.. وفي مواجهة التفكير الأسطوري الذي طمس الكثير من مساحة العقل والمنطق في كتابات الكتب التراثية كانت العقلانية Rationa lism هي مصطلح فلسفي يشير إلي أحد اتجاهات نظرية المعرفة, وهو اتجاه يري أن العقل هو مصدر ومعيار المعرفة الحقيقية, ويعتبر ديكارت وسبينوزا من أهم ممثلي هذا الاتجاه في عصر التنوير الأوربي.. وتري العقلانية أن الفكر شئ مستقل عن الإدراك الحسي, فإذا كانت التجربة الحسية والاجتماعية تشكل مصدر معرفة الإنسان, فإن الفكر يعيد تحليل المعلومات التي يحصل عليها المرء عن تجربته الحسية بما يتيح للإنسان فرصة التوصل إلي فهم أفضل للواقع الموضوعي المنعكس في حواسه. وفي علم اللاهوت يمثل هذا المصطلح أحد الاتجاهات التي تسلم فقط بما يقبله العقل المعجم العلمي للعقائد الدينية.
وتقوم العقلانية في مواجهة الخرافة والتفكير الأسطوري والظلامية.
ولعل من واجبنا أيضا نحدد تعريف الظلامية Obscurantism فهي مناهضة التقدم في مجال المعرفة والتنوير في محاولة لاستعادة نفوذ الأفكار القديمة والتي كانت تعتبر معتقدات خالدة وغير قابلة للتغيير القاموس العلمي للمعتقدات الدينية.
وهكذا يجد الفكر العربي والإسلامي نفسه وسط تناقض جدلي يثير الدهشة. فالتفكير الأسطوري يتناقض مع التفكير العلمي والعقلاني, لكنه يندرج معه أو علي الأقل يعيش إلي جواره في طمأنينة مثيرة للدهشة, وهو لا يكتفي بالعيش معه وإنما يتأثر كل منهما بالآخر, ثم يعود كل منهما ليصارع الآخر. وبالضرورة سيكون هذا الصراع خافتا وتكون قدرة التفكير العقلي واهنة.
وهذه هي المعاناة الحقيقية التي يعانيها كل مفكر عقلاني يحاول أن يفرض سطوة العقل في مواجهة الظلامية والفكر الأسطوري والخرافة ولعل الإمام الغزالي قد حاول أن يتخلص من هذه المعاناة في كتابه المنقذ من الضلال باحثا عما سماه العلم اليقين أي ذلك العلم الذي لا يتسرب إليه الشك. وهكذا حاول الإمام الغزالي أن ينقذ نفسه وينقذ معه الفلاسفة المسلمين من مأزق الازدواجية التي جمعت في وجدانهم وعقولهم وأفكارهم بين المتناقضات الأساطير والظلامية والعقل وذلك بسبب استمرار تعلقهم بكتب التراث وما فيها من معتقدات غريبة وأساليب غريبة في تقصي المعرفة. فسعي الغزالي نحو المعرفة اليقينية وقدم تعريفا لليقين بأنه أن ينكشف المعلوم انكشافا لا يبقي معه ريب, ولا يأتيه إمكان الغلط أو الوهم.
ويمضي الغزالي أن العقل يري الأشياء كما هي, وهو يصلح معيارا لا يخطئ عندما تحاول التمييز بين الحق والباطل والخطأ والصواب بشرط أن يتجرد من غشاوة الوهم, فإن العقل إذا تجرب من غشاوة الوهم الأساطير والخيال إصطناع القصص الخرافية لا يتصور أن يغلط أبدا.
إذا كان الأشاعرة يرون أن العقل مرآة عمياء تنعكس عليها المعارف. وهو ما يتيح للأساطير أن تتسلط, ولمطالعي كتب التراث بالإكتفاء بالنقل دون إعمال للعقل, فالعقل لا يعمل, هو فقط يتلقي فهل تعمل المرآة إلا أنها تعكس الأشياء كما هي لنراها نحن كما هي دون أي إعمال للفكر من مدي إمكانية أن تكون هذه المعلومات صحيحة أو مختلفة. فإن الغزالي قد تحدث عن نوعين من العقل. عقل منفعل, مثل العقل عند الأشعري يتلقي في استسلام كل ما ينعكس عليه وبهذا يظل عشا تجتمع فيه الأساطير والخرافات جنبا إلي جنب مع المعارف العلمية والعقلية, وعقل فاعل يتلقي المعلومات فيفحصها ويستبعد منها ما هو مجاف للمعقولية وللعلم ولحقائق العصر وللمنطق ويقول الغزالي إن العقل ليس مجرد مرآه بل هو صاحب دور حاكم مستنبط فعال فعالية بعيدة ومتسعة وممتدة.
ثم هو يصل إلي حل اللغز في التعامل مع الأساطير والأوهام التي اختلطت مع العقيدة والفكر الديني, فالدين ذوق باطني بل هو شئ تتذوقه الروح تتذوقه فتتقبل ما هو منه وترفض ما ليس منه.
يبقي ذلك أن كتب التراث مليئة بهذا وذاك فليس كل ما فيها أساطير وأوهام, بل فيها ما هو صحيح وما هو خطأ, ما هو مفيد وما هو ضار, ما هو عقلاني وما هو خرافي وعلي الباحث العاقل أن يعمل العقل الفاعل ليختار ما هو أقرب إلي الصحة وما يتفق مع مصالح البشر.
ولذلك سيتطلب الأمر أن نلقي نظرة علي بعض هذا التراث لنري ما فيه من تعاكسات وأفكار بعضها عقلاني وبعضها ظلامي وتأسف إذ تري أن البعض في أيامنا هذه يفتش في كتب التراث عن الأسوأ والأغلظ والأكثر بعدا عن العقل ليحاول أن يستخدمه وأن يقوم بتسويقه زاعما أنه جزء من العقيدة. وما هو كذلك.