بالرغم من البعد الجغرافي والزمني المقارب للألفي عام تقريبا بين العصر الحالي الذي نعيش فيه الآن, والعصر الذي ولد وعاش فيه السيد المسيح حياته علي الأرض, وبالرجوع بعقارب الزمن إن جاز لنا هذا التعبير إلي الوراء لقرابة الألفي عام, سنلاحظ مدي الترابط والتشابه الحادث بالفعل بين معظم الوقائع والأحداث أمس واليوم.. في السطور التالية نسلط الضوء علي أهم الأحداث البارزة في فترة ميلاد المسيح في بيت لحم (هذه القرية الصغيرة المقامة علي عدة أكمة بتعد حوالي ستة أميال إلي الجنوب من أورشليم, وهي محاطة تماما بتلال صغيرة, تكسوها الأشجار الضخمة وتغطيها من كل جانب النباتات الجميلة المزدهرة, ومن أراضيها الخصبة هذه تتفجر مياه عذبة, ومما يذكر هنا أن داود الملك كان قد اشتاق ذات مرة أن يشرب من مياهها العذبة. أما اسمها باللغة العبرية فيعني بيت الخبز) وذلك من خلال اقترابنا من حياة عدد من الشخصيات الصانعة للقرار والأحداث في هذه الفترة المهمة.
* المؤرخ اليهودي يوسيفوس:
كان من البديهي لنا لكي نطل بنظرة ثاقبة علي هذا الوقت البعيد أن نتجه بأنظارنا أولا إلي أشهر وأعظم مؤرخي اليهود الذين لعبوا دورا مهما وبارزا من الناحية التاريخية والتوثيقية لهذه الحقبة المهمة من الزمن, وهو يوسيفوس الذي ترجع أهمية ما كتبه ودونه عن التاريخ اليهودي بصفة خاصة إلي أنه كان معاصرا وشاهد عيان لكثير من الأحداث والأمور التي دونها في مؤلفاته. ولد يوسيفوس متي في سنة 37 ميلادية, وهو ينتمي إلي عائلة يهودية أرستقراطية عريقة النسب, فوالده كان كاهنا يخدم في الفرقة الرابعة والعشرين, أما أمه فهي تنتمي إلي إحدي العائلات الميكابية الملكية الأرستقراطية..وبهذين النسبين الكهنوتي لوالده والملكي لأمه كان يوسيفوس قريبا من السلطة والطبقة الحاكمة صاحبة القرار لذلك اعتمد عليه الحكام في تلك الفترة في إدارة كافة شئون البلاد السياسية الحساسة, ففي عام 64 ميلادية في فترة حكم الملك اليهودي السنهدريم حدث أن قام الملك فيلكس الإمبراطور الروماني في هذا الوقت بأسر وحبس كثير من كهنة وقادة اليهود لديه, ومعروف أن روما كانت المدينة الأولي والأهم في العالم وقتها, وقد أسسها روميلوس سنة 753ق.م, وصار أول ملك لها, وكانت المدينة في الفترة التي ولد فيها السيد المسيح محل أنظار واهتمام العالم بصفة عامة, كما كانت ملتقي ساسة وحكام العالم وقادته. لذلك طلب الملك اليهودي السنهدريم من يوسيفوس أن يذهب إلي روما مطالبا بالإفراج عن الكهنة اليهود, وفي طريقه إلي هناك تعرف علي إحدي الممثلات الشهيرات آنذاك. وهي التي قدمته إلي الأوساط الرومانية في البلاط الإمبراطوري, وبسبب علمه الواسع وسعة اطلاعه وفصاحة لسانه تمكن يوسيفوس من الاستحواذ علي إعجاب وتقدير كل من كان يتعامل معه ويقابله في بلاط الإمبراطورية الرومانية, وبالفعل نجح يوسيفوس في إنجاز المهمة والدفاع عن القضية التي جاء من أجلها إلي روما بسبب قوة حججه ودفاعه, وأيضا بمساعدة بوبيه Popee زوجة نيرون التي أعجبت به كثيرا, وأغدقت عليه الهدايا المادية والأدبية, هذا وقد كان يوسيفوس أيضا يعمل في صحبة القائد الروماني تيطس أثناء حصاره أورشليم كمترجم له ولقادته ومساعديه العصر الذي ولد فيه المسيح – ملاك لوقا.
* هيرودس ملك اليهود:
وفي رحلتنا العابرة في الزمن إلي الوراء نتوقف عند هيرودس ملك اليهود في وقت ميلاد السيد المسيح. هذا الشخص الذي امتلأت حياته بالعديد من الأحداث والوقائع المهمة والمتلاحقة التي تزامنت بالفعل مع طفولة يسوع في أواخر أيامه. فمتي كانت بداية حكمه اليهود؟ كان ذلك في عام 37ق.م بمساعدة الرومان, ومعروف أن الدولة الرومانية في هذه الفترة كانت علي درجة لا يستهان بها من القوة والبطش, فها هو جورج سارتن أحد الفلاسفة في وصفه للعصر الروماني يقول: لم يكن العصر الذي ولد فيه المسيح عصرا ذهبيا, بل عصر دم ودموع, عصر قسوة ووحشية, ويقول أيضا: يكفي فقط أن تمر بأذهاننا وحشية وفظاعة ألعاب السيرك والسادية البشعة التي تتجلي في عيون النظارة, ويذكر الأستاذ ملاك لوقا في كتابه: العصر الذي ولد فيه المسيح أن هذا الوحش الضاري تزوج من عشر نساء, وكان له منهن أبناء كثيرون, لذلك كان أهم ما يشغل بالهم جميعا هو الصراع والمنافسة المستمرة فيما بينهم من أجل الوصول إلي وراثة العرش من بعد أبيهم, والسيطرة علي مقاليد حكم البلاد, كما كان القصر الملكي لهيروس مسرحا للعديد من الفتن والمؤامرات بجميع المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية, وكان يدبرها ويديرها الملك بنفسه موجها إياها ضد أعدائه من اليهود في بلاده وأيضا ضد حكام الدولة الرومانية, حتي إن زوجاته وأقاربهن انشغلن أيضا بهذا الأمر وكن يشاركن فيه, وكان هيرودس كذلك يسعي طوال الوقت إلي إتمام مصالحه الشخصية فقط, وكان صلب الرأي والعقل, لم ينصف مظلوما ذات مرة أو يستمع لصراخ فقير, واشتهر أيضا بكثرة الحيل. حين يذكر التاريخ الطاغية القاسي القلب عديم الشفقة فإنه يرسم له تلك الصورة البشعة التي سجلها له (يوسابيوس القيصري في كتابه تاريخ الكنيسة) فكان حقا أقصي العتاة الجبابرة الذين ارتقوا العرش. سفك دماء كثيرين من الأبرياء, أما الذين بقوا علي قيد الحياة فكان حظهم أشد, فلم يكن يعذب رعاياه فحسب بل أساء إلي أمم ومدن بأكملها ولكي يجمل المدن الأجنبية سلب مدنه, وأغدق علي الأجانب الخيرات التي ابتزها من دماء شعبه, وكان من أثر هذا كله أن تدهورت الأحوال الاقتصادية في البلاد, وسقط أفراد الشعب فرائس للفقر والجوع والانحلال, وفي سنوات قليلة عاني الشعب من الويلات والمحن علي يده أكثر مما عاناه آباؤهم في الفترة الطويلة منذ أن غادروا بابل وعادوا إلي السبي في عهد داريوس الملك. لقد كانت فترة حكمه ستا وثلاثين سنة, قلما مر فيها يوم واحد دون أن يحكم علي إنسان برئ بالإعدام, ولم ينج من يده الشريرة أحد حتي أفراد أسرته, وأقرب أصدقائه المقربين إليه والكهنة. ومن بين ضحاياه يذكر التاريخ زوج أخته سالوما, زوجته مريمن, ولديه الإسكندر وأرسطوبولس, حماته ألسكندرا التي أغرقها في نهر الأردن, أحرق بالنار اثنين من العلماء كانا قد نزعا النسر الروماني المذهب من فوق بوابة الهيكل, وقبل موته بخمسة أيام قتل ولده أنتيباتر من زوجته درويس, قضي علي كثير من النبلاء والأعيان والفريسيين, هذه كلها قطرات ضئيلة من فيض جرائمه البشعة, إلي جانب مذبحة أطفال بيت لحم الأبرياء.
وفي نهاية سني حياته تمكن من جسده المرض بأنواعه, فأصيب بحمي, وجرب جلدي يملأ كل جسمه ولا يطاق, وكان يشكو من آلام مبرحة في القولون, وأورام في قدميه كتلك التي تحل يشخص مصاب بمرض الاستسقاء, أما بطنه فكانت ملتهبة, وكان يتنفس بصعوبة بالغة, وتقلصت كل أطرافه, حتي قال العرافون وقتها إن أمراضه كانت قصاصا لأفعاله الشاذة. ورغم صراعه المتواصل مع المرض فإنه كان أشد صلابة وإصرارا علي الحياة والشفاء فكان يعبر نهر الأردن إلي كاليرو المدينة الواقعة شرق البحر الميت ليغتسل يوميا في الحمامات الساخنة هناك بمياهها العذبة الشافية لكل الأمراض واقترح أطباؤه بوضعه في برميل مملوء بالزيت الدافئ لتدفئة جسمه وعلاجه نهائيا, وعندما وضعوه فيه ضعفت عيناه وشخصتا إلي أعلي كعين شخص ميت وزاد مرضه وآلامه. ولما فشل في التخلص من أمراضه ساءت حالته النفسية والصحية وتملكه اليأس فعاد إلي أريحا وبدأ يتحدي الموت نفسه بالأعمال الوحشية فجمع من كل مدن اليهودية أهم وأبرز علمائها وأمر بإغلاق المكان المسمي بسباق الخيل عليهم ليموتوا جميعا, وبعد وصوله إلي آخر درجات اليأس والإحباط قرر هيرودس أن ينهي حياته بنفسه فطلب أن يأكل تفاحة ومعها سكين لتقطيعها, وتلفت حوله ليتأكد من خلو المكان من أحد يمنعه من أن يطعن نفسه بالسكين, إلا أن أخيابوس ابن عمه أنقذه في آخر لحظة. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بآلام مبرحة قتل ابنا آخر من أبنائه.
* فيلون الإسكندري (30ق.م – 50م):
عاصر هذا الشخص حياة السيد المسيح بدءا من مولده وحتي موته وقيامته من بين الأموات,وفي الوقت الذي ولد فيه المسيح كان يبلغ من العمر حوالي 21 سنة, وهو أهم ممثل للفكر اليهودي المثقف, وكان علي قمة الجالية اليهودية الأكثر تأثرا بالثقافة والفلسفة اليونانية, خاصة فلسفة أفلاطون المثالية التي قسمت العالم إلي قسمين أساسيين: عالم الواقع المنظور وعالم المثل غير الملموس, ويبدو هذا من خلال عظاته وتأملاته وكذا مؤلفاته, عموما يمكن التأكيد بأن معظم مفكري العالم كانوا يجيدون اللغة اليونانية التي كانت بمثابة اللغة الأولي في العالم آنذاك. حتي إن فيلون نفسه كان قد قرأ التوراة من خلال أقدم وأشهر الترجمات اليونانية التي وضعت في القرن الثالث قبل الميلاد علي يد اثنان وسبعين عالما من يهود مصر بناء علي أمر صادر عن بطليموس فيلادلف ولهذا السبب سميت باسم الترجمة السبعينية, حتي إنه في كل ما كتب وقرأ وشرح كان يعتمد علي إجادته للغة اليونانية, ولم يكن يعرف شيئا عن لغته الأصلية اللغة العبرانية. بصفة عامة فإن معظم اليهود في هذه الفترة كانوا كثيري التأليف خاصة يهود الإسكندرية. أما فيلون فهو أعلاهم وأعظمهم شأنا ونفوذا لدقة ما دونه, لذا يري المؤرخون أنه علي الرغم من كثرة المؤلفات في هذه الفترة إلا أنه يعد بصفة خاصة مرآة حقيقية عكست كل أحداث عصره في كتبه ومؤلفاته وعبرت بصدق عن أحوال اليهود الاجتماعية والفكرية والاقتصادية, بالرغم من فقدان معظم هذه الكتب إلا أن ما بقي منها حتي الآن يحمل الدلالة الكافية علي أهم التيارات الفلسفية والدينية لهذا الوقت.
* ملامح التفسير الرمزي لديه:
عموما كان معظم مفكري اليهود يميلون إلي الفكر النظري والتأويل وعدم الوقوف عند المعني الحرفي للكلام. فإذا استمعنا إلي هذه العظة التي ألقاها في الإسكندرية لشرح سفر التكوين نلاحظ تمسكنه بالتفسير الرمزي, وهذا نصها: إن الله خلق عقلا خالصا في عالم المثل هو الإنسان المعقول, ثم صنع علي مثال هذا العقل عقلا أقرب إلي الأرض هو (آدم), وأعطاه الحس وهي (حواء) معونة ضرورية له, فطاوع العقل الحس وانقاد للذة (الممثلة بالحية التي دست لحواء), فولدت النفس في ذاتها الكبرياء (وهو قابيل) وجميع الشرور, وانتفي منها الخير (وهو هابيل) وماتت موتا خلقيا. وحين يفسر عبور البحر الأحمر يري أنه رمز لخروج النفس من الحياة الحسية, والحجران الكريمان اللذان يحملهما الكاهن الأكبر هما رمز للشمس والقمر أو لنصفي الكرة الأرضية, أما الفصح فهو رمز لترك النفس للجسم وشهواته المادية ولذاته الحسية, وكذلك ترمز شجرة الحياة إلي الفردوس الأرضي ونعيمه الملوس. وهي أيضا رمز لاتحاد الإنسان الفاضل بالفضائل نفسها وغير ذلك من التأويلات والتفسيرات الرمزية الواضحة (العصر الذي ولد فيه المسيح).