نصيحتي لبناتنا بعدم الارتباط بشخص ##كذاب## أثارت البعض, ومن ردود الأفعال التي جاءتني إحساس أحدهم بأنني متحيز للنساء, مؤكدا أنهن يكذبن أكثر من الرجال! ولعلي أتفهم أن كل رجل عاني من مرارة زواج بدأ بالكذب يعتقد أنهن جميعا يكذبن. وبالمثل كل زوجة صدمها بعد الزواج اكتشاف حقيقة ما أخفاه عريسها وأهله عنها قبلا تظن أنه لا يوجد بين الرجال من هو صادق! ومع أن هذا التعميم غير مقبول, إلا أنه يؤكد أنه أيا كانت الدوافع وراء إخفاء الحقيقة فالكذب قنبلة موقوتة سيأتي وقت فيه تنفجر لتدمر علاقة بين زوجين قصد لها أن تدوم حتي يفصل الموت بينهما.
وفي مجتمعاتنا الشرقية أشهر ما تحاول العائلات أن تخفيه علي من يريد الارتباط بابنها أو ابنتها هو وجود مرض غير ظاهر, مع أن الوضوح في مشاركة هذه الحقيقة قبل بدء العلاقة لن يعوق بالضرورة الاستمرار فيها. والمؤسف هنا هو الاستهانة بتأثير هذا الموقف الخادع علي علاقة الزوجين في المستقبل.. فالطرف الذي أخفيت الحقيقة عنه سيتولد لديه شك يجعله يتوقع الكذب من شريك حياته في كل المواقف دون أن تقنعه أية تبريرات. فأي مستقبل نتوقعه لأبنائنا إذا ارتضينا كوالدين أن يبدأوا حياتهم الزوجية بكذبة أو أكثر؟!
ولكذب الرجل علي زوجته حكاية يتأثر بها أبناؤنا الصبيان دون أن يدروا.. فقد أدهشني ابني عندما أحضر لي كتاب القراءة المدرسي, وقرأ علي مسامعي درسا عن الحالات التي يسمح فيها للشخص أن يكذب, وهي بحسب كتاب الوزارة ثلاث من بينها شرعية أن يكذب الرجل علي زوجته بقصد أن يصلح الأمور بينهما عندما تسوء! ولأن عقول الصغار هي مشتل يلقي فيها بالتعليم بذار المباديء والقيم التي تشكل دوافع سلوكهم بينما يكبرون, فإن مثل هذه الثقافة تزرع في أعماقهم ما يمكن أن يؤثر في سلوكهم المستقبلي, حتي وإن ضحكوا عليها الآن. من هذه الثقافة التي تناقض ما نريد أن ينشأ عليه أولادنا جاءت مغالطة ما يسميه الناس ##كذبة بيضا##.. والتي يقصد بها أن ما يخالف الحقيقة مقبول إذا جعل الأمور تسير بدون ضرر للآخرين! أعتقد أننا لسنا بحاجة أن نثبت زيف هذه الثقافة; فالمبني علي كذب لن ينتج إلا المزيد منه, ومعه لا يمكن أن تستقيم الحياة.
لاحظت مع كثيرين من العاملين في حقل خدمة الأسرة أن أغلب المشاكل الأسرية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالكذب! استمع لحديث أي زوجين متنازعين ستجد في الأغلب أن لب الشكوي يتلخص في اتهام كل منهما للآخر بأنه يكذب. فإن كانت الوصية تعلمنا ##لا تكذب##, فأي حوار يمكن أن نصنعه مع أبنائنا لننقي عقولهم مما تلوثت به من الثقافة التي تقنن أحقية أن يكذب الرجل علي زوجته؟
بداية نحتاج أن نتحاور مع أبنائنا صبيانا وصبايا حول السؤال: ##ما الدافع وراء الكذب بين الأزواج؟## في أغلب الحالات يكون الدافع الأول هو الخوف.. الخوف يفقد الشخص شجاعته فلا يستطيع أن يواجه الأمور أو يتعامل مع الحقائق; عندئذ يكذب ليهرب من المواجهة. كذلك فكبرياء الشخص تجعله يرفض تحمل النتائج المترتبة علي قول الصدق, وبالكذب يحاول أن يحفظ ماء وجهه. وسبب ثالث شائع يدفع للكذب بين الأزواج هو الأنانية; لأن الصدق قد يمنع الشخص من الحصول علي ما يريد, أو فعل ما يحقق رغباته, بغض النظر عن تأثير أنانيته علي الآخر!
ثم لابد أن يمتد بنا الحوار مع أبنائنا لنبصرهم مبكرا بتأثير الكذب علي علاقتهم مع شركاء حياتهم في المستقبل.. فالسؤال ##ما الذي يريد أن يغطيه هذا الكذب؟## يدق أول مسمار في نعش الثقة بين الزوجين. الثقة تبني بوصة بوصة بين الزوجين بالعشرة والحب المتبادل, لكنها تهرب سريعا علي ظهر حصان اسمه ##الكذب##! والتأثير الثاني لعدم الصدق هو ضياع الشعور بالطمأنينة, خاصة ذلك الذي تتوقع الزوجة أن تجده في زوجها المسئول عن قيادة الأسرة.. فالمرأة التي تشعر أن زوجها يستهين بذكائها ويخدعها بالكذب سيصعب عليها أن تتبع زوجها أو تشعر بالأمان والحماية معه. الذي يزرع بالكذب شعورا بعدم الطمأنينة في علاقته مع شريك حياته سيحصد خوفا يسرق البهجة من حياة أسرته كلها!
والكذب بين الأزواج يضيع معه الاحترام المتبادل.. فكل رجل يسعي لاشعوريا بأن يكون بطلا في عيني زوجته, وأهم ما يريده منها -حتي وإن لم يعبر عنه بالكلام- هو احترامها له. الكذب بالقول أو بالتصرف يجعل المرأة تشعر مع الوقت أن زوجها لا يقدرها, وبالتالي سيصعب عليها الاستمرار في احترامها له, ولو في أعماقها!
في الحديث عن أهمية الألفة والعلاقة الحميمة بين الزوجين قد يتجه الذهن أولا إلي العلاقة الجنسية المشبعة للطرفين كأحد عوامل استمرار ونجاح الزواج.. هذا صحيح. لكن هذه الألفة المنشودة تستمد جذورها مما هو أبعد من مجرد العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة في الزواج; فالحميمية في أعمق وأسمي معانيها لا تكتمل إلا بالتواصل العاطفي والروحي والفكري بين الزوجين. وأكثر ما يعيق نمو ونضج هذا التواصل الفعال هو الكذب; فنحن نجني ما نزرع! فهل نجد كوالدين في هذه الأفكار ما نقيم به حياتنا, وما يشجعنا أن نقبل من جديد تحدي أن نصلح ما أفسده الكذب في حياتنا, قبل أن نستخدمها في حواراتنا الجادة مع أبنائنا لنعدهم لمستقبل ناجح؟
في بعض النصوص العبرية في العهد القديم جاءت كلمة ##ثقة## بمعني ##غير مبال##! عندما يصدق الواحد منا في كل ما يقول أو يفعل مع شريك حياته فإن الشعور بالأمان سيسود علاقتهما; إذ ليس هناك قلق من أن ينكشف أمر غير معروف لأي منهما. وفي العهد الجديد كتب الرسول يوحنا يقول: ##لا خوف في المحبة, بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلي خارج لأن الخوف له عذاب. وأما من خاف فلم يتكمل في المحبة## (1يوحنا 4: 18) وفي اللغة التي كتبت فيها هذه الآية عبارة ##المحبة الكاملة## تعني أن تسمع الآخر وتصدقه دون أن تشك ولو للحظة واحدة في دوافعه, أو ما يقصده بين السطور! أما العذاب فهو عذاب الخوف من عدم صدق ونقاء دوافع الآخر.. فلتكتمل إذن محبتنا لشركاء حياتنا بالثقة المتجددة, ولنطرد الخوف من بيوتنا بالتمسك دائما بالصدق مهما كانت التكلفة.
www.FocusOnTheFamily.me