لم يعد المنصب السياسي اليوم بعيدا عن المصالح الاقتصادية للدولة حتي لو كان هذا المنصب هو كرسي رئاسة الجمهورية.. بل ربما كان منصب الرئاسة يلقي عبئا أكبر إزاء مصالح الدولة الاقتصادية.
منذ أن جلس ساركوزي علي كرسي رئاسة الجمهورية عقب إجازة قصيرة قضاها خارج البلاد في أعقاب المعركة الانتخابية مباشرة وضع في رأسه أن يبدأ مرحلة جديدة في السياسة الفرنسية, ورغم حوادث العنف التي اجتاحت الضواحي وكان له حولها رأي شديد القسوة في وصف أعمال المهاجرين التي اتسمت بالتخريب وحرق المصالح المدنية من متاجر وسيارات.. إلا أن ذلك لم يمنعه أن يبدأ مخطط الصفقات التي يتطلع إليها حيث يري فيها إنعاشا حقيقيا للاقتصاد الفرنسي.
كانت البداية رحلته إلي الصين وكان يتطلع إلي عقد صفقات تجارية في حدود 20 مليار دولار.. لكن فراسة قادة الصين أعطته أكثر من طموحه فارتفع رقم الصفقات إلي 30 مليار دولار مما أعطاه دفعة قوية إزاء برنامجه الاقتصادي الخاص بتقوية العلاقات التعاونية الخارجية بما ينعش اقتصاد الداخل ويرفع من رقم الصادرات لتحقيق فائض حسابات أكبر لصالح فرنسا.
ورغم هذا الحجم الكبير من الصفقات مع الصين, فإن ساركوزي لم يفته أن يتحدث عن رغبة بلاده في إعادة تقييم العملة الصينية (اليوان) إذ أن التناغم الدولي يحتاج تحقيق توازن بين العملات الرئيسية كما قال في لقائه مع الرئيس الصيني.
تضمنت العروض الموقعة طائرات بقيمة 12 مليار يورو وأن تشتري الصين مفاعلين ومحرقات التشغيل بقيمة ثمانية مليارات يورو وأن تسدد الصين القيمة باليورو وليس بالدولار بما يمكن الصين من بناء مصنع لإعادة معالجة اليورانيوم خلال عامين أو ثلاثة وهو ما يعتبر أكبر عقد توقعه فرنسا خاص بالصناعة النووية المدنية بما يمكن الصين من بناء 32 محطة نووية حتي عام 2020.. ورغم أن الاتفاق النووي سيوقع في وقت قريب إلا أن الرئيس الفرنسي وعد الرئيس الصيني – كما جاء في البيان المشترك – علي درس إمكانية التعاون في مجال إعادة معالجة النفايات النووية وبناء مصنع تقدر تكلفته في حدود 15 مليار يورو وإن كانت صحيفة لوموند قالت إن هذا الاتفاق – خلال الـ 30 مليار يورو – لن يوقع قبل عامين قادمين.
في مقابل ذلك أبدت الصين رغبتها في أنها تتطلع إلي وجود حوار استراتيجي دائم وتشاور للتنسيق حول مواضيع عالمية وقضايا دولية كبري بهدف وجود عالم متجانس مع سلام دائم وازدهار مشترك.. وقبل أن يغادر ساركوزي جمهورية الصين لم يفته أن يتحدث عن صين واحدة وإعلان معارضة فرنسا لاستقلال تايوان أو ضمها إلي هيئة الأمم المتحدة واعتبر ساركوزي أن هذه الأعمال باطلة حتي إذا تمت من خلال استفتاء تتحدث عنه السياسة الأمريكية.
ويعود ساركوزي إلي باريس ليطير بعدها إلي المجال الطبيعي للتجارة الفرنسية منطقة الفرنك فون وفي مقدمتها دول البحر المتوسط أو ما نسميها نحن دول المغرب العربي بداية من ليبيا حتي المملكة المغربية قبالة مضيق جبل طارق مرورا بتونس والجزائر.
محطة الوصول الأولي كانت في الجزائر لتأمين احتياجات فرنسا من الغاز والبترول في اتفاقيات تعدت عشرين مليار يورو وهذه الاتفاقيات في ذاتها توسع السوق الجزائرية أمام الصادرات الفرنسية باعتبار الجزائر والمغرب وتونس هي المجال الحيوي للسلع الفرنسية, ولم تكن التصريحات المعادية من بعض الساسة الجزائريين تشكل حائلا دون عقد هذه الصفقات الضخمة مع الحكومة الجزائرية.. ولم تكن المغرب بعيدة عن هذه الصفقات حيث تمت اتفاقيات مع المملكة في حدود عشرة مليارات يورو أخري..
وتكشف زيارة قائد الثورة الليبية الأخ العقيد معمر القذافي للعاصمة الفرنسية باريس عن عقود تعدت العشرة مليارات يورو رغم الحملة المضادة لهذه الزيارة من الفرنسيين أنفسهم غير أن نيكولا ساركوزي دافع عن الرئيس الليبي ضد مهاجميه ونفي عنه صفة الديكتاتور بل خلع عليه لقبا لم يدر بخلد العقيد نفسه إذ قال: الرئيس القذافي أقدم رئيس عربي في المنطقة ولهذا يحظي منا بكل احترام.. الصفقات شملت توريد أسلحة للجيش الليبي ومحطات طاقة نووية وطائرات مدنية وحربية بالإضافة إلي تأمين توريد البترول والغاز من ليبيا إلي فرنسا.. ويكفي الفرنسيين أنهم شاهدوا لأول مرة علي أرض العاصمة خيمة الأخ العقيد التي يعتبرها لازمة وطنية علي أرض ليبيا أو في أي أرض يزورها.
وهكذا أثمرت الجولة, فليس الهدف هو الترويج والبيع في ذاته بل انعكاسات نتائج هذه الصفقات علي الاقتصاد الفرنسي وما يمكن أن تحدثه من رواج وفرص عمل يستهل بها ساركوزي مسئوليته.. حتي لو كانت البداية رحلة مندوب مبيعات.. ولكن من أجل فرنسا.. ومن أجل ارتباط الرواج الداخلي باسمه كرئيس لفرنسا.. لقد عاد من الجولة وفي جيبه عقود قيمتها 80 مليار دولار إن لم تزد.