كانت – وربما لا تزال _ الدول النامية تنظر إلي إنتاج وتصنيع المركبات _ سواء كليا أو جزئيا – كإنجاز عظيم, بل كدليل وبرهان علي اجتيازها المرحلة الزراعية إلي المرحلة الصناعية. وكلنا يذكر أن مصر الناصرية في أوج بروزها, وضمن شعارها القائل ##سنحقق الاكتفاء الذاتي, وسنعتمد علي أنفسنا في التصنيع من الإبرة إلي الصاروخ## عمدت إلي الترويج لنفسها كبلد صناعي متفوق عبر طرح نسخة رديئة من سيارة ##فيات## الإيطالية بالتعاون مع مصانع ##زاستافيا## اليوغسلافية, و نسخة أخري قبيحة الشكل من سيارة ##برينز## الألمانية تحت اسمي ##نصر## و##رمسيس## علي التوالي.
وعلي المنوال نفسه, ولكن انطلاقا من قاعدة صناعية أكثر صلابة واقتدارا, طرحت دول أخري سيارات للركاب أو للنقل أو للشحن. نذكر منها إيران التي طرحت في عهد الشاه سيارات ##بيكان## (تم تغيير اسمها ابتداء من عام 2005 إلي ##ساماند##), وإندونيسيا التي صنعت سيارة ##تيمور## في عهد ديكتاتورها السابق سوهارتو (عبر دمج نسختين لسيارتي ##كيا## الكورية و ##مازدا## اليابانية) وماليزيا التي سوقت بنجاح منذ عام 1983 سيارة ##بروتون##.
وكانت هناك , بطبيعة الحال, دول عمدت إلي عملية تجميع مكونات السيارات اليابانية والامريكية والأوربية داخل أراضيها عبر استثمارات مشتركة. من هذه الدول تايلاند, وتايوان, وكوريا الجنوبية, ثم البرازيل التي أنتجت سيارتي ##بينتو## و##فييستا## بالتعاون مع شركتي ##فيات## و##فولكس فاجن##, علما بأن كوريا الجنوبية بزت كل هذه الأقطار, وصارت اليوم اسما كبيرا في صناعة المركبات بمختلف أشكالها وأحجامها واستخداماتها.
لكن في سياق هذا الحديث, لا بد من الوقوف مليا أمام حقيقة بروز دولتين آسيويتين كبيرتين في عالم صناعة المركبات بثبات, ونعني بهما الهند والصين اللتين صارتا في السنوات الأخيرة منافستين قويتين لكبار صناع ومنتجي المركبات علي مستوي العالم.
و إذا كانت الهند قد سبقت الصين بسنوات طويلة في إنتاج وتصدير الشاحنات وحافلات الركاب عبر شركتها الرائدة ##تاتا##, ثم أتبعت ذلك مؤخرا بطرح سيارات الركاب الصغيرة ذات الأسعار المنخفضة كي تكون في متناول الملايين من سكانها من الطبقة الوسطي المتنامية عددا, ونقصد بها سيارة ##نانو## التي لا يزيد سعرها علي 2500 دولار , فإن قطاع صناعة السيارات في الصين باتت تشهد انتعاشا ملحوظا لم يسبق له مثيل, وإن قيل أن ما ينتجه هذا العملاق من المركبات رديء الصنع, أو يخلو من وسائل الأمان والسلامة ذات المعايير الدولية, أو أن تصاميمها مسروقة من تصاميم السيارات اليابانية والكورية والأوربية ( علي نحو ما قيل عن سيارة ##كيو كيو## الصينية الصغيرة التي وجهت أصابع الاتهام إلي منتجها لسرقته أساليب إنتاج يابانية, وتصاميم أمريكية لسيارة ##شيفروليه سبارك##.
وتـرجع الزميلة الهندية ##براكريتي جوبتا## في تحقيق صحفي مطول كتبته أخيرا, أسباب صعود الهند المذهل في صناعة المركبات _ رغم وجودها حاليا في المركز السابع عالميا _ وقدرتها علي إنتاج سيارة واحدة في كل دقيقة (أنتجت في عام 2009 وحده 2.6 ملايين سيارة) إلي عوامل عديدة مثل: الإمكانات الهندسية القوية, والخبرة المتراكمة, ورخص الأيدي الفنية العاملة, والتوسع الكبير في استثمارات الشركات الأجنبية المصنعة للمركبات مثل ##هيونداي## الكورية, و ##نيسان## و##تويوتا## و ##سوزوكي## و ##هوندا## اليابانية, و##فولكس فاجن## الألمانية, و##رينو## الفرنسية, و##جنرال موتورز## الأمريكية. هذا ناهيك عن عامل مهم آخر هو الخبرات والامكانيات التي اكتسبتها الهند كنتيجة لاستحواذها في عام 2008 علي مصانع سيارات ##جاجوار## و ##لاندروفر## البريطانية, شراء من مالكها السابق ##فورد موتورز##.
غير أن أحد العوامل القوية الأخري, من وجهة نظري, هو الطلب المتزايد في السوق الهندية علي شراء المركبات الخاصة, في ظل تحسن مستويات الدخول الفردية في العقدين الأخيرين. وربما ما يؤكد هذا العامل هو التوسع الهائل من قبل منتجي المركبات العالمية في استثماراتهم داخل الهند, وجهودهم من أجل تعزيز تواجدهم داخل السوق الهندية بشتي الوسائل. علاوة علي هذا, يمكن أن نسوق دليلا آخر هو سعي الصين الحثيث ( عبر شركاتها المعروفة مثل: ##سايك##, و##فوتون##, و##فاو##, و##تشيري##, و##جيلي##) في العامين الأخيرين لإيجاد شركاء عالميين أو شركاء هنود من أجل إنتاج مركبات صغيرة, منخفضة التكاليف, وذات قدرة علي توفير الوقود, خصيصا لتصديرها إلي الأسواق الهندية, وكي تنافس سيارات ##نانو## الهندية لجهة الأسعار. ويقال في هذا السياق إن هدف الصين النهائي يتجاوز تصدير النوع الأخير من المركبات إلي الهند, وبيعها هناك بسعر 2250 دولارا, بمعني أنه يشمل أيضا تصدير الشاحنات والحافلات وسيارات الشباب الرياضية في وقت لاحق.
والمعروف أن الصين – طبقا لتحقيق الزميلة ##جوبتا## _ قد تخطت في عام 2006 اليابان (صاحبة المركز الثاني عالميا في إنتاج المركبات), كما تخطت في العام الماضي الولايات المتحدة الأمريكية (صاحبة المركز الأول عالميا), وصارت تنتج كل أنواع المركبات بدءا بالحافلات وسيارات الركاب الصغيرة, وانتهاء بالشاحنات وسيارات الشحن والنقل الكبيرة. كما أنها في محاولة لتقليد الهنود استحوذت علي ملكية شركة ##فولفو## السويدية, شراء من شركة ##فورد## الأمريكية. إضافة إلي دخول إحدي شركاتها المعروفة وهي ##شانغهاي أوتوموتيف كار## في العام الماضي في شراكة مع ##جنرال موتورز## الأمريكية, بهدف إنتاج المركبات التجارية الرخيصة.
لكن ماذا عن إنتاج السيارات الكهربائية في عالم يعمل المستحيل من أجل المحافظة علي البيئة ومحاربة الانبعاث الحراري؟
هنا أيضا نجد المنافسة محتدة ما بين العملاقين الآسيويين الصناعيين. فلئن كانت الهند دشنت في العام المنصرم سيارتها الكهربائية الأكثر مبيعا في العالم والمعروفة باسم ##ريفا##, فإن الصين تحاول اليوم الرد عبر تطوير سيارة كهربائية أقل سعرا, وذلك عبر تعاون إحدي شركاتها الرائدة في صناعة البطاريات وهي ##بي واي دي## مع شركة ##ديملر## الألمانية المعروفة بإنتاج سيارات ##المرسيدس## الفارهة. لكن الصين, التي خصصت حكومتها مليارات الدولارات من أجل هدف تسيير 500 ألف سيارة كهربائية علي طرقاتها بحلول عام 2012 , مقارنة بعدد 2100 سيارة كهربائية في الوقت الحالي, تجد نفسها في الوقت ذاته أمام منافسة حامية الوطيس من قبل شركات المركبات التايوانية.
فتايوان ربما كان البلد الوحيد في العالم الذي استطاع حتي الآن أن ينتج مركبة تتسع لسبع أشخاص, وتسير كاملا بالكهرباء – أي دون أن تنفث في الهواء أية مواد مضرة بالبيئة -وذلك عبر شراكة وطيدة ما بين شركة ##يولون موتور## التايوانية التي تتخذ من مقاطعة ##مياولي## الشمالية مقرا لها, وشركة ##تيسلا موتورز إنكوربوريشن## الأمريكية التي تأسست في عام 2003 وأطلقت رسميا أول مركباتها الكهربائية في عام 2006 تحت اسم ##تيسلا رودستير##. هذا علما بأن هذه المركبة التايوانية المسماة ##لوكسجين إي في بلاس## عـرضت في ديسمبر الماضي في معرض دبي العالمي للسيارات, فلفتت الأنظار برفاهيتها, وتصميمها الجذاب, وقدرة منتجيها علي صناعة أعداد هائلة منها, ناهيك عن صناعة نحو 70 بالمئة من مكوناتها الرئيسية من قبل شركات تايوانية رائدة.
ويمكن القول إن ما يساعد تايوان علي البروز في ميدان صناعة المركبات الكهربائية, ومنافسة غيرها, أنها رائدة في صناعة ##البطاريات## التي تعتبر المكون الرئيسي في مثل هذا النوع من المركبات. فمثلا شركة ##إي ون مولي إينيرجي كوربوريشن## التايوانية المتفرعة من مجموعة تايوان لصناعة الأسمنت تعتبر المزود الرئيسي للبطاريات لشركة ##بي إم دبليو## الألمانية للمركبات والتي تنتج حاليا سيارة ##ميني إيي إلكترونيك أوتوموبيل## التي ينتظر بيعها في الأسواق الأمريكية بحلول عام 2012 . حيث تقول مصادر الشركة الأولي إنها زودت الثانية حتي الآن بعدد خمس ملايين بطارية, أي ما يكفي لتسيير ألف مركبة من نوع ##ميني إيي## سالف الذكر, وأن مبيعاتها للشركة الألمانية في عام 2009 مثلت 11 بالمئة من إجمالي مبيعاتها في ذلك العام, مقارنة بنحو 2 بالمئة فقط في عام 2008 .
الأمر الآخر الذي يساعد تايوان علي البروز والمنافسة في هذا الميدان, هو أنها أثبتت عمليا قدرة شركاتها علي إنتاج بطاريات للمركبات الكهربائية, أخف وزنا, وأطول عمرا, وأكثر كفاءة وقدرة علي العمل في الأجواء الباردة, بل وأيضا أسهل لجهة إعادة شحنها. وهذا, بطبيعة الحال, مالم تصل إليه حتي الآن التقنيات المتوفرة لدي الصين, بدليل أن صناعة البطاريات العادية وبطاريات الهواتف النقالة فيها تشكو من ضعف الجودة, وكثرة المخاطر, وسرعة العطب, وقصر العمر.
وفي السياق ذاته, لا بد أيضا من الإشارة السريعة إلي الخبرة التي تجمعت لدي الشركات التايوانية المصنعة علي مدي عقود, في حقل صناعة الأنظمة الإلكترونية. وهذا ميدان ضروري آخر لمن يريد إنتاج وتصنيع المركبات الكهربائية, لأن هذه الأنظمة, ببساطة, لا غني عنها في تلك المركبات لأنها هي التي تضبط تشغيلها وتسييرها بكفاءة.
* دكتور عبد الله المدني أكاديمي بحريني بارز متخصص في الشئون الآسيوية