الإنسان الروحي يرتفع فوق مستوي الجسد والجسدانيات.ولا يسلك حسب الجسد.
وفي ذلك قال القديس بولس الرسول ”لا شئ من الدينونة الآن علي الذين هم في المسيح يسوع,السالكين ليس حسب الجسد,بل حسب الروح”. (رو8:1).وقال أيضا ”إن عشتم حسب الجسد فستموتون.ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون” (رو8:13).وشرح هذا الأمر بقوله ”الذين هم حسب الجسد,فبما للجسد يهتمون.ولكن الذين حسب الروح,فبما للروح.لأن اهتمام الجسد هو موت.ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام.لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله” (رو8:5-7).وهنا يواجهنا سؤال مهم:
هل الجسد خطية؟والجواب كلا.فلماذا؟
* إن الجسد ليس شرا في ذاته,وإلا ما كان الله قد خلقه.لأن الله لا يخلق الشر.بل إن الله بعدما خلق الإنسان بهذا الجسد,”رأي الله كل ما عمله,فإذا هو حسن جدا” (تك1:31).
* ولو كان الجسد شرا,ما كان السيد المسيح له المجد قد لبس جسدا (يو1:14).
* وأيضا لأن الجسد يمكنه أن يشترك في العبادة ويخدم الله.يركع ويسجد,ويرفع نظره إلي فوق,ويرفع يديه في الصلاة,ويصوم ويتعب في الخدمة.
* وهكذا فعل كثير من القديسين.اشتركت أجسادهم مع أرواحهم في العمل الروحي,وعاشوا وهم في الجسد حياة بارة.وكانت أجسادهم مقدسة.
* والجسد ليس شرا,وإلا ما كان الله يقيمه,ويمنحه نوعا من التجلي,فيصير جسدا روحانيا نورانيا سماويا (1كو15:44و49),يقام في مجد…
* ولو كان الجسد شرا,ما كنا نكرم أجساد ورفات القديسين.وما كانت تحدث معجزات من أجسادهم,كما حدث من عظام إليشع النبي (2مل13:21).
إننا نكرم أجساد القديسين,ونضع عظامهم في أديرتنا وكنائسنا,ونحتفي بها,ونفرح باقتنائها,ونبخر لها,وندهنها بالأطياب.وننال منها بركة.
* ولو كان الجسد شرا,ما كان الرسول يقول: ”مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (1كو6:20).إذن يمكن أن يكون الجسد أداة لتمجيد الله.
* الجسد أيضا ليس شرا,لأن الكتاب يقول ”ألستم تعلمون أن أجسادهم هي أعضاء المسيح؟…أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم” (1كو6:15, 19) ”هيكل الله مقدس,الذي أنتم هو” (1كو3:16, 17).
الجسد إذن ليس خطية ولا شرا.ولكن الخطية هي في السلوك حسب الجسد,في شهواته ورغباته الأرضية.الخطية هي في تغليب الجسد علي الروح.
ما دام الجسد إذن ليس شرا,فلماذا الحديث عن الصراع بين الجسد والروح؟ولماذا إذن قول الرسول ”اسلكوا ضد الروح,والروح ضد الجسد” (غل5:16و17)؟.
هنا لا يتحدث الرسول عن الجسد كما خلقه الله.
فآدم وحواء -قبل الخطية- كان لكل منهما جسد.وكانا يعيشان في براءة كاملة ”وكان كلاهما عريانين,وهما لا يخجلان” (تك2:25).والأطفال الصغار والرضعان,لهم أجساد وليست فيها شهوة للخطية…إنما يتحدث الرسول عن الجسد الخاطئ.
الجسد إذن في ذاته ليس شرا,ولكن…
الجسد من تركيب مادي.وقد يميل إلي المادة وينفعل بها,وينفصل عن سيطرة الروح,ويقاومها.وهنا يبدأ الصراع.وتبدأ الشهوة الخاطئة…
علي أن احتياج الجسد للمادة,بطريقة طبيعية غير شهوانية,ليس في ذلك خطأ.فالجسد مثلا يحتاج إلي طعام مادي وإلي ألوان من التغذية,وليس في ذلك خطأ.بل الرسول يقول إن الإنسان ”يقيت جسده ويربيه” (أف5:29).وقد طوب الرب المهتمين بالجياع والعطاش والعرايا…
واعتبر اهتمامهم بهؤلاء,كأنه موجه إليه شخصيا.فقال للذين عن يمينه في اليوم الأخير ”تعالوا إلي يا مباركي أبي…لأني جعت فأطعمتموني,عطشت فسقيتموني…عريانا فكسوتموني” (مت25:35, 36)…وكلها أعمال موجهة إلي صالح الجسد…
هذا هو نصف الحقيقة.فما النصف الآخر؟
الإنسان الروحي يردد قول الكتاب:أقمع جسدي وأستعبده (1كو9:27).أي أقمع شهوته.
أن يعطي الجسد احتياجه الطبيعي من المادة,وليس أكثر.فإن وصل الجسد إلي اشتهاء المادة والتعلق بها,مما يخرجه عن النطاق الروحي حينئذ فالإنسان الروحي يقمع الجسد ويستعبده,أي يجعله عبدا للروح,لا يتمرد عليها,ولا يستقل عنها في تدبير ذاته.
ويصل الإنسان الروحي إلي ذلك عن طريق النسك والصوم وصلب الجسد.
وعن هذا الأمر يقول الرسول ”ولكن الذين هم للمسيح يسوع,قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل5:24)…هؤلاء يقاومون ”شهوة الجسد,وشهوة العين” (1يو15, 16) هذه التي قال عنها الرسول إنها من محبة العالم…
نحن لا نقتل الجسد,فقتل الجسد خطيئة,ولذلك لا نصلي علي المنتحر,إلا لو كان في حالة جنون لا يحاسب فيها عن أفعاله…ولكننا نعمل علي قتل شهوات الجسد الخاطئة.أي أننا نخضع شهوات الجسد لرغبة الروح في الالتصاق بالله.
وغرض النسك عن الإنسان الروحي,هو منح فرصة للروح,لتعمل عملها منطلقة من ثقل الجسد.
الإنسان الروحي يهتم بجسده,ولكن بأسلوب روحي.ويمتنع عن الاهتمام الذي يغذي شهوات الجسد,الذي حذر منه الرسول (رو8:6, 7).
وحينما يقود الجسد في حياة النسك,لا يكتفي بهذا الوضع السلبي,إنما من الناحية الإيجابية يجعل نسك الجسد فرصة لغذاء الروح.ويشرك الروح مع الجسد في هذا النسك.فلا يكون مجرد زهد من الجسد,إنما أيضا معه زهد النفس.
والإنسان الروحي يقيم توازنا في اهتمامه بكل من الجسد والروح.
ففيما يعطي الجسد غذاءه يعطي الروح أيضا غذاءها.فكما يعطي الجسد طعاما كل يوم,بوجبات متعددة,وعناصر غذائية منوعة,كذلك يعطي الروح غذاءها من القراءة الروحية والتأمل والصلاة والألحان والترانيم,والتناول أيضا.
وكما يعالج الجسد إذا مرض,يعالج الروح أيضا من أمراضها,بل يلجأ إلي الوقاية بالأكثر.وكما يمنح الجسد نصيبه من الرياضة,كذلك يستخدم الرياضة الروحية.وكما يهتم الإنسان العادي بزينة جسده وهندامه وحسن ملابسه,كذلك يهتم الإنسان الروحي بزينة الروح الوديع الهادئ. ويجعل روحه تتزين بالفضائل وثمار الروح (غل5:22, 23).
الإنسان الروحي يجعل اهتمامه الأول بروحه وبأرواح الغير أيضا.ويتحاشي كل شئ يعطل طريق الروح,سواء من الخطأ بالنسبة إلي نفسه,أو العثره بالنسبة إلي غيره…يهتم بسلامة روحه,وبالنمو في الروح.ذلك لأن روحه هي نفخة الله فيه (تك2:7),بينما جسده من التراب…بالروح يصير مثل ملائكة الله في السماء,وتصير له صلة مع الله ومحبة,وصلة مع العالم الروحاني من الملائكة والقديسين.
وباهتمامه بروحه يعود إلي الصورة الإلهية التي خلقه بها الله منذ البدء (تك1:27).
علي شبه الله ومثاله (تك1:26) ما أروع هذا!
وباهتمامه بروحه,إنما يهتم أيضا بأبديته,تلك الأبدية التي يقاس بها أبدا هذا العمر المادي علي الأرض…وباهتمامه بروحه أيضا,إنما يدخل في شركة الروح القدس ويعمل مع الله…
وهنا نسأل سؤالا أساسيا:
ما هي الحياة الروحية؟ ونلخص هذه الحياة في أمرين اثنين:
1-أن يخضع الجسد للروح.
2-أن تخضع روح الإنسان لروح الله.
في هذين الأمرين الأساسيين تتلخص كل حياة الإنسان الروحية.
يخض الجسد للروح,فلا يقاومها ولا يشتهي ضد ما تشتهي الروح ولا يدخلها في صراع معه,كما يحدث مع المبتدئين وغير الكاملين.هذا كله من الناحية السلبية أما من الناحية الإيجابية,فيشترك الجسد مع الروح في عملها الروحي.وبهذا يكافأ الجسد مع الروح في الحياة الأبدية,لأنه اشترك مع الروح في عمل البر.وسلك في حياة الروح,فيستحق لذلك أن يصير جسدا روحانيا (1كو15).
كذلك نقول إن روح الإنسان تخضع لروح الله,لأن الروح البشرية وحدها لها أخطاؤها.
فليست كل أخطاء الإنسان سببها الجسد,بل هناك أخطاء للروح.ويقول الكتاب ”قبل الكسر الكبرياء,وقبل السكوت تشامخ الروح” (أم16:18).ونحن نصلي في الساعة الثالثة ونقول ”طهرنا من دنس الجسد والروح…”..ونقول في القداس الإلهي ”طهر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا”…
والشيطان,وهو روح ليس له جسد مادي له سقطاته وخطاياه المستمرة.فقد وقع في الكبرياء (إش14:14) وقد صار المقاوم والمتمرد,وسماه الرب ”الكذاب وأبو الكذاب” (يو8:44).ونقول في القداس الإلهي ”والموت الذي دخل إلي العالم بحسد إبليس”.إذن وقع وهو روح في خطية الجسد وطبعا وقع في إعثار الآخرين وتضليلهم…كل ذلك وهو روح.لذلك هو وشياطينه يسميهم الكتاب الأرواح الشريرة,والأرواح النجسة.
الروح إذن يمكن أن تخطئ إذا انفصلت عن الله.تحتاج الروح إذن إلي شركة الروح القدس.
لذلك منحنا الله المسحة المقدسة (1يو2:20, 27) التي بها يسكن روح الله فينا ويكون معنا إلي الأبد ويرشدنا إلي كل الحق (يو16:3) ويعلمنا كل شئ (يو14:26) ويبكتنا علي الخطية (يو16:8) وباختصار فإن حياتنا الروحية كلها تتوقف علي عمل الروح القدس,واستجابتنا لعمله,واشتراكنا معه في العمل…
الإنسان الروحي لا يعمل وحده,إنما روح الله يعمل فيه,ويعمل معه,ويعمل به.
إنه أداة في يد الله,وأداة طيعة.هو غصن في الكرمة (يو15:1) تسري فيه عصارة الكرمة,ويأخذ منها حياة.والله يعمل فيه,وبدون الله لا يستطيع أن يعمل شيئا (يو15:5).
سلوكه بالروح,لا يعني بروحه البشرية وحدها,وإنما باشتراك روحه مع روح الله في العمل.وعلي هذا الأساس وحده يسمي إنسانا روحيا.
روح الله هو الذي يوجهه ويرشده,وهو الذي يمنحه الحرارة الروحية وهو الذي يمنحة المواهب والإمكانات التي يعمل بها,ويهبه أيضا القوة والقدرة.
والإنسان الروحي له الروح المطيعة,لا يحزن روح الله,ولا يقاومه,ولا يطفئ الروح.
إنه لا يدعي لنفسه أنه عمل عملا من ذاته.إنما يسجد أمام الله قائلا ”لتكن يارب مشيئتك.أنا من ذاتي لم أعمل شيئا.فكل شئ بك كان.وبغيرك لم يكن شئ مما كان” (يو1:3)
نكتفي بهذا الآن وللموضوع بقية….