ثلاثة وخمسون عاما مرت علي رحيله وما تزال ذكراه الخالدة ماثلة أمام أعيننا متمثلة في مآثره العلمية والفكرية النابضة بالحياة يتوارثها جيل وراء جيل من تلاميذه ومريديه من الصيادلة في حقلي الصيدلة والآثار, فهو واحد من العلماء المصريين القلائل الذين سجلوا أسماءهم بحروف من نور في سجلات الزمن الجميل. هو من أعاد مجد العلوم المصرية ليثبت للعالم أجمع أن تاريخ الصيدلة في مصر ليس فقط ماضيا تفتخر به فدلالات الحاضر كثيرة ولعل أحدثها وليس آخرها ذلك التكريم الذي حظي به هذا العالم العلم اسما ودورا وجهدا وعطاء طوال مسيرته العلمية.. وحسبنا ما قاله فيه عالم المصريات الكبير الدكتور عبد الحليم نور الدين في حضور كوكبة من تلاميذه إلي جانب أبنائه وأفراد من عائلته وإهداء درع المؤتمر التكريمي لعائلته تخليدا لذكراه العطرة.
نحن نكتب عن واحد من أبرز الرواد المصريين الذين تركوا لنا بصمات واضحة في علم الصيدلة والمصريات, ورائدا طوال مسيرته البحثية والعلمية, كان شعلة مضيئة متوهجة وقودها البحث والعلم والمعرفة إنه د. صابر جبرة.
ولد صابر جبرة في أكتوبر سنة 1908 في أبو تيج, ويشير مكان ولادته إلي مستقبل دراسته حيث إن كلمة أبو تيج مصدرها فرعوني ومعناها أبو تيكا أي مخزن الأدوية أو العقاقير, وكانت عائلته من بين أعرق وأغني العائلات في المنطقة, فوالده كان من ذوي المكانة في نفوس أهل البلدة وحكامها الأتراك آنذاك, وكان منزل عائلته مكان ضيافة لهم ولرؤساء الهيئات ورجال الدين, فكان لوالديه الدور الأكبر في نبوغه العلمي حيث أدخلاه مدرسة القرية… بعدها انتقل إلي أسيوط ليكمل تعليمه الثانوي.
بعد إنهاء دراسته الثانوية التحق بكلية الطب وبدأ يدرس الصيدلة بعد السنة الإعدادية وسرعان ما اتضحت أمامه بوادر مستقبل حياته فبعد إنهاء دراسته في مدرسة الصيدلة عام1932 حاز علي جائزة مظلوم بك وقدرهاعشرة جنيهات, نظرا لحصوله علي الترتيب الأول في سنوات دراسته الأربع, وقد أفردت له جريدة اللطائف المصورة الغلاف الرئيسي بها عام 1933, بجانب حصوله علي جائزة بحري بك لتفوقه في علم خواص العقاقير.
الطريق أمام د. صابر لم يكن مفروشا بالورود فبعد مرور عامين من تخرجه لم تتح له فرصة تكملة دراسته العلمية بالكلية فمارس مهنته حرا حتي نوفمبر سنة 1934 حيث عين صيدليا ضمن أول فوج من المصريين بمصلحة المستشفيات الجماعية بعد أن كان ذلك العمل حكرا علي الأجانب, وتدرج في ترقياته حتي أصبح صيدلي أول مستشفي قصر العيني, وظل في هذا المركز حتي توفي في 24 نوفمبر 1957, ومن عجائب الصدف أن هذا اليوم من سنة 1934 كان تاريخ تعيينه بتلك الوظيفة, كما شهد العام نفسه زواجه, وكان لزوجته بالغ الأثر في تشجيعه علي الاستمرار في التحصيل العلمي, وعند وضع الدستور المصري للأدوية سنة 1934 اختص د. صابر جبرة بمواضيع المقارنة بين دساتير العالم في مختلف التحضيرات والمركبات.
ولما ذاع صيته انتدبه الدكتور بحري بك عام 1935 للإشراف علي معامله التي كانت أكبر معامل في مصر وأقدمها.. وقد قضي ستة شهور بها يتدرب علي التحاليل الطبية والصناعية شهد له بعدها الأستاذ بحري بك بتفوقه وتقدمه.
وعلي الرغم من كل تلك النجاحات إلا أن حلم الدراسة بكليته ظل يراوده بين الحين والآخر, ولم يعقه حلمه عن أداء رسالته في خدمة العلوم, فالتحق في سنة 1939 بمعهد الآثار المصرية بكلية الآداب جامعة القاهرة, ولما أنشئت دراسات التخصص بكلية الطب سنة 1940 لم يتخلف عن الركب فتقدم مبعوثا من مصلحة المستشفيات الجامعية لدراسة دبلوم تحليل العقاقير D.D.A وهو أحد الفروع الدراسية المعقدة في مادة الصيدلة, وقد نال هذه الدرجة في ديسمبر سنة 1943 وكان أحد ثلاثة متخصصين في هذا الفرع, وفي عام 1944 حصل علي دبلوم الآثار بعد دراسة دامت خمس سنوات.
في ذلك الوقت كان د. جبرة يعاني من أزمة عائلية حادة تمثلت في مرض زوجته وكانت ابنتهما مازالت صغيرة تحتاج إلي رعاية, فكان في وظيفته صباحا وفي الظهر زوجا ومعالجا وبعد الظهر في معهد الآثار ومعمل التحليل وفي الليل دراسة, وهكذا كان يستميت ليقوم بكل هذه الواجبات علي الوجه الأكمل, وكان لابد أن يجني الرجل ثمرة تعبه واجتهاده فبدأ الحصاد يتبلور وبدأت المعلومات تقترب من هنا ومن هناك وأصبحت دراسة الآثار مقرونة في ذهنه بدراسة الصيدلة, وشعر أن هذا الخليط من العلوم يقع بميدان مغمور لم يطرقه أحد من قبل وهو الدوء والعلاج عند قدماء المصريين, وفعلا اكتملت النبتة في ذهنه وحاول أن يقوم بتسجيل موضوع الدكتوراه بكلية الطب, ولكن هذه الدرجة لم تكن فد أنشئت بالكلية بعد فسجلها بكلية الآداب وأعد الموضوعات واستمر في البحث والتجميع بإرشاد أساتذته… فكان الدكتور سامي جبرة يشرف علي ناحية الآثار والدكتور جورجي صبحي يشرف علي الطب والصيدلة والتاريخ, كما أن الدكتور لويس كيمر وضع تحت تصرفه مكتبته الخاصة ومعلوماته القيمة, وفي هذا الوقت أنشأت كلية الآداب معملا كيماويا بمعهد الآثار فأنتدب للإشراف علي ترميم وإصلاح الآثار الموجودة بمتحف المعهد, وساعده ذلك علي تكملة الناحية العلمية المعملية من دراساته وأبحاثه, وأنهي أبحاثه وحصل علي الدكتوراه سنة 1951 بتقدير جيد جدا, وقد كانت مناقشة رسالته من أعنف المناقشات التي شهدتها الكلية بشهادة أساتذته, فقال د. جرجس متي أستاذ اللغات القديمة المصرية عن بحثه: هذا البحث شيق شامل جمع بين الأدب والطب والصيدلة واللغات… وأثبت البحث أنه يعتمد علي دراسة لغوية عميقة قلما يلم بها المتفرغ لهذا النوع من الدراسة, وبالفعل وبعد أربع سنوات حازت الرسالة علي جائزة كامل بولس حنا بكلية الآداب علي أنه أحسن بحث دكتوراه قدم ما بين سنة 1949 وسنة 1955, ومما هو جدير بالذكر أنه يجري حاليا العمل علي إعادة نشر هذه الرسالة بعد مراجعتها وتنقيحها.
سنوات النجاح لم تجعل د. جبرة ينسي حلمه الأول باستكمال دراسته بالكلية, ولم تعقه الأحجار المرصوصة أمامه عن تقدمه, فكان يرسل إلي كلية الطب المذكرة تلو الأخري لإتاحة الفرصة له لتكملة أبحاثه ونشرها بالكلية, وفي خاتمة إحدي هذه المذكرات يقول أطمع في إتمام أبحاثي في موضوع العقاقير القديمة وخاصة المصري منها ولا يخفي ما في ذلك من الأهمية الوطنية والعلمية كما أشارت بذلك مؤسسة اليونسكو العالمية.
وأخيرا كللت هذه المحاولات بالنجاح, وانتدب في العام الدراسي 1951/1950 لتدريس محاضرتين أسبوعيا في تاريخ الصيدلة لطلبة مدرسة الصيدلة, واستمر هكذا بجامعة القاهرة ثم كلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية وقد عمل عميدها الأول الدكتور محمد مطاوع علي تشجيع دراسته وانتدبته الكلية لتدريس محاضراته جزءا من علم الصيدليات.
وأثناء ذلك كان ينشر أبحاثا عن نشاطه العلمي بمجلة جمعية الصيدلة ونشرات المجمع العلمي والتي حازت علي إعجاب أعضاء المؤتمر الصيدلي قسم تاريخ الصيدلة الذي عقد في بوسطن.
للدكتور صابر جبرة الكثير من المؤلفات التي نشرت بالعربية والإنجليزية عن تاريخ الصيدلة والطب في فترة العصر القبطي, وله كتاب بعنوان مجد الكتاب المقدس, وهو بحث شامل لما يحويه الكتاب المقدس من حقائق علمية وأدبية وفنية في شتي نواحي الدراسات كالهندسة والصيدلة والموسيقي, كما أنه ألقي العديد من المحاضرات في معهد الدراسات القبطية حيث كان يشغل منصب أستاذ الحضارة والترميم لمدة ثلاث سنوات حتي انتقاله, وفي أوائل عام 1957 تم طبع الجزء الأول من كتابه الكبير مصر وركب الحضارة, وهو بحث في تاريخ الصناعات والعلوم الصيدلية والكيميائية, ولم ينس أساتذته الذين طالما شجعوه طيلة حياتهم, فكتب الإهداء لهم قائلا:
إلي اثنين من أعز الناس إلي قلبي وأقرب الناس إلي روحي وهما أصحاب فضل علي, منهما قبست العلم من ناحيتيه الآثار والصيدلة, إلي هذين الشيخين, شيخ الصيدلة في مصر وعميدها الدكتور/ إبراهيم رجب فهمي وشيخ الأثريين في مصر وعميدهم الدكتور سامي جبرة, أقدم مجهودي الصغير المتواضع.
… وللأجيال القادمة كان د. صابر جبرة لهم خير أستاذ وأخ وصديق, فاشترك مع مجموعة من الصيادلة في تأسيس جمعية الصيدلة المصرية ونقابة الصيدلة وأسرة تحرير مجلة الصيدلة وقد أمدهم بالكثير من المقالات والأبحاث.
وقبل أن نغادر شاطئ الذكريات مع د. صابر جبرة كان لابد وأن نلقي الضوء علي إسهاماته ومشاركاته الإنسانية في العديد من المؤسسات الإجتماعية مثل مستشفي هرمل والجمعيةالخيرية القبطية وجمعية التوفيق القبطية والكلية الإكليركية وجمعية البحوث الروحية, وكانت لرحلة العطاء نهاية فمع حلول عام 1957 سقطت ورقة خضراء يانعة يافعة إذ رحل عن دنيانا وغادرنا بجسده إلا أن جهوده وأبحاثه وإسهاماته العلمية والفكرية والروحية والاجتماعية ما تزال تثري حياتنا المعاصرة كواحد من أبرز الذين قدموا للبلاد والإنسانية الكثير والكثير في تواضع جم شهد له به المسئولون والعلماء تأكيدأ لأفضاله وعطاءاته التي ظلت تتواصل حتي الرمق الأخير.
المرجع: حوار مع جمال جبرة
المستشار السابق لأمراض الدم بمنظمة الصحة العالمية