منذ أيام قليلة كرمت نقابة الصحفيين الناقد الكبير رجاء النقاش لبلوغه الثالثة والسبعين,وبعث في هذه الاحتفالية الشاعر الكبير محمود درويش برسالة إليه عبر فيها عن حبه معترفا له الفضل وقال في رسالته ”عزيزي رجاء النقاش كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي منذ جئت إلي مصر (…) أخذت بيدي وأدخلتني إلي قلب القاهرة الإنساني والثقافي”.وتابع: ”وكنت من قبل قد ساعدت جناحي علي الطيران التدرجي فعرفت قراءك علي وعلي زملائي القابعين خلف الأسوار (…) عمق إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي.كان النقاش قد أصدر عام 1969 كتابا عنوانه ”محمود درويش شاعر الأرض المحتلة” قبل أن يخرج درويش من بلاده وينال شهرته الواسعة.وما بين أخبار تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش وخبر وفاته يوم الجمعة قبل الماضي فوجئ الجميع في مصر برحيل صاحب كتاب ”تأملات في الإنسان”,و”عباقرة ومجانين”,و”في حب نجيب محفوظ”,و”ثلاثون عاما من الشعر والشعراء”,و”نساء شكسبير”,و”نجيب محفوظ صفحات في مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته”,و”بين اليمين واليسار” عن محمود عباس العقاد,”شعراء عالميون” والذي يتناول فيه حياة أربعة من كبار الشعراء العالميين هم ”بابلو نيرودا” من تشيلي,و”كفافي” من اليونان,و”طاغور” من الهند,و”رسول حمزاتوف” من داجستان,و”قصة روايتين:دراسة نقدية وفكرية لرواية ذاكرة الجسد ورواية وليمة لأعشاب البحر”,و”وايس عوض في الميزان”,”شخصيات وتجارب”,و”لغز أم كلثوم”.
المبشر النبيل
عشق محمد رجاء عبدالمؤمن النقاش المولود في سبتمبر 1934 في محافظة الدقهلية الكتابة منذ الصغر حيث بدأ الكتابة وهو في الفرقة الأولي في كلية الآداب في جامعة القاهرة.وعرفه القراء من خلال مقالاته في مجلة ”الآداب” البيروتية التي كانت منبرا لعدد من الشعراء والكتاب العرب.وارتبط به العديد من القراء لأسلوبه البسيط غير الأكاديمي في تحليل الأعمال الأدبية والثقافية.
عمل رجاء النقاش بالصحافة منذ عام …1953عندما اختاره زكريا الحجاوي ليعمل في جريدة كانت تحت الإنشاء في ذلك الوقت وهي جريدة الجمهورية.كانت وظيفة متواضعة وهي التصحيح,وكان طالبا في الجامعة في تلك الفترة وبأشد الحاجة لمثل هذا العمل فقد كانت ظروفه الاقتصادية سيئة -وفقا لكتاب الهلال عن رجاء النقاش بعنوان: ”رجاء النقاش…القلم والإنسان”- ولم تساعده علي إكمال تعليمه الجامعي,وكان مرتبه بالشهر 10جنيهات وهذه الجنيهات القليلة كان لها فضل علي إكمال تعليمه الجامعي.أما عن أول صدمة ثقافية في حياته هي…عندما فوجئ قبل صدور العدد الأول من الجريدة تم إصدار قرار من السادات بإيقاف زكريا الحجاوي عن العمل ومنعه من دخول الجريدة,بناء علي ما وصله من تقارير أن الحجاوي يتآمر عليه,وبعد فترة من صدور الجريدة تعرض النقاش أيضا للفصل,ثم رشحه الأستاذ أنور المعداوي للعمل في المجلة الأسبوعية وكان عمله مراجعا لكل المادة التي تنشر فيها.بعد تخرجه في كلية الآداب سنة 1956 عمل في الإذاعة في قسم التمثيليات مع الأستاذ يوسف الحطاب وكان قارئا للنصوص ثم انتقل للعمل مع الكاتب سعد الدين وهبة في المجلة التي كان يحررها وهي ”البوليس”,انتقل بعدها للعمل في جريدة ”الجماهير” التي كانت تصدر في دمشق في أيام الوحدة بين مصر وسورية,ولم تستطع الجريدة الاستمرار بعد توالي التقارير السرية الأمنية ضدها وضد رئيس تحريرها د.جمال الأتاسي,وتوقفت عن الصدور مما اضطره للعودة إلي مصر في ظروف بالغة الصعوبة,فلم يكن لديه مرتب ولم يحصل علي مكافأة ولا علي أي شئ,بعد عودته إلي مصر عمل في عدة مجلات…مجلة روز اليوسف,أخبار اليوم,جريدة الجمهورية,ومنها إلي دار الهلال مع أحمد بهاء الدين,ليتولي رئاسة تحرير مجلة الكواكب,وتولي أيضا بعدها رئاسة تحرير الهلال,وانتقل للعمل في مجلة الإذاعة والتليفزيون رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا للتحرير جاعلا منها مطبوعة ذات توجه ثقافي حيث نشر رواية ”المرايا” لنجيب محفوظ مسلسلة قبل صدورها في كتاب.
وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي انتقل إلي قطر للعمل مديرا لتحرير جريدة ”الراية”,ثم أسس مجلة ”الدوحة” التي ذاع صيتها حتي إغلاقها عام .1986
وفي السنوات الأخيرة أصبح كاتبا متفرغا بصحيفة الأهرام.كما نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام .2000
برز النقاش -المبشر النبيل كما قال عنه الشاعر محمود درويش- منذ مطلع العشرينيات من عمره ناقدا أدبيا,مقدما للثقافة العربية ثلاثة من أهم الأسماء هم ”الشاعر الفلسطيني محمود درويش,والروائي السوداني الطيب صالح,والشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي” فكتب عن درويش كتابه الشهير ”شاعر الأرض المحتلة” الذي يعد أول دراسة نقدية في أشعار الشاعر الفلسطيني.كذلك قدم للطيب صالح روايته ”موسم الهجرة للشمال” وكتب المقدمة الشهيرة لديوان أحمد عبد المعطي حجازي ”مدينة بلا قلب”.كذلك ارتبط النقاش بصداقة قوية مع الروائي الراحل نجيب محفوظ,بل إن محفوظ كان يراه ”مخزن أسراره الشخصية”.
وينتمي النقاش إلي أسرة ضمت مثقفين بارزين فكان أخوه الراحل وحيد النقاش مترجما وناقدا وأخوه فكري النقاش مؤلفا مسرحيا,وتولت أخته الناقدة فريدة النقاش رئاسة تحرير مجلة ”أدب ونقد” لنحو عشرين عاما,ثم أصبحت منذ نهاية 2006رئيسة تحرير صحيفة ”الأهالي” – لسان حال حزب التجمع اليساري – وأمينة النقاش الصحفية ومديرة تحرير جريدة الأهالي.
مواقف ومعارك
وللأستاذ رجاء النقاش العديد من المواقف والمعارك الفكرية فعندما تمر علي مصر أي أزمة سواء ثقافية أو سياسية لابد أن يفندها النقاش ويناقشها ويحللها برؤية الناقد.فيوم انكسرت الكرامة الوطنية,برزت يومها ”الأفكار الانعزالية” تحاصر المصريين بسبب نكسة 1967,تصدي النقاش لتلك ”الموجة العارضة” في كتابة: ”الانعزاليون في مصر”,ناقدا أفكارهم وكاشفا عن ”أصولها التاريخية”,وداحضا أطروحتها من خلال الوقائع والحقائق التاريخية,فكان بكتابه هذا أجرأ الأصوات الناقدة المنتصرة والمشجعة لنهوض مصر في ذلك الوقت الصعب.
ويوم تعرض نجيب محفوظ -نتيجة أفكاره السياسية- لبعض حملات التشكيك,والهجوم بأفكار غير ثقافية,ما كان من رجاء النقاش إلا أن يكتب ”في حب نجيب محفوظ” واقفا من خلال هذا الكتاب وقفة تعاطف مع عميد الرواية العربية الأديب العالمي نجيب محفوظ.
ومن آرائه الثقافية التي نادي بها…إعادة إحياء الإنتاج الثقافي للقرن العشرين.فهو يري أنه قرن عبقري في الثقافة العربية,ويجب أن نضعه بين أيدينا وأمام أجيالنا الجديدة.لأنه بداية نهضة كبيرة نحتاج إليها ولا يمكن لهذه النهضة أن تتم دون أن نكون علي صلة وثيقة بإنتاج القرن العشرين.فهو قرن تجديد اللغة والفكر الديني وفتح الأبواب أمام الفكر السياسي الغربي الذي بدون استيعابه والاستفادة منه لا يمكن أن نقيم حياة سياسية سليمة.وهو القرن الذي عرفنا فيه المسرح وأصبح فيه كتاب موهوبون وعرفنا القصة والرواية,فيجب إعادة نشر تراث القرن العشرين بأمانة وعناية ونحرص علي أن يصل إلي الجماهير الشعبية الواسعة أما عن الثقافة الحالية للأسف يقول بإنها:”لا تشغل إلا هامش الحياة العربية.فلا أهل السلطة ينظرون إليها نظرة اهتمام جدي,ولا الجمهور يهتم بها ولا يقبل عليها,لأن السياسة والهموم الاقتصادية ابتلعت دور الثقافة وأعادته كثيرا إلي الوراء.وهو وضع خطير لأنه عندما تختفي الثقافة الحقيقية تحل محلها ثقافة زائفه مليئة بالخرافات والانحرافات وتلك هي البيئة التي يظهر فيها التعصب والتطرف وانعدام الحوار والاهتمام بالشكليات والبعد عن جوهر الأمر.وهذه الثقافة الزائفة هي ثقافة التخلف وهي التي تعوق نهضة الأمة وتقدمها.فنحن ننهزم وننكسر في كل مواجهة جدية لأننا لا نملك المقومات الثقافية الحقيقية لمثل هذه المواجهة” .