الحشود التي تجمعت داجل الكاتدرائية المرقسية لتودع شهداء ماسبيرو لم تكن في حاجة بعد صلاة التجنيز الحارة إلي كلمة عزاء, فالرب أعطي هدوءا وسلاما للنفوس المتألمة والعيون الباكية علي فلذات القلوب الشابة التي قدمت أرواحها فداء الكنيسة وروتها بدمائها… نيافة الأنبا موسي أسقف الشباب وقف أمام أب الآباء رأس الكنيسة البابا شنودة الثالث والأحبار المطارنة والأساقفة الذين شاركوا في صلاة التجنيز والآلاف من الشعب القبطي الذين اكتظت بهم الكاتدرائية علي اتساعها… جاءوا من كل حدب وصوب في مشهد رهيب, فالحزن ليس حزن الآباء والأمهات ولا الأرامل واليتامي… الحزن حزن كل قبطي… والغضب غضب كل قبطي… ومازال الهتاف يرن في أذني بالروح بالدم نفديك يا صليب ويدور الشريط أمام عيني من الشهيد مارمرقس الرسول حامل رسالة المسيح لشعب مصر إلي شهداء ماسبيرو… ويتوقف الشريط علي صوت نيافة الأنبا موسي الهادر بعمق الإيمان… هذه ليست كلمة عزاء ولكنها كلمة وداع…
** نحن نودع هذه الأرواح البارة التي وصلت إلي فادينا يسوع, وقد رأي يوحنا الحبيب أنفس الذين قتلوا من أجل المسيح تحت المذبح في السماء… قيل لهم أن يستريحوا تماما إلي أن يكمل العبيد رفقاؤهم… وهم الآن في مكان الراحة السمائية بين يدي الله والملائكة والقديسين, يتشفعون من أجلنا وقد ارتفعوا كشهداء فوق القديسين, فالشهداء في طقس الكنيسة أسمي وأعلي من القديسين.
** يوحنا الحبيب رآهم يلبسون الحلل البيضاء علامة النقاوة والطهارة… ورآهم يمسكون زعف النخيل علامة الظفر والنصرة, لأن الكتاب قال آخر عدو يقتل هو الموت وهم استطاعوا أن ينتصروا علي هذا الموت لأنهم يعرفون أنهم سيقومون ليحيوا حياة أبدية مع الله وملائكته إلي الأبد.
** هناك يقول الكتاب يسجدون أمام الحي إلي أبد الآبدين يمجدون ويسبحون ويرتلون وقد وضعت علي رؤوسهم أكاليل وضعها الرب علي رؤوس كل الذين آمنوا به… الإكليل الأول إكليل القداسة فهنا علي الأرض يخطئون أما بعد أن صعدت أرواحهم إلي السماء فهم لا يخطئون, دخلوا إلي القداسة الكاملة في محضر قدوس القديسين الذي هو الله… الإكليل الثاني إكليل الفرح كل واحد منهم سمع صوتا يقول له ادخل إلي فرح سيدك… الإكليل الثالث إكليل الشركة مع الملائكة والقديسين والقديسات في محفل الأبرار يهللون ويسبحون معهم في حضرة الرب… ومع كل هذه الأكاليل فقد نالوا أيضا أهم إكليل إكليل الخلود لأن الرب قال إني أنا حي فأنتم ستحيون إلي الأبد.
بعد صلاة التجنيز الثانية قدم نيافة الأنبا يوأنس ثلاث رسائل إلي شهداء ماسبيرو- وتحديدا كما قال نيافته- لأحبائنا الذين سبقونا للمجد… الرسالة الأولي هنيئا لكم والرسالة الثانية هنيئا لكنيستكم والثالثة حق دمكم ومستقبل كنيستكم… لم تكن رسائل الأنبا يوأنس مجرد كلمات مرصوصة ولكنها جاءت من عمق قلبه فحركت مشاعر المحتشدين داخل الكاتدرائية, وانطلقت صيحاتهم بهتافات قوية… وكلما ارتفعت صيحاتهم كان يذكرهم أننا نكلم الرب فيتوقفون عن الهتاف ليواصل إرسال رسائله.
** الرسالة الأولي… هنيئا لكم لأنه قد يعيش الإنسان أياما كثيرة علي الأرض ويموت موتة عادية ويصل إلي السماء في درجة مؤمن عادي… وقد يعيش الإنسان أياما قليلة جدا ويموت بدرجة شهيد ويصل إلي السماء بدرجة شهيد… فهنيئا لكم.
** الرسالة الثانية… هنيئا لكنيستكم فإن كانوا يظنون أن سفك الدماء يهز شجرة الكنيسة فـ لا بل سفك الدماء يزيد الكنيسة صلابة, فشجرة كنيستنا ارتوت بدم الشهداء… فهنيئا لكنيستكم أيها الأبرار لأن دمكم الغالي جدا قد غذي شجرة الكنيسة.
** الرسالة الثالثة… فحق دمكم ومستقبل كنيستكم الذي في يد الله,… قال قداسة البابا حينما أخبرناه أن دماء أولادنا سفكت في ماسبيرو… قال بقلب مملوء بثقة المؤمن ربنا مش راح يسكت… علي جبل سيناء في مصرنا الحبيبة, صعد موسي للقاء الله فنقرأ في خروج 34 حينما ظهر الرب لموسي قال له الرب الرب إله رحيم ورؤوف بطئ الغضب وكثير الإحسان والوفاء, حافظ الإحسان إلي ألوف, غافر الإثم والمعصية والخطية, ولكنه لن يبرئ إبراء فالرب لن ينسي أبدا الظلم, ولن ينسي أبدا حق هذا الدم… فالرب الذي قال لموسي أنا الرب رؤوف ورحيم قال لقايين صوت دم أخيك صارخ إلي فصوت دم أولادنا صارخ إلي الرب من الأرض… والمجمع المقدس اجتمع صباح اليوم وقد قرر رفع الأمر إلي الله بالصوم والصلاة ثلاثة أيام وسوف يتدخل الرب.
بعد رسائل الأنبا يوأنس الثلاث إلي أحبائنا الذين سبقونا للمجد تكلم نيافة الأنبا موسي فأجري حديثا مع شهدائنا الأبرار سألهم فيه عن الوصية التي يودون أن يقولوها لنا وهم يتركون هذا العالم الفاني ويتجهون إلي السماء… وفي كلمات كلها تعزية جاءت إجابة الشهداء علي لسان الأنبا موسي… قالوا ما قاله داود النبي لسليمان ابنه وهو في طريقه إلي الأبدية أنا ماض في طريق الأرض كلها فتشدد وتشجع وكن رجلا وهي الوصية التي نحتاجها اليوم.
** هكذا قال الأنبا موسي… ومن هنا انتقل إلي ثلاث آيات تعزينا:
** الآية الأولي سر الرب به فنقله فعندما فرح الرب بهم وبحياتهم المقدسة وحبهم له ولكنيستهم دعاهم ليعيشوا معه إلي الأبد, فالشهيد هو الإنسان الذي شاهد المسيح بإيمانه وكان في قلبه وفي حياته وهؤلاء هكذا كانوا, والشهيد أيضا هو الذي شاهد للمسيح, وإن كنتم تهتفون بالروح والدم نفديك يا صليب فهم فعلا قدموا نفوسهم شهداء علي اسم المسيح… وهذا الموكب الذي نقيمه لهم علي الأرض يقابله موكب آخر وهم علي مشارف السماء يستقبلهم الرب قائلا لكل واحد منهم ادخل إلي فرح سيدك.
** الآية الثانية من وجه الشر يضم الصديق وقد رآهم الرب صديقين فضمهم إليه من وجه الشر… قال لهم ما قاله لأحد الرهبان في اللحظة الأخيرة, إذ سمع صوتا من السماء يقول له كفاك تعب يا حبيبي فرحل كمن يعانق حبيبه… وهكذا هم أيضا يعانقون رب المجد في طريقهم للأبدية.
** الآية الثالثة هي وعد الرب إن كان أحد يخدمني يكرمه الآب وهؤلاء خدموا الرب خدمة كبيرة في كنائسهم وفي بيوتهم وفي حياتهم… وبعد كل هذا خدموا الكنيسة بدمهم, فهذا الدم هو الذي يروي شجرة الكنيسة… والكنيسة القبطية هي أكثر كنيسة في العالم قدمت شهداء, والكنيسة الوحيدة التي لها تقويم شهداء… واليوم نقول للكنيسة مبروك هؤلاء الشهداء… ومبروك لهم الحياة الأبدية.