ما أعذب الإخلاص .. كالشهد في حلوق المتألمين .. ما أروع أن يجد الإنسان شريك حياته يقف إلي جواره بلا كلل ولا ملل .. سندا وقت الضيق .. رفيقا في الدرب إن ضاق أو كان رحبا .. كتفا يلقي عليه الأحمال مهما تثاقلت علينا .. واثقين أن سنوات العشرة لا تنوء بالأحمال مهما تضخمت فوق الأكتاف .. سيناريو لا يتكرر كثيرا أبطاله زوج وزوجة لفهما الفقر والحب أيضا .. حاوطها المرض .. لكنه لم يقهرهما أبدا .. .. صوت حزين جدا لكنه هاديء .. سلام يبدو أنه في طبيعته أطل علي من كلماته .. روي لي قصته مع مرض زوجته وقال :## أنا رجل في الخامسة والأربعين من عمري .. أعمل عامل في ## قهوة بلدي ## .. متزوج .. رزقني الله بابنتين الكبري في الصف الأول الإعدادي والصغري في الصف الرابع الابتدائي .. نحيا أسرة هادئة .. راضين بحياتنا رغم ضيق ذات اليد .. زوجتي امرأة فاضلة شابة في السابعة والثلاثين من عمرها ..مطيعة .. قنوعة .. هادئة الطباع ..
منذ بضعة أشهر .. بدأت تشعر بمتاعب كثيرة .. وتشكو يوميا من عدة شكاوي متفرقة .. كنت في كل يوم ألح عليها أن تذهب إلي الطبيب .. لكنها كانت ترفض متعللة بالظروف .. وتقول لي ## الدكاترة بيكبروا المواضيع ## .. في شفقة علي أحوالنا المادية التي بالكاد تسمح لنا إلا نمد إيدينا لسؤال الناس أن يساعدوننا .. ذات يومقررت أن تذهب إلي الطبيب .. فأدركت أن الأمر فاق احتمالها .. إذ أنها حمولة جدا .. ولن أطيل عليك يا سيدتي في تفاصيل طبية ووصف يمزق القلوب .. وصلنا في نهاية المطافوبعد المرور علي الأطباء والتحاليل والأشعات إلي أن الحالة إصابة بفشل كلوي .. ولابد لها من غسيل كلوي ثلاث مرات أسبوعيا ..
اسودت الدنيا في عيني .. كنتأتركها لأسير في الشوارع بمفردي .. أتكيء إلي أقرب حائط في الشوارع المظلمة لأبكي منفردا .. فتارة أبكي حزنا علي شريكة عمري وأم بناتي .. وتارة أبكي لعجزي عن توفير ما يجب توفيره لها .. فلو كان بمقدروي لمنحتها كليتي لتحيا هي بها .. لو كان بمقدروي لزرعت لها كلية بديلا عما أفسده المرض في جسدها الطاهر .. لكنني لا أملك .. وفي زماننا هذا يا سيدتي من لا يملك المال .. لا يملك أي شيء آخر .. كنت أطوف الشوراع .. هائما علي وجهي بلا هدف .. لا أعلم من أين أستطيع أن أوفر تكاليف العلاج والغسيل وخلافه من مصروفات ونفقات .. أضناني التفكير .. وأنهكت قوايا الحيرة .. والجميع يعلم كم هي ثقيلة تكاليف علاج مرض كهذا حتي علي المستورين .. وليس فقط علي أمثالنا نحن المعدمين .. وبدأنا رحلة البحث عن الوساطة وعن المساعدات ..والتجأنا إلي الكنيسة التي نتبعها في منطقتنا السكنية .. و إحقاقا للحق لم تتخل عنا .. بل علي العكس ساعدتنا شهريا بمبلغ قدره مائتان وخمسون جنيها ..بالإضافة إلي بعض الوجبات الأسبوعية .. وتمكننا من استخراج قرار علاج علي نفقة الدولة للغسيل ثلاث مرات أسبوعيا .. لكن للأسف جاء القرار علي مستشفي الساحل التعليمي بشبرا والتي لم نجد به سريرا متاحا للغسيل الكلوي .. فتم تحويلنا إلي مستشفي حلوان الذي صرنا نستأجر تاكسيا في كل مرة لنذهب بهمن شبرا إلي حلوان ..وأظل أنا منتظرا زوجتي حتي تنهي جلستها من الغسيل لأعود بها إذ أن الحالة التي تعقب الجلسة لا تسمح أبدا بأن تكون بمفردها .
وضاق الحال أكثر فأكثر .. و سلمنا الفقر إلي فقر أشد وأقسي .. وصار كل تفكيرنا كيف نتمم الجلسات في موعدها ومن أين لنا ثمن الانتقال في كل مرة .. وأنا أعمل نصف عدد أيام الأسبوع فقط .. وأمضي النصف الآخر بصحبتها .. والفتاتان صغيرتان لن تحتملا مثل هذه المسئولية .. كما أنهما سوف تستأنفان دراستهما .. فالعام الدراسي قد بدأ .. طلبت من كل المحيطين بي توفير أية وسيلة انتقال لكندون جدوي أو حتي توفيروسيلة أرخص .. لا أعلم ماذا أفعل: هل أترك عملي هكذا وأظل إلي جوارها ؟؟ والنتيجة زوج عاطل وأسرة معدمة وابنتانمحرومتان ومشتتان ومنزل يحتاج إلي كل شيء ولا يجده؟!
أم أن هناك حلا يمكن أن أجده عند أصحاب الأيادي الممدودة بالخير .. ربما لا أعلم حتي الآن ما هو الحل .. فأنا في وضع سوف يستمر طوال العمر فهل الحل أن يكون لدي سيارة لسهولة الانتقال .. أم أن الحل أننجد من يتبنيحالتها أيا كان تقديره .. حقيقة لا أعلم لكنني أتمني أن أجد حلا سريعا .. فأحزانها تزداد يوما بعد يوم .. كلما رأتني تاركا عملي .. حتي أنها امتنعت عن الذهاب إلي الجلسة الأخيرة هذا الأسبوع قائلة :## لازم تنزل الشغل المدارس علي دخول ومحتاجين مصاريف ## .. لا أعرف إن كان ما أفعله خطئا أم صوابا ؟! لكن كل ما أعرفه أنني أحب زوجتي ولن أتركها تواجه المحنة وحيدة .. حزينة .. يائسة .. فيكفيها أنها تواجه آلامها وهي ما زالت في ريعان شبابها . ..
ردالمحررة:
لا أجد كلمات أعبر بها عن مدي إعجابي وتقديري واحترامي لمشاعرك النبيلة تجاه شريكة حياتك ..لأنه للأسف ما تفعله الآن هو القاعدة التي انحرف عنها كثير من الرجال وربما النساء أيضا حينما يصاب الشريك الآخر بمرض يقعده أو يقيد الحياة الطبيعية له .. لكن ما تفعله صار الاستثناء الذي يستحق الثناء .. والطفرة التي يبحث عنها الأوفياء في كل زمان .. لذلك هون عليك من الصراع الذي أنت دائر فيه لأنك وإن تركت عملك لبضعة أشهر لتكون إلي جوار زوجتك فمن المؤكد أن هذا الفعل بكل تبعاته من احتياج مادي إلا أنه من الأفعال النبيلة التي تحول التضحية إلي متعة لا توازيها متعة في الدنيا ..وتصنع من مرارة الآلام شهدا لا يشعر بعذوبته سوي المخلصين .
لكن دعنا نتصارح فلا يمكن بقاء الحال هكذا .. و دوام الحال من المحال فلديكما ابنتان لهما متطلبات .. ستزداد مع الوقت … فعليك أن تجد بديلاعنك إلي جوارها .. ولتبحث حتي تجد البديل بين معارفك وأقربائك و خادمات الكنيسة التي تتبعونها .. ليتحمل كل منهم مشقة يوم من الثلاثة أيام دون أن يتحمل التكاليف المادية .. لأن تلك التكاليف سوف نحاول أن نجد لها حلا قريبا .. عملك هو الحافز الوحيد لها الآن لتتجدد رغبتها في مواصلة الجلسات مرة أخري .. فهي تشعر أنها عائق أمام السير الطبيعي لحياتك وحياة الابنتين .. وتتمزق في داخلها بسبب هذه المشاعر السلبية .. والمريض دائما حساس .. فعودتك لعملك سوف تساهم في تخفيف تلك المشاعر عنها .. وتجدد الرغبة في الشفاء لديها.
أما عن الجلسات في مستشفي حلوان فسوف نحاول أولا في إجراء أية خطوات تمكننا من نقلها إلي أقرب مستشفي يمكن لها إتمام جلساتها فيها في أقرب مكان إليحي شبرا .. ربما نفشل وربما ننجح .. ولكننا لن نفقد الأمل .. طالما يوجد أناس يقرأون سطور ##افتح قلبك## بقلوبهم وليس بأعينهم .. أم عن حل السيارة فقد لا نحتاج إليه إذا استطعنا نقل مكان الغسيل الكلوي من حلوان إلي شبرا فالأمر سوف يصبح أيسر بكثير .. ثق أن الله سوف يظلل علي أسرتك بالخير ولا تحمل الهموم بل اتركها في يد من بيده الأمر كله .