مقدمة
بين عامي 1915 و1995, عاش أنطون سيدهم حياة حافلة بالعطاء المتنوع في مجالات شتي, فهو رائد في الاقتحام الجرئ لمهنة المحاسبة والمراجعة القانونية, التي كانت حكرا علي الأجانب وحدهم, وقد ارتقي بنشاطه هذا ليقتحم أسواق البلدان العربية المجاورة, حيث حقق نجاحا لافتا, كما أنه أدار باقتدار وكفاءة مؤسسة وطنية تعمل في مجال الأنظمة المكتبية والبنكية, متعاونا مع بعض أصدقائه وشركائه في تمصير شركة الكاتب المصري, وشاغلا لمنصب رئيس مجلس إدارتها أربعين عاما علي وجه التقريب.
ومن ناحية أخري, كان أنطون من مؤسسي بنك النيل, بعد العمل بقوانين الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات, وكان عضوا دائما في مجالس الإدارات التي تعاقبت علي البنك الناجح, الذي أسهم بإيجابية في قطاعات إنتاجية كثيرة, زراعية وصناعية, وسياحة وتعميرا.
أما الإسهام الأبرز لأنطون سيدهم فيتمثل في تأسيسه لجريدة وطني, التي تعد من علامات الصحافة المصرية المستقلة, ولنصف قرن منذ تأسيسها لعبت دورا مؤثرا في تدعيم الوحدة الوطنية, والدفاع عن النسيج المصري الواحد, الذي لا تمييز فيه بين مسلم ومسيحي.
كان أنطون من رواد العمل الاجتماعي الخدمي, الذي يهدف إلي تنمية وطنية إيجابية تعلي من شأن المواطنة, وكانت حياته كلها منذورة للوطن الذي أحبه وتفاني في العمل من أجله, فقدم بذلك أنموذجا مضيئا للمواطن الجاد الملتزم المحترم, الذي يعطي بلا توقف, ويضيف بلا كلل, ويؤمن أن الوطنية الحقيقية ليست كلاما وشعارات, بل هي ترجمة عملية وممارسة يومية لتجسيد فكرة الانتماء.
كان أنطون سيدهم مصريا مسيحيا, وكان غيره من الرواد في الاستثمار والعمل الاقتصادي مصريين, مسلمين ومسيحيين. وقد يكون الأصل في الأشياء هو الإهمال الكامل للمعتقد الديني عند الحديث عن الاستثمار ورواده, لكن بعض المتغيرات والإفرازات السلبية, الطارئة علي خريطة مجتمعنا, تحتم التوقف عند الانتماء الديني, للبرهنة علي أنه لا يمثل عنصرا ذا تأثير في مسيرة الإنجاز الاقتصادي, وغير الاقتصادي, فالأمر رهين بالوطن الذي يتسع للجميع دون تفرقة.
يتضمن الكتيب خمسة فصول وخاتمة. الفصل الأول: الهلال والصليب, يقدم استعراضا موجزا مكثفا عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في إطار الانتماء الوطني والنسيج الواحد المتماسك الذي لا تخدشه بعض التوترات العابرة, وهو ما تجسد بوضوح عبقري في ثورة 1919.
يحمل الفصل الثاني عنوان مواطن محترم, وهو العنوان نفسه الذي يحمله الكتاب, ويركز علي رحلة أنطون في العمل البناء منذ نهاية الثلاثينيات, تمهيدا للفصل الثالث عن العلامة الأهم والأكثر شهرة في حياته: وطني, الجريدة التي تجاوزت الآن عامها الخمسين, ويعود إليه الفضل في تأسيسها واستمرارها وتحديثها والنهوض بها.
في الفصل الرابع: رؤي اقتصادية, استعراض تحليلي لبعض الآراء المهمة التي كتبها أنطون في افتتاحيات وطني, وتمزج هذه الكتابات بين العلم النظري, وليد الدراسة والثقافة, والخبرة العملية المكتسبة من التجارب الواقعية.
أما الفصل الخامس والأخير: أعلام ورموز, فيتوقف أمام بعض الشخصيات التي كتب عنها, بما ينم عن رؤيته الوطنية المستنيرة المتسامحة.
في الخاتمة, إشارة لأهم الدروس التي يمكن استنباطها من حياة المواطن المحترم, الذي عاش ثمانين عاما من العمل المخلص الدءوب, وما أعظم احتياجنا الآن لهؤلاء الذين يجسدون حبهم للوطن بالعمل والإنتاج.
مصطفي بيومي
الفصل الأول
الهلال والصليب
1- لا يتسع المجال هنا لحديث تفصيلي عن طبيعة العلاقات التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين في التاريخ المصري, لكن الراسخ المستقر أن أتباع هاتين الديانتين, اللتين تتسمان بالتسامح والمبادئ الإنسانية النبيلة, يمثلون مجمل سكان مصر منذ دخول العرب المسلمين بقيادة عمرو بن العاص, فالذين ينتسبون إلي ديانات أخري لا يمثلون نسبة تستحق الذكر.
وعلي الرغم من تباين السياسات التي اتبعها الولاة عبر قرون متصلة, فإن المؤشر العام الجدير بالاهتمام يؤكد أن مظالمهم قد امتدت إلي المصريين جميعا, مسلمين كانوا أم مسيحيين, فضلا عن أن الأساليب المتبعة في الحكم كانت دنيوية خالصة وثيقة الصلة بالمصلحة, وليست ينية منبثقة من التعصب للعقيدة.
وتكشف السنوات الطوال للحروب الصليبية عن حقيقة مفادها أن الأغلب الأعم من المصريين المسيحيين قد انحازوا لانتمائهم الوطني, ولم ينظروا إلي الغزاة علي اعتبار أنهم صادقون مخلصون في شعاراتهم الدينية البراقة, التي تتخذ من الصليب والدفاع عن المسيحيين الشرقيين المضطهدين ستارا لحجب وتغطية المطامع السياسية والاقتصادية التي لا شأن لها بالدين
وإذا كان بعض المسيحيين قد تعاطفوا مع الغزاة بطريقة أو أخري, فإن نسبة مماثلة من المسلمين قد سلكوا النهج نفسه لأسباب انتهازية واضحة, فلا مناص إذن من تجنب التعميم والابتعاد عن استخلاص النتائج المغلوطة من معطيات وممارسات استثنائية.
ووفقا لما يذكره الدكتور مصطفي الفقي, في دراسته القيمة عن الأقباط في السياسة المصرية, فقد كان القرن التاسع عشر بمثابة مرحلة انتقال من أوضاع القرون الوسطي في الفكر والسياسة, إلي بداية دولة عصرية في مجالات الزراعة والصناعة والإدارة الحديثة والتعليم. ولما كان محمد علي يسعي إلي الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية, فقد أولي الشخصية المصرية اهتمامه, وشجع إرهاصات القومية المصرية التي كانت في الواقع ميلاد الدولة العلمانية في مصر الحديثة. وبقدر ما حاول محمد علي الاعتماد علي العنصر المصري في مشروعات وخطط دولته, من أجل خلق الدولة العصرية, فقد تأثرت سياسته تجاه الأقباط بصورة متوازية, مثال ذلك أنه لم يرفض قط أي طلب من أجل بناء كنيسة جديدة, وكان أول حاكم ينعم بلقب بك علي قبطي, كما أنه منح الأقباط جميع التسهيلات الضرورية للحج إلي الأراضي المقدسة.
وعندما تولي سعيد باشا السلطة في البلاد, اعتمد بدوره سياسة تقوم علي الاعتماد أكثر علي العنصر المصري, وهيأ لهم فرص تولي المناصب في الحكومة والترقي بالجيش, وكان يرغب في الحد من المشاركة التركية في جميع المجالات, وأزاح في النهاية العقبة الأخيرة لتوحيد المجتمع المصري وتحقيق تكامله, عندما قرر السماح للأقباط بالخدمة العسكرية في الجيش المصري, وألغي – في الوقت نفسه – ضريبة الجزية المفروضة علي غير المسلمين, وكان ذلك في العام 1855.
2- في ظل ولاية محمد علي, حظي بعض المصريين المسيحيين بمناصب رفيعة في الجهاز الرسمي للدولة, ومنهم المعلم جرجس الجوهري والمعلم غالي, كما التحقوا بالخدمة العسكرية في سنوات حكم سعيد باشا, أما عن النشاط الاقتصادي فقد نال المواطنون المسيحيون نصيبا مماثلا لما ناله المسلمون, ويتجلي ذلك بوضوح عند النظر إلي ملاك الأراضي الزراعية, فقد امتلك بطرس أغا أكثر من ألفي فدان في زمام جرجا, وملكية مقاربة كانت من نصيب جرجس إسطفانوس في أجا, فضلا عن نسبة لا بأس بها في محالج القطن ومعاصر قصب السكر.
ويذكر للخديو إسماعيل أنه عين مصريين مسيحيين في وظائف القضاء, ويتوافق ذلك مع طموحه إلي تأسيس دولة عصرية حديثة علي النمط الأوربي من ناحية ومع ارتفاع مستوي التعليم عند قطاعات متزايدة من المسيحيين من ناحية أخري.
ويمكن القول إن الموقف المسيحي من الاحتلال الإنجليزي لمصر بمثابة الامتداد لمواقف سابقة تجاه الحملات الصليبة والغزو الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر, فالأغلبية العظمي اتخذت موقفا معاديا للاحتلال, والأقلية الضئيلة تعاطفت معه وأيدته, والأمر نفسه نجده عند المسلمين, فقد انحازت نسبة مماثلة منهم لسلطة الاحتلال, وفي طليعة هؤلاء الخديو توفيق نفسه.
والإشارة واجبة هنا إلي أن البابا كيرلس الخامس كان مؤيدا للثورة العرابية في أهدافها الوطنية, وشارك في عدة اجتماعات حاشدة لتأييدها مع الإمام الشيخ محمد عبده وخطيب الثورة عبدالله النديم.
لم يميز الاحتلال الإنجليزي بين المسلمين والمسيحيين, بل إننا نجد ناشطا مسيحيا مثل قرياقوص ميخائيل يشكو بشكل صريح من الأذي الذي تعرض له الأقباط, إذ حرموا في عهد الاحتلال من وظائف كانت متاحة لهم من قبل, ولعل مما يؤكد جدية شكواه ما يقوله اللورد كرومر في كتابه الشهير مصر الحديثة, فهو يري أن المصري المسيحي قد أصبح من قمة رأسه إلي أخمص قدمه, في عاداته ولغته وروحه, كالمسلم تماما!.
3- علي الرغم من أن الحزب الوطني, الذي أسسه الزعيم مصطفي كامل, كان حريصا علي أن يضم في صفوفه عددا غير قليل من الرموز والقيادات المسيحية, إلا أن الأغلب الأعم من هؤلاء العناصر قد آثروا الابتعاد والانسحاب مع تصاعد نبرة الخطاب الإسلامي في ظل تصاعد نفوذ الاتجاه الذي يمثله الشيخ عبدالعزيز جاويش, وانضم معظم الراغبين في العمل السياسي إلي حزب الأمة, الأقرب في أفكاره وتوجهاته للقومية المصرية, بعيدا عن الولاء الديني لدولة الخلافة العثمانية, التي كانت تعيش في مرحلة التدهور والاحتضار.
وفي التجربة الحزبية الأولي, التي بدأت سنة 1907, أسس المحامي أخنوخ فانوس الحزب المصري ليعبر به عن الأقباط, لكن الحزب ولد ميتا بلا تأثير, ولم يمارس نشاطا ذا شأن, وانصرف عنه المسيحيون إذ أدركوا أنه يكرس الانقسام.
واللافت للنظر بحق, أن القيادات المسيحية المرموقة في تلك الفترة, ومنهم سينوت حنا وويصا واصف ومرقص حنا وواصف غالي, هم الذين تعرضوا لحملات عاتية جاوزت كل حد مقبول من صحيفة الحزب الوليد, إذ وصفوا بأنهم إخوان يهوذا الأسخريوطي, في إشارة صريحة إلي الخيانة!
وقد شهدت السنوات الأخيرة من العقد الأول في القرن العشرين توترا وصراعا بين المسلمين والمسيحيين, وتجسد ذلك بوضوح في المؤتمرين القبطي والإسلامي, وما سبقهما وواكبهما وترتب عليهما من شد وجذب, ولم يخل الأمر من شتائم ومهاترات ونزعات متعصبة متطرفة من الجانبين. وعندما عقد المؤتمران في أسيوط ومصر الجديدة سنة 1911, كان ويصا واصف هو الأكثر وضوحا وحزما ووعيا عندما حذر من الطائفية وخطابها البغيض, وهو الموقف نفسه الذي تمسك به أحمد لطفي السيد, أما النشاز الاستثنائي فكانت تمثله جريدة الوطن, التي خصصت صفحاتها للهجوم علي ويصا واصف وكل من يشبهونه في رفض الصراع الطائفي, وقالت إنه يهوذا الذي باع المسيح وأسلمه لليهود بالثمن البخس!
كان اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي, في العشرين من فبراير سنة 1910, حادثا مأسويا بكل المقاييس, لكن العقلاء الناضجين من المسلمين والمسيحيين حرصوا علي تقديم تفسير سياسي بلا شبهة طائفية, فقال شيخ الأزهر سليم البشري, وهو يخطب عند قبره, إن قليلا من المسلمين عملوا من الخير لبلادهم ما يمثل عطاء السياسي الكبير, أما الشيخ علي يوسف فقد وصف الاغتيال بأنه حدث محزن, وأكدت صحيفة اللواء, المعبرة عن الحزب الوطني, علي المعني نفسه.
لم يكن إبراهيم الورداني, قاتل بطرس غالي, متعصبا دينيا, فهو في الحقيقة متطرف وطني, رأي في الاغتيال ردا وحيدا علي مواقف رئيس الوزراء, ولاشك أن الاختلاف السياسي حول مد امتياز شركة قناة السويس, أو تعديل قانون المطبوعات, لا يمكن أن يكون هما دينيا.
4- كان المصريون جميعا علي موعد مع ثورة 1919, وإذا كان الثلاثة الذين توجهوا لمقابلة مندوب الاحتلال البريطاني, في الثالث عشر من نوفمبر سنة 1918, من المسلمين: سعد زغلول وعلي شعراوي وعبدالعزيز فهمي, فقد ذهبوا بصفتهم الوطنية لا الدينية, وبعد أيام من اللقاء التاريخي توجه وفد من رموز وقيادات المسيحيين لمقابلة سعد زغلول, وطلب الزعيم الجليل أن يختاروا واحدا ليمثلهم في المرحلة الجديدة من الحركة الوطنية, فرشحوا ثلاثة أسماء: واصف بطرس غالي, سينوت حنا, جورج خياط, وأدي الثلاثة القسم أمام سعد زغلول. وقد تساءل خياط عن الدور الذي يمكن للمصريين أن يقوموا به في الحركة الوطنية, فأجابه سعد بالتأكيد علي أن الأقباط مثل المسلمين, لهم نفس الحقوق, وعليهم نفس الواجبات, من منطلق أن المصريين جميعا سواء ولا تمييز بينهم.
لم يكن الأمر اختيارا بين الدين والوطن, لكنه كان اختيارا بين الأنماط المختلفة للجماعة السياسية: هل تقوم علي أساس الجماعة الدينية وحدها, أم الجماعة الوطنية؟
وهذا الاختيار هو ما حسمته حناجر الجماهير منذ مارس 1919. لم تكن سياسة الوفد, حزب الثورة, منذ بداية تشكيله, موجهة إلي التمسك بالوحدة الوطنية ودعمها فحسب, لكن الوفد نفسه, كمؤسسة سياسية, تم بناؤه علي نسيج مصري جامع, وتكونت قيادته وقواعده علي مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الدين. وليس أدل علي نجاح الثورة في احتواء الفتنة الطائفية, التي أطلت قبل سنوات قليلة, من المشاركة الإيجابية للأقباط في أحداث الثورة.
القمص سرجيوس, الذي كان كثير التباكي علي ما آل إليه وضع الأقباط في مصر, امتزج في الثورة الشعبية, وكان من أبرز خطبائها, حتي أنه وقف علي منبر الأزهر يقول: إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط, فأقول: ليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحرارا.
وقرياقوص ميخائيل, الذي كان مراسلا لصحيفة الوطني بالإسكندرية في السنوات الأولي من القرن العشرين, وسافر إلي لندن حيث أنشأ مكتبا للدعاية والإعلان دفاعا عن مطالب الأقباط وعن مقررات مؤتمرهم سنة 1910, وألف كتابا ساخنا عن المسألة القبطية, هذا الرجل نفسه يظهر بثوب جديد سنة 1919, فيؤيد الوفد والقضية المصرية, وينشط ضد الحماية, حتي تضيق به الحكومة الإنجليزية وتقوم بترحيله إلي مصر, حيث يستقبل بكل الحفاوة والتقدير, وتحفل الصحف بالحديث عن وطنيته المحمودة ونشاطه الدءوب في لندن.
وفي المقابل, يعبر مصطفي القاياتي عن مدي اعتزازه بالوحدة الوطنية, التي حققتها الثورة, بقوله: إذا كان الاستقلال سيؤدي إلي فصم الاتحاد, فلعنة الله علي هذا الاستقلال.
ويصيغ الشاعر محمد عبدالمطلب جوهر الفكرة التي تعبر عنها ثورة 1919, تجاه الوحدة الوطنية. ببيت شعر شهير:
كلانا علي دين به هو مؤمن
ولكن خذلان البلاد هو الكفر
5- لم تقتصر الوحدة الوطنية علي الكلمات والخطب فحسب, بل إنها تجسدت أيضا في مواقف عملية, فعندما أسندت رئاسة الوزارة إلي مصري مسيحي, يوسف وهبة باشا, في 21 نوفمبر 1919, رد المسيحيون علي قبوله لهذا المنصب بالتبرؤ منه, لأنه يخالف الإرادة الشعبية, وأصدروا بيانا يعلنون فيه أن وهبة باشا لم يمثل في وقت من الأوقات أماني الأقباط. وزار عبدالرحمن بك فهمي, مهندس الثورة وعقلها المدبر, مقر الكنيسة, ليعلن أنه إذا وجد قبطي خائن قبل الوزارة, فقد وجد من المسلمين سبعة مثله قبلوا الوزارة معه, بل تطوع طالب طب قبطي, هو عريان يوسف سعد, لاغتيال رئيس الوزراء المسيحي, حتي لا يساء تأويل الاغتيال إذا تم بيد مسلم!
لابد هنا من تسجيل التحفظ الكامل علي توجيه الاتهامات بالخيانة, ولابد أيضا من تأكيد الرفض غير المحدود لاعتماد الاغتيال وسيلة للتعبير عن الاختلاف السياسي, لكن الجدير بالاهتمام هو أن الاندماج بين عنصري الأمة قد تحول إلي رباط وثيق, جعلهما بمثابة العنصر الواحد, وكان هذا الاندماج أحد أعظم إنجازات ثورة 1919.
كان الاندماج الوطني الكامل بين المسلمين والمسيحيين إنجازا لا ينكره أحد من أعداء الثورة, وعندما بدأ العمل في الدستور سنة 1923, قاطع الوفد لجنة الإعداد, وما يعنينا هنا أن بعض أعضاء اللجنة قد طرحوا فكرة النص علي تمثيل الأقباط في المجالس النيابية, وهو ما قوبل برفض قاطع من أغلبية المسلمين والمسيحيين, الذين تحفظوا بلا حدود علي فكرة التمثيل الطائفي, وصرح الزعيم الوفدي ويصا واصف في حديث صحفي: إن مصر لا تعرف أكثرية وأقلية, والقول بأن القبط أقلية حكم عليهم بأنهم أجانب, ولن يكون في البرلمان إلا أحزاب سياسية بمعناها العصري, يكون القبط مبعثرين في هذه الأحزاب. ولم يكن القبط في أي وقت موضعا لتشريع استثنائي, بل عوملوا دائما كمصريين يتمتعون بكافة الحقوق وليس في مصر إلا جنس واحد تكون علي مر القرون المتعاقبة, وامتزجت الدماء بفعل التوارث بما يقوي علي أي فارق ديني, وإذ تكون البرلمان من أحزاب سياسية فقط فلا ضير ألا يكون فيه قبطي واحد.
6- مع الثورة الوطنية الشعبية, كان طلعت حرب يقود نهضة اقتصادية مماثلة, فقد تأسس بنك مصر عام 1920, في غمار الثورة ووسط المظاهرات والإضرابات السياسية, وحظي مشروع الاقتصادي الكبير طلعت حرب بتشجيع زعيم الثورة, وأصبحت المساهمة في تدعيم البنك عملا وطنيا لمواجهة السيطرة الأجنبية, وظهر أول مشروع للبنك في سنة 1922, وتزايدت المشروعات مع تزايد الإيداعات.
في الثامن من مارس سنة 1920, تم تحرير العقد الابتدائي بين كل من: أحمد مدحت يكن باشا, محمد طلعت حرب بك, إسكندر مسيحة أفندي, يوسف أصلان قطاوي باشا, عبدالعظيم المصري بك, عبدالحميد السويفي بك, عباس دسوقي الخطيب أفندي, الدكتور فؤاد سلطان, لتأسيس شركة مصرية مساهمة تحت عنوان بنك مصر. ينعكس تأثير الثورة علي أسماء وعقائد مؤسسي البنك, فهم من المسلمين والمسيحيين واليهود.
لم تكن النهضة الاقتصادية المصرية بعد ثورة 1919, التي قادها طلعت حرب, تعرف شيئا عن التمييز الديني, ومثلما أسهم المصريون المسيحيون في الحراك السياسي والثقافي والفني, فقد لعبوا دورا بالغ الأهمية في مسيرة الاقتصاد الوطني.
في ظل هذا المناخ الوطني الخالص من الشوائب, ظهر جيل من الرواد, آمن بأن الاستقلال الحقيقي ينبغي أن يكون سياسيا واقتصاديا, ومن هؤلاء أنطون سيدهم.