نحن نعيش في مجتمع قدري يؤمن فيه أغلب الناس أن كل ما يحدث لهم مقدر ومكتوب. فمفهوم المكتوب علي الجبين لازم تشوفه العين تسلل إلي قناعاتنا مع أنه لا يتفق أبدا مع إيماننا. فلقد أعطانا الله وصايا بوسع الإنسان في إطارها أن يختار بين بدائل متعددة يمكن أن تتفق كلها مع إرادته. بالرغم من ذلك, فإن التوجه القدري في فكرنا يجعلنا نصمم علي معرفة الشخص الذي نختاره للزواج منه, بدلا من أن نمارس الاختيار الناضج بحسب المقاييس الإلهية, وتحمل مسئولية النتائج.
وحقيقة الاختيارات المتعددة المتاحة لنا داخل دائرة إرادة الله لا تتعارض مع علم الله السابق للأمور. فالله لا يوجد لديه فارق زمني بين توقيت اختيارنا ومعرفته به. فالزمن مرتبط بحياتنا نحن الذين نعيش تحت الشمس,أما الله فكل الأزمان والأوقات حاضرة أمامه. والحقيقة التي يصعب علينا فهمها أحيانا كبشر هي أن قصد الله في أن يعطي الإنسان إرادة حرة لا يتعارض مع طبيعة شخصه غير المحدود التي تجعله قادرا علي معرفة ما نختار في نفس الوقت.
فوجئت بأحدهم يقول لي: أنا لو رحت في وسط الصحرا ربنا هيبعتلي رزقي هناك! والمضمون القدري في هذا القول يعفي الشخص من مسئولية إهماله, وعدم رغبته في العمل.. فهو يريد أن يختار ما فيه مصلحته, أو راحته الشخصية بغض النظر عن تأثير ذلك عليه أو علي الآخرين.. وفي كل الأحوال يظل الله مسئولا عن ضمان وصول رزقه إليه, لأن الرزق مقدر ومكتوب! من المؤسف أن هذا المفهوم القدري السائد في مجتمعنا قد دخل إلي حياتنا وأصبح يؤثر بشكل أو آخر علي الكثيرين عند اختيار شريك الحياة!
تزعجني العبارة المتوارثة بين عائلاتنا: الزواج قسمة ونصيب! وعندما توقفت أمامها وجدت أنها تفقد الشخص الإحساس بمسئوليته عن اختياره, وعندما يمتحن زواجه بالصعاب تجده يلقي باللوم والمسئولية علي الله! فهل حقا عين الله لكل واحد شخصا محددا إذا لم يتزوجه فلن يحصل علي أفضل ما أعده الله لحياته؟ وإذا تزوج أحد أبنائنا طبقا لاستحسانه, أو بأسلوب تقليدي, هل سيواجه خطر عدم نجاح زواجه؟ والأهم: هل يتفق السؤالان السابقان مع ما يعلمه الكتاب المقدس من مبادئ عن حكمة اختيار شريك الحياة؟
لا شك أن هناك اختلافا في وجهات النظر المتعلقة بإجابة هذه الأسئلة.. لكن بإثارتها هنا أدعو كل أب وأم أن يتوقفوا للحظة ليفكروا في مدي تأثيرالفكر القدري علي اختيارات أبنائهم. فنحن بالقدرية نضع أنفسنا في مواجهة مع الله, وإذا تركنا أبناءنا يعيشون حياتهم بحسب المفهوم: قدر الله وما شاء فعل! فإننا بذلك لا ننمي فيهم شخصية تتحمل مسئولية اختياراتها.
لكن.. كيف لأبنائنا أن يعرفوا أن من يختارونه للزواج هو الشخص الصحيح الذي يريده الله لهم؟ بدون زعل.. هذا سؤال غير صحيح! فكلمة الله, وخبرات الحياة يؤكدان لنا أن حسن الاختيار لا يتعلق بمن هو الشخص بل بنوعية شخصيته! ولعل سليمان الحكيم عندما قال: البيت والثروة ميراث من الآباء.. أما الزوجة المتعقلة (أوالعاقلة) فمن عند الرب, كان يقصد أن شريك الحياة الذي بحسب إرادة الله هو من يستطيع أن يميز بين الأمور, ويضبط نفسه في مختلف مواقف وظروف الحياة.. وهذا مقياس محوري للاختيار بحسب إرادة الله.
وإذا اتفقنا أن الاختيار الصحيح يؤسس أولا علي نوعية الشخصية, فلنعلم أولادنا إذن أن بإمكانهم اختيار من يعجبون به, أو ينجذبون إليه عاطفيا, مادامت صفات شخصيته تتفق مع المقاييس النوعية التي وضعها الله للاختيار الصحيح, والتي تأتي علي قمتها الإيمان المشترك. وبالرغم من أن هذا لا يعني ألا يكون لأبنائنا صداقات أو علاقات عمل مع من لا يتفقون معهم في الإيمان, إلا هذه العلاقات تختلف تماما عن ارتباط العمر في الزواج.
علي أية حال, فإن مجالات الاختلاف بين الزوجين النابعة عن عدم وقوفهم علي أرضية إيمانية واحدة لا تقتصر فقط علي النظرة للعبادة, أو العلاقة بالكنيسة.. بل تتسع لتشمل الحياة بأكملها والحياة الزوجية بشكل خاص. فمفهوم من سيتزوج بابنتي عن دوره كرجل في الزواج, وكيف تنظر الفتاة التي ستقبل ابني زوجا للخضوع, الذي تتعهد به في يوم زفافها, هما من أكثر مصادر الخلافات الشائعة بين الزوجين. أما اختلاف المفاهيم عن معني وقيمة الجنس في الزواج, وكذلك الالتزام الجنسي بين الزوجين, وشكل العلاقة الاجتماعية لكل منهما مع الجنس الآخر, فهي أمور يظهر فيها التباين الفكري والأخلاقي بعد الزواج بصورة أعمق مما نتوقع أو نظن.
أيضا.. هل يؤمن من سيرتبط به ابني أو ابنتي أن الأطفال عطية من الله, وأن تربيتهم والاهتمام بهم مسئولية مشتركة بينهما؟ وماذا عن الوفاء للأبوين, خاصة إذا كان عمرهما أو حالتهما تحتاج للمعاونة؟ كيف ينظر الطرفان للالتزام بزواجهما في وقت المرض إذا طالت مدته, وهل سيبقي التزامهما كما كان في وقت الصحة؟ هل يحب ابني أوابنتي أن يرتبطا بشخص أناني لا يفكر إلا في نفسه, واحتياجاته, وسعادته فقط؟ أمور أخري كثيرة يمكن لاختلاف وجهات النظر فيها أن يفجرالعديد من المشاكل الأسرية من بينها: المشاركة في آداء المسئوليات المنزلية, ومن يمسك بميزانية الأسرة, وكيفية اختيار فرص الترفيه, وقضاء العطلات.. كذلك فهم الطرفين للخط الرفيع الذي يفصل بين الحكمة في الإنفاق والبخل.. كل هذه الأمور ما لم يكن فكر الأبناء واضحا فيها سيكون زواجهم في مهب الريح! وحوارنا معهم عنها يمهد لهم الطريق للتمتع بزواج يدوم حتي نهاية العمر.
من يجد زوجة (أو زوجا) يجد خيرا, وينال رضي من الرب (أم 22:18). ولا يزال الحديث لبناتنا الصبايا متواصلا عن صفات من يخترن للارتباط به, نكمله في المرة القادمة.
سامي يعقوب
www.FocusOnTheFamily.ME