في الدراما هناك أضواء وكاميرات ومكياج وموسيقي تصويرية وهناك مشاهدون يحتاجون إلي اثارة انتباههم واللعب علي وجدانهم بالكوميديا تارة وبالحزن تارة. أما التاريخ فإنه كامن في بطون الكتب وأشخاص في سطور وحروف يحتاج إلي مشقة التدقيق والبحث لذلك لا يأخذ التاريخ من الدراما بينما تأخذ الأخيرة من التاريخ أشخاصا وأحداثا تضعها في صورة متحركة تخضع لقواعدها ومتطلباتها, ولذلك سوف تبقي مشكلة المعالجات الدرامية لقصص تاريخية بلا حل إلا إذا اعترفنا بأن لكل منهما طريقا مختلفا تماما عن الآخر حتي لو حدث التشابك والتناص والاجتراء بينهما.
ولعلنا نجد في قصة شيخ العرب همام نموذجا واقعيا لهذه الحرب القائمة بين التاريخ والدراما.. فهمام بن يوسف شخصية حقيقية عاشت في القرن الثامن عشر بالصعيد وهو حفيد الشيخ أحمد همام الذي جاء من بلاد المغرب واستقر بمصر مع قبيلته وقبائل الهوارة وقد أقام همام جمهورية مستقلة بالصعيد لمدة 4 سنوات متتالية في الفترة من 1765 إلي 1769 بعد عدد كبير من الحروب والصراعات والمؤامرات مع أمراء المماليك.
وسجل المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي في كتابه الضخم (عجائب الأثار في التراجم والأخبار) سيرة شيخ العرب همام… وذلك عندما ترجم للذين ماتوا في عام 1796 حيث كتب يقول.
ومات الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم الملاذ المفخم الأصيل الملكي ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد همام صبيح بن سيبيه الهواري. عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد… وعن كرمه قال الجبرتي أنه إذا نزل بساحته الوفود والضيفان تلقاهم الخدم وأنزلوهم في أماكن معدة لأمثالهم, وأحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والأواني ثم مرتبة الأطعمة في الغداء والفطور والعشاء فإذا أقاموا في ذلك شهورا لا يختل نظامهم ولا ينقص راتبهم وأن الخدم يظلون يعملون حتي الفجر في إعداد الطعام للضيوف.
وعن أملاكه فكانت أسرته تمتلك 242 ألف فدان ويضيف الجبرتي: وله اثنا عشر ألف ثور وهذا بخلاف المعد للحرث وجواميس وأبقار وشون غلال لا تعد ولا تحصي.
وحول أعماله يقول الجبرتي: كان له دواوين وعدة كتبة من الأقباط لا يبطل شغلهم ولا حسابهم ولا كتابتهم ليلا ونهارا ويجلس معهم حصة من الليل إلي الثلث الأخير بمجلسه الداخل يحاسب ويملي ويأمر بكتابة مراسيم ومكاتبات لا يغرب عن فكره شئ قل ولا جل- ظهرت بالمسلسل شخصية الكاتب القبطي بولس وقدمها الممثل حسين شعبان ونجده مطيعا وصامتا في أغلب المشاهد التي ظهر فيها ومن أهم مشاهده المشهد الذي ذكر فيه الشهور القبطية وأمثالها. ويقول عنه الجبرتي: كان إذا جلس مجلسا عاما وضع بجانبه فنجانا فيه قطنة وماء ورد, فإذا قرب بعض الأجلاف وتحادثوا معه وانصرفوا مسح عينيه بتلك القطنة وشمها بأنفه حذرا من رائحتهم.
وهكذا كانت تسير الحياة حتي ظهرت شخصية علي بك الكبير الذي أراد أن يستقل بمصر ودخل في حروب مع المماليك ومن هؤلاء المماليك صالح بك الذي كان صديقا لشيخ العرب همام وقام همام بإمداده بالمال والرجال وبعد حروب ومعاهدات صلح غدر علي بك الكبير بصالح بك وخرجت رجاله وأتباعه إلي الصعيد وأبلغوا همام فاغتم كثيرا علي فقد صديقة صالح بك وتوقع همام هجوم علي بك علي الصعيد فأقنع رجال صالح بالذهاب إلي أسيوط وتملكهم إياها باعتبارها بوابة الصعيد فذهبوا إليها مع جملة من المنافي من مصر- يقصد القاهرة- والكارهين.
لعلي بك الكبير ومدهم همام بكل ما يلزم حتي ملكوها وأخرجوا من كان بها, واغتاظ علي بك الكبير بسبب هذه الدولة التي أقيمت بالصعيد وتابع إرسال التجاريد (القواد), ولعب محمد أبو الذهب قائد جيوش علي بك الكبير دورا في هذه الحروب المتتالية والتي لم يستطع همام مقاومتها كثيرا خاصة عندما تخلي عنه الكثير من قومه والقبائل التي كانت في عهود معه ومنها قبيلة هوارة. ويضيف الجبرتي في موضع آخر من كتابه قائلا.
إن محمد بك أبو الدهب قد راسل إسماعيل أبو عبد الله وهو ابن عم همام واستماله ومناه وواعده برياسة بلاد الصعيد عوضا عن شيخ العرب همام حتي ركن إلي قوله وصدق تمويهاته وتقاعس وتثبط عن القتال وخذل طوائفه ولما بلغ شيخ العرب همام ما حصل ورأي فشل القوم خرج عن فرشوط- مركز حكمه- وبعد عنها مسافة ثلاثة أيام ومات مكمودا ومقهورا. ووصل محمد بك ومن معه إلي فرشوط فلم يجدوا مانعا فملكوها ونهبوها وأخذوا جميع ما كان بدائرة همام وأقاربه وأتباعه من ذخائر وأموال وغلال وزالت دولة شيخ العرب همام من بلاد الصعيد من ذلك التاريخ كأنها لم تكن ورجع الأمراء إلي مصر.
وتعد جمهورية همام كما يقول الدكتور لويس عوض في كتابه تاريخ الفكر المصري الحديث أول نظام جمهوري في التاريخ الحديث وأنها قد سبقت قيام الثورة الفرنسية وجمهوريتها وبذلك تكون مصر أول دولة عرفت النظام الجمهوري.
وإذا عدنا للمسلسل فإننا نجد أن كريزما الفنان المبدع يحيي الفخراني استطاعت أن تخلق حالة من الحب والإعجاب بهذه الشخصية الحكيمة والقائدة. كذلك يحمد لهذا المسلسل أنه أعاد للأذهان هذه الشخصية المجهولة في تاريخنا الحديث مما لا يجعلنا تتفق مع الاحفاد الكثيرين لهمام الذين قاموا برفع الدعاوي القضائية ضد المسلسل بحجة أنه يشوه صورة جدهم مؤكدين أن شيخ العرب همام لم يتزوج غير صالحة- صابرين- وهي أم أولاده الثلاثة درويش وعبد الرحمن وشاهين وأنه لم يتزوج من أخري في حين أن المسلسل يظهره متزوجا بشابة صغيرة تدعي ورد اليمن- ريهام عبد الغفور- وهنا نسأل من جديد هل من حق الدراما استلهام شخصية من التاريخ ونسج قصص خيالية حولها؟ قواعد التاريخ تقول لا ولكن قواعد الدراما تجيز ذلك كمبرر لكي يخرج العمل في ثلاثين حلقة أو أكثر ولكي يتابعه المشاهدون, وهناك من يقول أن من يبحث عن التاريخ فليذهب للكتب أما من يبحث عن التسلية ومتعة الفرجة فليذهب للدراما.
Em:[email protected]