إنك تنوح علي الميت… فلننح بالأحري علي الخاطئ ولنذب بالأحري الشرير غير المؤمن
كلمات للقديسي أوغسطينوس تذكرتها وأنا أجتاز طريقي بصعوبة بعد ظهر الاثنين إلي داخل الكاتدرائية المرقسية… آلاف اكتظت بهم الكاتدرائية, وآلاف أخري مازالت تحاول الوصول… لم تسترعني كثرة الأعداد… استرعاني عمق الحزن الغائر في العيون… وهدير الدموع علي فلذات القلوب… حاولت أن أذكرهم بكلمات القديس أوغسطينوس ولكني لم أستطع فحزنهم كان غالبا… استرحت لكثيرين تغلبوا علي الحزن وهتفوا بعمق إيمانهم بالروح بالدم نفديك يا صليب… نفس الهتاف الذي خرج به الشباب القبطي بالأمس- الأحد 9 أكتوبر 2011- في مسيرة سلمية إلي ماسبيرو مبني الإعلام المصري المفترض أنه ناطق بالحق… وما أن غابت شمس هذا اليوم الداعي إلي السلام والمحبة والتآخي لشعب وطن واحد حتي انطلقت الأعيرة النارية تزهق الأرواح وتحركت الدبابات تدهس الأجساد… وسقط من سقط وأصيب من أصيب وبقي الهتاف يدوي بالروح والدم نفديك يا صليب سمعته هذه المرة من الحناجر ومن القلوب أيضا فاهتزت الكاتدرائية التي كان قد وصلها أربعة توابيت تحتضن أجساد أربعة من الشباب أرواحهم فداء المسيح… وأمام صناديق الشهداء وقف قداسة البابا يحيوطه جمع كبير من الآباء المطارنة والأساقفة كانوا قد اجتمعوا صباح اليوم لتدارس الموقف, ومن عمق إيمانهم قرروا أن يضعوا الأمر أمام الله وأن يدعوا الشعب القبطي للصلاة والصوم ثلاثة أيام… فالموقف جلل, وما حدث بالأمس أمام ماسبيرو جريمة لا تخطئها العين… لا نصدق أن شابا مسيحيا مارس عنفا… وكنا حتي الأمس لا نصدق أيضا أن جنديا مصريا يقتل أخاه في الوطن ولكنه حدث, وتقارير الطب الشرعي تسجل للشباب القبطي أنه سقط في ساحة ماسبيرو بالرصاص المطاطي وآخرون دهستهم الدبابات, ومن لم يسقط أصيب وجرح ونقلوهم بالمئات إلي المستشفيات.
مع الألحان الحزينة بدأت صلوات التجنيز… كانت البداية صلاة الشكر… بهذ العمق في الإيمان نظمت الكنيسة طقس صلوات التجنيز, فأي ثقة أعظم من هذا أن تبدأ صلوات التجنيز بالشكر إلي الله… وتمضي الصلوات إلي أن تصل لنهايتها… يقترب قداسة البابا من الصناديق المتراصة أمام الهيكل تحتضن أجساد الشهداء مجدي عبده رزق, عيسي إبراهيم نخلة, سامح جرجس أيوب, روماني مكاري… بنبرات غلبها الحزن يتلو قداسة البابا إبصالية الرجاء… فترتفع أصوات الجموع تهز لمرات ومرات أرجاء الكاتدرائية بين كل دعاء صارخين آمين ولكي تكون كلمات الإبصالية مصدر تعزية للجميع أسجلها هنا:
هؤلاء أنفس عبيدك الشهداء الذين اجتمعنا بسببهم اليوم يارب نيحهم في ملكوت السموات.
افتح لهم يارب أبواب السماء واقبلهم إليك كعظيم رحمتك.
افتح لهم يارب أبواب البر لكي يدخلوا ويتنعموا هناك.
افتح لهم يارب باب الفردوس كما فتحته للأبرار.
افتح لهم يارب باب الملكوت لتشارك جميع القديسين.
افتح لهم يارب أبواب الراحة ليرتلوا مع كافة الملائكة وليستحقوا أن ينظروا النعيم, ولتدخلهم ملائكة النور إلي الحياة, ولتكئوا في أحضان آبائنا القديسين إبراهيم وإسحق ويعقوب.
هذه الأنفس اغفر لهم يارب خطاياهم التي سبق فصنعوها بمعرفة وبغير معرفة معا, لأنك أنت يارب تعرف ضعف البشرية ونقصها, وبرحمتك عزي كل الذين خلفوهم وأهل بيوتهم ألهمهم صبرا وعوضهم أجرا صالحا سمائيا.
مع غروب شمس هذا اليوم الحزين وصل إلي الكاتدرائية جثمان الشهيد مجلي محمولا علي الأكتاف … ووسط الصراخ والعويل وضع التابوت أمام الهيكل… أضاء الإخوة والأصدقاء الشموع ووضعوها فوق الصندوق… حتي الشموع البيضاء كانت تبكي وتتساقط دموعها فوق الصندوق فتختلط بدموع الحزاني الذين أصروا أن لا يتركوا مجلي حتي وهو جسد شهيد داخل الصندوق… ورأس نيافة الأنبا أرميا صلاة الجنازة… والقي كلمة تعزية… ومرة أخري سار الموكب الحزين تعزيهم كلمات الأنبا أرميا ترن في آذانهم كلماته طوباك يا مجلي… وخرجت من الكاتدرائية الجنازة الثانية.
في اللحظات الأخيرة في هذا اليوم الحزين, وقبل أن تتقابل بدقائق عقارب الساعة عند الثانية عشرة وصل إلي الكاتدرائية 17 صندوقا خرجوا في موكب مهيب من المستشفي القبطي, وكأنهم كانوا علي موعد ألا يرحل هذا اليوم الحزين إلا وقد اكتملت جنائز شهداء ماسبيرو… رأس الصلاة نيافة الأنبا موسي أسقف الشباب, وسكرتيرو قداسة البابا الأنبا بطرس والأنبا يوأنس والأنبا أرميا, وصاحبا النيافة الأنبا رافائيل أسقف وسط القاهرة والأنبا ثيئودوسيوس أسقف الجيزة… رغم مهابة الموقف وجلاله, ورغم قسوة الحزن الذي كان مرتسما علي كل الوجوه, ورغم صوت البكاء والنحيب, إلا أن أصوات الهتافات التي كانت تتخلل صلاة التجنيز كشفت عن فظاعة الغضب المكتوم في النفوس والذي خرج ثائرا يقاطع كلمات الأنبا يوأنس التي نقل في ختامها تعزيات قداسة البابا الذي أعاقته حالته الصحية من الوجود معنا… وأيضا كلمات الأنبا موسي التي اختتمها بخبر دفن أجساد الشهداء تحت مذبح كنيسة الملاك بمدينة 6 أكتوبر… وفي موكب أكثر حزنا خرجت صناديق أجساد الشهداء- أيمن صابر بشاي, ميخائيل توفيق جندي, جرجس راوي راضي, أسامة فتحي عزيز, فارس رزق أيوب, نصيف راجي نصيف, مايكل مسعد جرجس, مسعد مهني مسعد, شنودة نصحي عطية, جمال فايق ونيس, مينا إبراهيم دانيال, هاني فؤاد عطية, أيمن نصيف وهبي, أمين فؤاد أمين, صبحي جمال نظيم, شحاتة ثابت عوض, وائل ميخائيل خليل- خرجوا في الموكب المهيب لينضموا إلي شهداء إمبابة الذين سبقوهم ليرقدوا في سلام بمذبح كنيسة الملاك.