ليست كل صلاة مقبولة. لأنه ليست كل صلاة, صلاة.
فصلاة الفريسي المتكبر, لم تكن مقبولة مثل صلاة العشار المنسحق, الذي خرج مبررا دون ذاك (لو 18: 14) كذلك صلاة الذين أيديهم ملآنة دما, قال عنها الرب حين تبسطون أيديكم, استر وجهي عنكم, وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع (إش 1: 15). وأيضا صلاة المرائين (مت 6), والذين لعلة يطيلون صلواتهم (مت 23: 14).
فقد تصلي صلاة, فيتقدم واحد من الأربعة والعشرين قسيسا, ويأخذها في مجمرته الذهبية. ويقدم إلي الله رائحة بخور… (رؤ 5: 8) بينما يصلي آخر طول النهار, ويتعجب الملائكة أن شيئا من صلوات هذا الإنسان لم يصعد إلي فوق.
فما إذن شروط الصلاة المقبولة؟
* الشروط كثيرة: نذكر منها أنها تكون بالروح, فيها روح الإنسان يخاطب روح الله, وقلبه يتصل بقلب الله. هذه الصلاة التي من الروح ومن القلب, هي التي تفتح أبواب السماء, وتدخل إلي حضرة الله, وتكلمه بدالة. وتتمتع به وتأخذ منه ما تريد… بل هذه الصلاة هي التي تشبع الروح. كما قال المرتل.
باسمك أرفع يدي, فتشبع نفسي كما من شحم ودسم (مز 63: 4, 5).
هذه الصلاة التي من القلب, هي التي يشعر فيها الإنسان بلقائه مع الله. ففيها إما أن نصعد إليه. أو ينزل هو إلينا. المهم أن نلتقي. أو هو الروح القدس يصعدنا فكرا وقلبا إلي الله. وعن هذه الصلاة يقول القديسون إنها حلول السماء في النفس. أو أن النفس تتحول إلي سماء. وهنا تتميز الصلاة بحرارة روحية.
* الصلاة التي بحب وعاطفة, تكون صلاة حارة.
الصلاة التي بالروح. تكون حارة بطبيعتها. أشعلها الروح الناري. ولذلك قيل عن صلاة القديسين مكسيموس ودوماديوس إنها كانت تخرج من أفواههم كشعاع من نار. وهكذا كانت أصابع القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين حينما كان يرفع يديه في صلاته.
* الصلاة الروحانية تكون أيضا بفهم وتركيز.
وبالتركيز تبعد عنها طياشة الفكر. كذلك عنصر الفهم يجعل الذهن مركزا. والعاطفة أيضا تركز الفكر. أما الذي يصلي دون قلب. ودون فهم. ودون عاطفة, فبالضرورة تشرد أفكاره في موضوعات متعددة. لأن قلبه لم يتخلص بعد من الاهتمام بهذه العالميات. ولايزال متعلقا بها حتي وقت الصلاة. فلا تكون صلاته طاهرة, لأنها ملتصقة بماديات العالم.
لهذا. عندما سئل القديس يوحنا الأسيوطي ما الصلاة الطاهرة؟ أجاب هي الموت عن العالم. لأنه حينما يموت القلب عن أمور العالم؟ لا يسرح فيها أثناء صلاته, فتصبح صلاته طاهرة بلا طيش.
* الصلاة الروحانية تكون أيضا بخشوع أمام الله.
لقد سبق فتحدثنا عن الصلاة بحب. ولكن الحب لا يمنع الخشوع إطلاقا. محبتنا لله لا يمكن أن تنسينا هيبته وجلاله ووقاره. فيمتزج حديثنا معه بالاحترام والتوقير. وندرك أدب الحديث مع الله. وخشوعنا ليس هو خوف العبيد. إنما هو توقير الأبناء لأبيهم وأي أب؟ إنه ليس أبا علي الأرض. بل هو أبونا الذي في السموات, الذي تقف أمامه الملائكة في هيبة بجناحين يغطون وجوههم. وباثنين يغطون أرجلهم (إش 6: 2). لهذا قال مارإسحق:
إذا وقفت لتصلي, كن كمن هو قائم أمام لهيب نار.
وإبراهيم أبوالآباء والأنبياء قال عزمت أن أكلم المولي, وأنا تراب ورماد (تك 18: 27). لذلك إن وقفت أمام الله. قل له: من أنا يارب حتي أقف أمامك, أنت الذي تقف أمامك الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم والسارافيم وكل الجمع غير المحصي الذي للقوات السمائية. كيف أحشر نفسي وسط هذه الطغمات النورانية؟!
خشوعك أمام الله هو خشوع الروح وخشوع الجسد أيضا.
أما عن خشوع الجسد, فيشمل الوقوف والركوع والسجود, بحيث لا تقف وقفة متراخية ولا متكاسلة.. ولا تستسلم للشيطان الذي يحاول أن يشعرك في وقت الصلاة بتعب الجسد أو بمرضه أو إنهاكه أو حاجته إلي النوم!
هناك أشخاص, إذا وقفوا للصلاة يشعرون بالتعب, بينما يقفون مع أصدقائهم بالساعات دون شعور بالتعب! لذلك احترس من هذا التعب الوهمي, الذي هو من حروب الشياطين. قال القديس باسيليوس الكبير:
ولا تعتذر عن الصلاة بالمرض, لأن الصلاة وسيلة للشفاء من المرض…
وكما قال مارإسحق إذا بدأت الصلاة الطاهرة, فاستعد لكل ما يأتي عليك أي استعد لحروب الشيطان الذي يريد أن يمنعك عن الصلاة.
خشوع الجسد لازم, لأن الجسد يشترك مع الروح في مشاعرها, ويعبر عنها. فخشوع الروح يعبر عنه خشوع الجسد. وتراخي الروح وعدم اهتمامها, يظهر كذلك في حركات الجسد, مثل انشغال الحواس بشيء آخر أثناء الصلاة! سواء النظر أو السمع وما إلي ذلك…
أما عن خشوع الروح, فيجب أن تصلي بقلب منسحق.
وتذكر أن الرب قريب من المنسحقين بقلوبهم.. لا تنس أنك طبيعة ترابية, وأنك تكلم خالقك الذي هو ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ 19: 16). ولا تنس أيضا خطاياك التي أحزنت بها روح الله القدوس, وخنت محبته وقابلت إحساناته بالجحود. لذلك قف بانسحاق قدامه, كما صلي دانيال النبي وقال لك يا سيد البر. أما لنا فخزي الوجوه. لأننا أخطأنا إليك.. تمردنا عليك (دا 9: 7-9).
قال له: أنا لا أستحق شيئا ولكن مع كثرة خطاياي وجحودي, يشجعني طول أناتك, ويعزيني قلبك الواسع. أنت الإله الطيب, الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز 18: 23, 32). في أنا الساقط تظهر عظمة مراحمك.
* ولتكن صلاتك بإيمان…
تؤمن أن الله يسمعك ويحبك, ويستجيب لك في كل ما يراه خيرا لك. وقد قال السيد الرب كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين, تنالونه (مت 21: 23). وإن لم يكن لك هذا الإيمان, فاطلبه في صلاتك. كما قال أبو ذلك المريض المصروع للرب أؤمن يا سيد. فأعن عدم إيماني (مر 9: 24).. أو كما قال الرسل للرب: زد إيماننا (لو 17: 5). تذكر ذلك الوعد الجميل (كل شيء مستطاع للمؤمن (مر 9: 23).
ثق أن الإيمان يعطي الصلاة قوة. وأيضا الصلاة تقوي الإيمان. غير أنك إن طلبت طلبا لا تتعجل نواله. وإنما انتظر الرب. آمن أنه سوف يستجيب, مهما بدا لك أنه أبطأ في استجابته. استمع إلي داود النبي وهو يقول انتظر الرب. ليتشدد ويتشجع قلبك, وانتظر الرب (مز 27: 14).
* لتكن صلاتك أيضا بعمق وبفهم…
كلما كانت صلاتك بفهم, وتقصد كل كلمة تقولها, فإنها حينئذ ستكون بعمق. إن المرتل يصرخ في المزمور ويقول من الأعماق صرخت إليك يارب. يارب استمع صوتي (مز 130: 1). من عمق قلبي طلبتك (مز 119). صل إذن من عمق قلبك, ومن عمق فكرك, ومن عمق إيمانك, ومن عمق احتياجك… وعمق الصلاة يمنحها حرارة…
تداريب علي الصلاة
1- تدرب علي إطالة الوقت في الوجود مع الله:
ما أجمل قول المرتل في المزمور محبوب هو اسمك يارب, فهو طول النهار تلاوتي (مز 119). فاسأل أنت نفسك كم من الوقت تقضيه مع الله؟ لاشك أنك تقضي أوقاتا كثيرة في أحاديث وفي ترفيهات لا تفيدك شيئا. وكلها وقت ضائع. فياليتك تخصص وقتا أطول للحديث مع الله. ولا تجعل هذا الوقت في نهاية مشغولياتك, بل في قمة مشغولياتك.
2- تدرب علي الاستيقاظ المبكر, وبدء اليوم بالصلاة..
حيث يكون القلب صافيا, ولم يزدحم بعد بأفكار العمل وسائر المسئوليات. ويكون البيت هادئا, لم يستيقظ أهله بعد ولم تدركه الضوضاء. فتخلو مع الله دون معطل, ويكون الله هو أول من تتحدث إليه في يومك, وتأخذ منه بركة لليوم كله…
3- اهتم بصلوات الساعات في الأجبية…
وإن لم تستطع خلال النهار أن تصلي كل ساعة بكمالها. فعلي الأقل يمكنك أن تصلي القطع والتحليل والخاص بها. وثق أن ذلك سوف لا يستغرق منك سوي دقائق معدودة ترفع فيها قلبك إلي الله خلال حروب النهار ومشغولياته.
وينفعك في ذلك: الحفظ. فكلما كنت تحفظ قطع ومزامير الأجبية, ستصليها بسهولة دون كتاب ودون أن يشعر بك أحد…
4- حاول أن تمارس الصلاة في كل مكان…
مطيعا قول الكتاب صلوا كل حين (لو 18: 1) صلوا بلا انقطاع (1تس 5: 17)… تدرب علي الصلاة في الطريق, حتي لا تنشغل بمناظره. تدرب علي الصلاة وأنت مع الناس, وخاصة إن كانت أحاديثهم معثرة أو لا تعنيك. تدرب علي الصلاة وأنت في طرق المواصلات, لكي تستفيد من الوقت… يمكنك أيضا أن تصلي في دخولك إلي بيتك, وفي خروجك منه. وكذلك في دخولك إلي مكان عملك وفي خروجك.. وأيضا في كل مقابلة ليعطيك الرب نعمة وتوفيقا.
5- تدرب علي الصلوات القصيرة المتكررة…
مثل صلاة يارب يسوع المسيح ارحمني أو اللهم التفت إلي معونتي. يارب أسرع وأعني. أو أحبك يارب يسوع المسيح وأبارك اسمك أو أشكرك يارب علي كل حال… أو أية صلاة تركبها من نفسك, وتكون مناسبة لحالك ومعبرة عن مشاعرك… وكثرة ترداد الصلاة تجعلها تلصق بعقلك الباطن, بحيث يدور بها فكرك تلقائيا. ويمكن أن تبقي معك حتي في نومك. ولعله ينطبق علي هذا قول المرتل (كنت أذكرك علي فراشي.
6- تدرب علي الصلاة من أجل الآخرين…
تدرب علي الصلاة من أجل كل الذين هم في حاجة. من أجل أقربائك وأصحابك وزملائك… من أجل الكنيسة بوجه عام, وكنيستك المحلية بوجه خاص, ومن أجل الخدمة, صلاة أخري من أجل المرضي والراقدين, ومن أجل المحتاجين إلي توبة. صلاة من أجل العالم والوطن… وتتدرج في الطلبة لأجل الآخرين إلي أن تصلي من أجل أعدائك ومقاوميك.
7- تدرب أن تدخل الله في كل موضوع وكل مشكلة…
فلا تقف وحدك في كل مشاكلك, ولا تعتمد في حلها علي ذكائك وحده أو مجرد معونة الآخرين. إنما اشعر بأنك لا تستغني عن الله في كل ما يعرض لك. وثق أن الصلاة ستجلب لك الشعور بالأمن والاطمئنان والسلام الداخلي. وتثق أن مشاكلك قد تسلمتها يد أمينة قوية, يمكنها أن تدبر أمورك كلها.
عندما تصلي من أجل مشكلة, إما أن يحلها الله وتنتهي. أو إن بقيت, يعطيك سلاما قلبيا من جهتها.
وهذا هو أيضا لون من حل المشكلة…
فالمشكلة موجودة, ولكنك غير متضايق منها وغير مضطرب, وكأنك لا تشعر بوجودها, وأصبحت لا تعتبرها إشكالا أو منغصا.. إنها فاعلية الصلاة.
8- تدرب علي الصلوات الخاصة, بالإضافة إلي الصلوات الطقسية:
الصلاة التي تكلم فيها الله بكل صراحة, وتكشف له كل ما في قلبك. لا مانع أن تقول له أنا يارب أحبك. ولكني أشعر أنني أحب أمورا أخري في العالم تعطلني عنك. وكلما حاولت أن أنزعها من قلبي, أجد نفسي ضعيفا أمامها. وأنا أعرف أن محبة العالم عداوة لله (يع 4: 4). لذلك أعطني يارب أن أحبك المحبة الكاملة. وأنقذني بقوتك من كل محبة ضد محبتك.
لا تكن صلاتك مجرد عبارات منمقة مختارة منتقاة. بل لتكن كلمات صريحة نابعة من قلبك, بلا تكلف ولا تصنع. تعبر عن حالتك ومشاعرك, بقلب مفتوح… واحذر من أن تكون صلاتك مجرد روتين.
9- لكي تكون صلاتك بفهم, تدرب علي التأمل في صلوات المزامير والأجبية وكل الصلوات المحفوظة…
فكلما تغوص في معاني هذه الصلوات, ستجد لها عمقا يصحبك في وقت الصلاة بها. بل ستتعلم أسلوب التخاطب مع الله. كما قال التلاميذ للرب علمنا أن نصلي (لو 11: 1).
10- إن كنت لم تصل بعد إلي الصلاة الطاهرة, فلا تمتنع عن الصلاة لهذا السبب.
فالصلاة كأية فضيلة, يتدرج الإنسان في الوصول إلي كمالها. وقد قال مارإسحق: إن كنت تنتظر حتي تصل إلي الصلاة الطاهرة ثم تصلي. فإلي الأبد ما تصلي. لأن الصلاة الطاهرة تصل إليها بالصلاة…
11- تدرب أنك تستمر في الصلاة, كلما أردت أن تنهيها…
فمن علامات نجاحك في الصلاة, أنك لا تستطيع أن تتركها وكأنك تناجي الرب وتقول ابق معي يا سيدي تقول مع سفر النشيد أمسكته لم أرخه (نش 3: 4).. بل إن كل طلبة أو لفظة تشعر بحلاوتها, فلا تريد تركها. كما قال أحد الآباء عن صلوات القديسين ومن حلاوة الكلمة في أفواههم, ما كانوا يستطيعون تركها إلي لفظة أخري.