من إيجابيات الضجيج الإعلامي الذي تسببت به ردود الفعل علي تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي, والتي طرح فيها مخاوف مسيحية من بعض أوجه الربيع العربي, والتغييرات التي يحدثها, لا سيما في سورية, أنه أطلق نقاشا علنيا وضمنيا حول الدور المسيحي في الحقبة الجديدة التي يشهدها العالم العربي أولا, وتداعيات أحداثها ثانيا, وهو نقاش لا يلبث أن ينقل التفكير بالأمر الي ما هو أوسع, ليشمل دور الأقليات وموقعها في التغيير, وما سينجم عنه من معادلات.
قد لا يكون البطريرك الراعي قصد إطلاق هذا النقاش الذي يتعدي اللحظة السياسية الي ما هو أعمق, لكن تفاعلات مسارعته الي الحديث عن القلق من أن يدفع المسيحيون ثمن تولي ##الإخوان المسلمين## الحكم في سورية, ومن ##تحالف السنة فيها مع سنة لبنان ما سيزيد التأزم مع الشيعة##, والذي سبقه كلام عن إعطاء فرصة للرئيس السوري بشار الأسد لتنفيذ الإصلاحات, لن تقف عند حدود ما سيرتبه ذلك في الحلبة السياسية اللبنانية, التي يسهل فيها إخضاع عناوين كهذه للاستثمار في الخصومات والانقسامات القائمة راهنا.
والتفاعلات الأهم من الجلبة السياسية الداخلية حول كلام البطريرك هي تلك التي ظهرت وستظهر في ثلاث دوائر مهمة معنية بما قاله هي: دائرة مجلس المطارنة الذي يحوي رأيا آخر غير رأي البطريرك في شأن الموقف من النظام السوري ومن سلاح ##حزب الله## الذي ربطه الراعي بالاحتلال الإسرائيلي, ودائرة الفاتيكان الذي بموازاة قلقه علي أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط من تنامي الأصوليات, كان له موقف من أحداث سورية عبر عنه البابا بنديكت السادس عشر في (أغسطس) الماضي حين وجه في صلاة التبشير ##نداء ملحا الي السلطات والسكان في سورية لإعادة إحلال التعايش السلمي في أسرع ما يمكن والتجاوب في الشكل الملائم مع تطلعات المواطنين المشروعة بما يراعي كرامتهم ويدعم الاستقرار الإقليمي## وتوجه الي السفير السوري في الفاتيكان مطالبا الرئيس الأسد ##بالأخذ بتطلعات المجتمع المدني والهيئات الدولية##.
أما الدائرة الثالثة, فهي فرنسا التي عبرت للراعي عن خيبتها من كلامه, لقد طرح قلق البطريرك السؤال عما إذا كان للكنيسة في لبنان التي لديها المشروعية في التعبير عن هواجس مسيحيي الشرق ككل, موقف جديد حيال الأوضاع في لبنان والمنطقة والمستقبل الآتي, الذي سيشهد تغييرات حتمية بحكم الربيع العربي. فالبطريرك انطلق من فرضية أن النظام السوري سيزول حين انتقل الي الهاجس حيال ما بعده. وهي فرضية ما زالت خاضعة للأخذ والرد, إلا إذا كان أخذه بها جاء نتيجة التأكيد الفرنسي له أن ##النظام انتهي## وقاده ذلك الي استعجال التعبير عن الهواجس.
في كل الأحوال يقتضي البحث عن أجوبة علي الأسئلة المسيحية حول ما بعد الثورات العربية انطلاقا من التدقيق أكثر في حقيقة الحركات الإسلامية المشاركة فيها. وفي هذا المجال يدعو المعارض السوري الكاتب ميشال كيلو في مقابلة صحفية نشرت قبل يومين الي النظر الي هذه الحركات ليس انطلاقا من تجارب سابقة في السبعينيات حين استندت الي شعار ##الحاكمية## وتكفير الآخر وأنها الآن باتت تطالب بالدولة المدنية وبالتعددية.
لكي يستقيم النقاش الجدي حول موقع المسيحيين بعد الثورات, يفترض عدم ربط ذلك ببقاء نظام ما أو ذهابه فالتغيير الذي تقبل عليه المنطقة ناجم عن تراكم عقود من الظلم, هذا فضلا عن أن القلق من أن تكون واجهة هذا التغيير سنية لا يصح في كل الحالات, إذ أن واجهته في العراق الذي تخلص من الديكتاتورية هي شيعية. والحركات القومية في المنطقة سبق أن اعتمدت شعارات وتسميات إسلامية نشهدها الآن في أيام الجمعة من باب التعبئة الشعبية نظرا الي أنه يوم الصلاة الذي يتجمع خلاله المواطنون, بل أن وسائل التعبئة هذه وجدت مكانا لشعار يوم الجمعة العظيمة في عيد الفصح, بل إن قادة قوميين علمانيين ومسيحيين سبق أن استخدموا وسائل التعبئة الإسلامية (ميشال عفلق وجورج حبش…).
والحقبة الراهنة من التغيير في المنطقة لن تتمكن الأقليات الطائفية من الوقوف في وجهها إذا صح الافتراض بأن الأكثرية السنية وحدها هي وقودها وهي التي تستفيد منها.
أقصر الطرق الي تجاوز القلق مما بعد الثورات أن يلعب المسيحيون دورا رياديا في تعميم ثقافة حقوق الإنسان والديموقراطية وتداول السلطة وإشاعة الحريات, التي يقوم وجودهم في وسط الأكثرية علي تكريسها.
الحياة اللندنية