور السلفي شطبوا في بعض المناطق كلمة الكتلة المصرية من اللافتات وكتبوا بدلا منها الكتلة الصليبية… وبدأوا التشويه لقوائمها وزعموا أنها ##قائمة النصاري## التي تريد محو الهوية الإسلامية عن مصر رغم أن 80% من مرشيحها مسلمون… وبالطبع عندما نتحدث عن المرجعيات الدينية تفوز الأغلبية العددية وهو منهج مجرب في استفتاء مارس الماضي… لكن للأسف كررنا نفس الأخطاء بحذافيرها… نعم أثبتت التجربة أن الليبراليين واليساريين منضم إليهم المسيحيون… إن لم يعملوا في الشوارع والحارات لن يكونوا قوة عددية تضمن لمصر مدنيتها… ورغم أن التاريخ لن ينسي لنجيب ساويرس راعي حزب المصريين الأحرار أنه ضم تلك الكتلة من الليبراليين واليساريين حتي تعتدل كفة الميزان وتحتفظ مصر بجزء من هويتها المدنية… إلا أن ذلك كله لن يفلح إن لم تعمل تلك القوي في الشارع البسيط البعيد عن النخبة.
الثورة مستمرة
أما قائمة الثورة مستمرة التي تضم حزب التحالف الاشتراكي والتيار المصري وائتلاف شباب الثورة… وغيرها من الأحزاب ذات الطابع الاشتراكي… فأجمل تعبير سمعته تعليقا علي عدم إحرازها أصواتا لائقة هو ما قاله أحد المراقبين في عمليات الفرز ##الشعب بينتقم من ثورته وماختارش التحالف اللي فيه ائتلاف شباب الثورة اللي ضحوا بدمهم علشان يجيبوا الحرية##… سمعته ولم أنطق نهائيا فنفس الانطباع غلبني ولنفس الدوافع التي ذكرتها سلفا… وهي دوافع ##الهوس الديني## بالدرجة الأولي… وتساءلت: متي تنتقل مصر لديموقراطية حقيقية بعيدا عن النوازع الدينية؟… عامل الوقت في تنظيم الصفوف الحزبية الجديدة كان عاملا مهما ولأن الدستور أولا كان من الممكن أن يحل الإشكالية التي تعيق إرساء ديموقراطية حقيقية فتناقصت فرص الأحزاب البعيدة عن الصراعات في تعريف الشارع بنفسها أنها إشكالية وضعتنا فيها القرارات الخاطئة… وللأسف كانت علي حساب مصر والمصريين.
الفرز… مولد وصاحبه غائب
ذهبت إلي مجمع جلال فهمي في المظلات بشبرا لأتابع عملية الفرز لدائرة شمال القاهرة… دخلت أثناء الفرز لم يستوقفني أحد… لم يطلع شخص علي بطاقة هويتي أو كارنيه نقابة الصحفيين… لم يكن معي تصريح للمتابعة ولا كانت مندوبة لأي من المرشحين… وبالرغم من ذلك مررت بكل يسر وسهولة إلي السرادق المخصص للفرز… هالني ما رأيته من فوضي وزحام لا يمكن معه لأي شخص مهما كانت نزاهته أن يؤدي مهمته بنزاهة أو يعكس نتائج حقيقية… فالقضاة والموظفون يكتظون في السرادق… والصناديق تأتي تباعا فليس لها مكان للفرز… أناس من كل شكل ولون… مندوبون… مراقبون منظمات مجمع مدني… موظفون… آخرون غير معلومي الهوية… الكل ##محشور في السرادق… لا يمكن لمتابع أن يرصد الأصوات… الصناديق تأتي فلا تجد موقعا تستقر فيه… يفترش القضاة أرض مدرسة جلال فهمي يجلسون في حدائقها المتفرقة… فهذا خلف السرادق وذاك أمامه وآخر يصعد إلي أحد الفصول بالمدرسة… وغيرها من المخالفات الفجة… الأوراق ملقاة إلي جوار الصناديق علي الأرض… أوراق الاقتراع الفارغة المتبقية من كل لجنة وإلي جوارها… الأوراق التي تم الاقتراع فيها يختلط الحابل بالنابل ويسهل التزوير والفبركة… حرج شديد شجار في كل ركن…قضاة منهكون إلي حالة الإعياء وآخرون أصابهم الإغماء… في ظل هذا المشهد قالي لي مراقب ##ما يحدث مهزلة بكل المقاييس ماذا لو أمطرت السماء الآن هل سيحملون الصناديق هربا من الأمطار وإلي أين سيهربون الفرز أصبح في الشارع##… كل الحق لتعليقه… تركته لأتوجه إلي موظفة كل ما يهمها هو ما عبرت عنه قائلة: ##ماعندكيش فكرة يا أستاذة عن الفلوس اللي هايدهولنا؟## سألتها فلوس أيه؟… قالت ##فلوس الموظفين كان المفروض يدونا 350 جنيه لليوم يعني 700 في اليومين سمعنا أنهم هايدونا حق يوم واحد بس أيه الغلب ده##… تركتها وتوجهت لآخرين… لم أتمكن من سماع تعليقاتهم بسبب ما أصاب الوضع من فوضي شديدة وهرج نتيجة إطلاق أعيرة نارية في الهواء في محاولة من الجيش لتفريق الناس ومنح القضاة فرصة للفرز… لوم يحدث فاضطر المستشار معتز خفاجي مشكورا لإبطال نتائج الدائرة… وترك الصناديق هو ومن معه من القضاة ليرحلوا وسط حراسة أمنية مشددة لنستقبل أخبار بطلان دائرة شمال في فرح شديد بعد ما رأيناه من مخالفات جسيمة وصلت إلي حد أن بعض أوراق الاقتراع كانت في أيدي العديد من الموجودين ورحلوا بها عن المدرسة… ثم نفأجأ في اليوم التالي بتكذيب الخبز وتنحي المستشار خفاجي وتكليف آخر بمهمته… ويزعم رئيس اللجنة العليا للانتخابات أن الصناديق كانت مؤمنة تماما رغم أننا حضرنا الفرز ورأينا ما جري بأعيننا… إنها مسرحية هزلية بكل فصولها… ولكن لم أكن أتوقع أن الهزل فيها يصل إلي حد التراجع عن قرار البطلان بعد كل ما شاب عملية الفرز في الدائرة الأولي… إلي متي نتعامل مع الوطن بمنطق التوازنات؟… إلي متي لا نستمع لثوار التحرير الذين كثيرا ما نادوا بمدنية الدولة والدستور أولا… ولم يستمع إليهم أحد… هل ننتظر جرحي وشهداء جدد لننتقل إلي الديموقراطية الحقيقية بعديا عن المسرحيات الهزلية… أم أن آلهة الحرية ما زالت تبتغي مزيدا من القرابين؟