من كنيسة حنانيا مرورا بالمريمية وحتي المسجد الأموي.. حكايات تستحق أن تروي
بمجرد أن تطأ قدماك العاصمة السورية دمشق, سرعان ما يتبادر لذهنك حال شوارع القاهرة التي لا تختلف كثيرا عن شوارع دمشق, وحينما يسمعك سائق التاكسي يسارعك بالقول##أنت مصري؟##, وقبل أن ترد بالإيجاب يباغتك بالقول##أهلا وسهلا## وكأنه سائق مصري يرحب بزوار بلده, وسرعان ما ينقل لك اهتمامه بالفن المصري وحبه للمصريين بشكل يختلف كثيرا عن حالة الجفاء الرسمي الذي ظهر في السنوات الأخيرة رغم الوحدة بين البلدين في ستينيات القرن الماضي.
وتشتهر سورية بوجود معالم دينية متنوعة, فهناك أديرة وكنائس أثرية, ومن ناحية هناك العديد من المساجد والمعالم الإسلامية خاصة أن دمشق كانت عاصمة الدولة الأيوبية ومنها انطلق العديد من الفتوحات للعديد من البلدان.
دير سيدة صيدنايا
وكانت بداية الزيارة من مدينة صيدنايا التي تقع في محافظة ريف دمشق إحدي المحافظات السورية الـ14, التي يتواجد بها العديد من الأديرة والمزارات الدينية المسيحية والإسلامية, وهي تقع علي بعد 25كم من العاصمة دمشق, ومن أشهر معالم المدينة دير سيدة صيدنايا الذي يحتل مكانة روحية وتاريخية عظيمة, حيث يعد الدير الثاني في الأهمية بعد كنيسة القيامة بالقدس بالنسبة لمحبي السياحة الدينية المسيحية في العالم, ويطلق علي هذا الدير أيضا ##الحصن## إشارة إلي بنائه فوق الصخرة في ذروة الجبل مثل القلعة الحصينة المنيعة.
ومع دخولي الدير مع بعض الأصدقاء لم نكن في المواعيد المحددة للزيارة, ولكن الراهبات عرفن أننا زوار من خارج البلاد وربما لن تتاح لنا الفرصة في الوقت القريب فتم فتح الكنيسة ثم الدخول إلي المزار الخاص بالعذراء والمرجح أن تكون العذراء ظهرت فيه للإمبراطور يوستنيانوس, وقامت إحدي الراهبات بشرح تاريخ الدير في كلمات قليلة, ثم قامت بتقديم زيت في قطنة صغيرة كتذكار لنا من هذا المكان الممتليء بالروحانية, وأشارت إلي صورة من الأيقونة الأثرية المحفوظة للسيدة العذراء التي رسمها القديس لوقا الإنجيلي.
وصيدنايا كلمة سريانية تعني سيدتنا وتعني أيضا صيدنايا أي صيد الظباء وقد تعني الصيداوي نسبة إلي صيدا, والدير بناه الملك جوستنيانوس الأول عام 547 وكان متوجها لقتال الفرس فعسكر علي مسافة من دمشق, وبينما كان يبحث عن الماء لجواده رأي غزالة شهية للصيد وكان من هواة تلك الرياضة فراح يطاردها حتي أخذ منها التعب مأخذه ووقفت علي صخرة عالية, وعندما تهيأ ليرميها بالسهم استحالت إلي سيدة وقور متشحة بالبياض يشع منها نور عظيم وأشارت للملك الصياد: ##لا ترم بسهمك يا جوستنيانوس ولكنك ستقيم لي ديرا علي هذه الصخرة## وفي الغد شاهد الملك الأساسات مخططة بالبياض علي الأرض تعين شكل البناء القائم اليوم ,وهناك مصادر تشير إلي أن شقيقة جوستنيانوس كانت أول رئيسة لهذا الدير.
وجوستنيانوس هذا كان سيف الأرثوذكسية من قبل أن يصل إلي عرش القسطنطينية واشتهر ببناء كنيسة العذراء في القدس ودير القديسة كاترينا في طورسيناء وكاتدرائية إنطاكية العظمي بعد أن دمرت الزلازل كل المدينة.
وعند مدخل الدير يظهر العديد من الرسومات الجدارية التي تحكي نشأة الدير وكيف ظهرت العذراء للإمبراطور, وفي داخل الكنيسة تظهر الأيقونات المختلفة, فهذه أيقونة للسيد المسيح الملك, وأخري وهو محمول علي يد العذراء, وثالثة ليوحنا المعمدان, وغيرها من الأيقونات التي يتجلي فيها الفن البيزنطي الجميل وسط جو روحاني مغلف بعبق التاريخ.
دير القديس جاورجيوس
وهناك دير القديس جاورجيوس الذي يعود إلي الفترة من القرن الرابع وحتي السادس الميلادي والمقام علي هضبة يعلوها جبل مسمي باسم الدير ##جبل القديس جاورجيوس##, وطريقه يتصل علي بعد 100م بطريق مدخل صيدنايا الغربي عند ساحة تسمي رأس العامود, ويتألف دير القديس جاورجيوس من كنيسة الدير, والمقام, والبناء القديم, والبناء الجديد.
ولا توجد معلومات وافية عن هذا الدير نظرا لحرق الوثائق المهمة التي تتحدث عنه في فتنة 1860 التي شبت في دمشق, وفي عهد غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع ورئيسة دير سيدة صيدنايا كاترين عام 1985 تم تجديد البناء القديم للدير وبقي تحت رعاية رهبنة دير سيدة صيدنايا حتي عام 1995عندما أصدر البطريرك إغناطيوس الرابع أمره بتسليمه إلي قدس الأرشمندريت يوحنا التلي في قداس احتفالي أقيم في دير سيدة صيدنايا برئاسة أسقف صيدنايا آنذاك الوكيل البطريركي المطران إلياس كفوري.
أما البناء الحديث للدير فيعود إلي الفترة اللاحقة لتسليم قدس الأرشمندريت يوحنا التلي الذي انصرف للعمل حسب الغاية المرسومة لإعادة الحياة في هذا الدير, ليستعيد دوره كدير أنطاكي مرتبط بتراثه العريق في إحياء رهبنة شرقية مرتبطة بالتقليد الرهباني في هذه المنطقة التي كان للحياة الرهبانبة للرجال وثانيها البدء ببناء أقسام جديدة في الدير تؤهله لأن يجد مكانا لرهبانه الجدد.
ويحتفل الدير بعيد شفيعه في السادس من مايو من كل عام, وهو العيد الثاني في صيدنايا بعد عيد مولد السيدة العذراء, ويشارك فيه أهالي صيدنايا بمختلف طوائفها وعدد كبير من المؤمنين من دمشق وريفها.
ويضم الدير عددا من الأيقونات الأثرية منها للتجلي الإلهي والظهور الإلهي اللتين تعودان لعام 1778, وأيقونة التقبيلة الموجودة علي يمين مدخل الكنيسة من بابها الوحيد و هي من عمل ميخائيل ابن نعمة إليان الدمشقي التي قدمها لكنيسة الدير عام 1837, وفوق سقف الكنيسة من الخارج قبتان حجريتان مسقوفتان بالقرميد الأحمر يعلو كلا منها صليب معدني جميل وهما قبة الكنيسة وقبة الجرس داخلها جرس معدني كبير.
كنيسة حنانيا
ومن صيدنايا إلي دمشق القديمة التي يتواجد بها عدد كبير من المزارات, وكانت بداية زيارتنا من باب شرق ثم إلي كنيسة حنانيا, وتقع في زقاق القرشي أحد الأحياء المسيحية التاريخية العريقة, وتقع الكنيسة القديمة تحت الأرض ينزل إليها بدرج يؤدي إلي تحفة تاريخية تعود إلي أكثر من 2000 عام, والكنيسة تراثية علي النمط الدمشقي الأرثوذكسي أرضيتها مبلطة بالبلاط المجزع الكبير بفواصل سوداء لها ثلاثة أروقة كل منها محمول علي ثلاثة أعمدة مربعة الشكل تتكئ عليها الشعرية, وفي وسط الكنيسة تنتشر مقاعد المؤمنين في الأروقة الثلاثة, بالإضافة إلي صف من المقاعد الجدارية الخشبية علي محيط الكنيسة, وعرشين: أحدهما بطريركي والثاني أسقفي.
للكنيسة ثلاثة أبواب تحت الأروقة, محاطة بزخارف حجرية دمشقية جميلة جدا, والأبواب خشبية محفورة ومقطعة بفن جميل, ولونها بني كلون بقية قطع الأثاث والنوافذ والمقاعد, وحافظت هذه الكنيسة علي أصالتها وبقيت دمشقية الروح في زخارفها وتزييناتها الحجرية والخشبية وفي طرازها المعماري وبنائها.
قصر النعسان
ولا يمكن أن تغفل زيارة قصر النعسان حيث لا تستغرق المسافة من باب شرق وحتي القصر عدة دقائق, ويضم هذا القصر مبني أثريا فخما وتبلغ مساحته نحو 4 آلاف متر مربع وشيد في أواخر القرن الثامن عشر وحظي بشهرة كبيرة ويعد شاهدا علي فن البناء والزخرفة المتألقة, وللقصر مدخلان, الغربي منهما هو المدخل الرئيسي أمامه فسحة تؤدي إلي صحن مستطيل واسع وتحيط بالصحن أروقة محمولة علي أقواس, مرتكزة إلي تيجان علي أعمدة دائرية, وتحيط بالأروقة قاعات وغرف عديدة, زخرفت سقوفها وجدرانها بزخارف خشبية جميلة وتألقت برسوم المشاهد الطبيعية والنباتات بألوان ناضرة, وفي الجهة الجنوبية من القصر إيوان مرتفع ذو قاعتين وفي الجهة الشمالية قاعة فسيحة, أما الجهتان الشمالية والغربية فتشتملان علي غرفتين في كل منهما, وهناك درجان حجريان يصعدان في الجهة الشرقية إلي الطابق العلوي, حيث تتوزع عدة غرف مفتوحة علي الرواق المشرف علي صحن القصر.
وهناك معمل النعسان لصناعة الأرابيسك والموزاييك ويعدان من أبرز وأروع الحرف الفنية الدمشقية, وحظي المعمل بشهرة ذائعة, وكان من أشهر زواره الفنان العالمي بيكاسو الذي خص سجله الذهبي برسم من إبداعه ويفخر النعسان بأن الملكة إليزابيث الثانية لبست يوم تتويجها عام 1954 ثوبا من البروكار الدمشقي عليه توقيع النعسان.
الكنيسة المريمية
وبعد زيارة قصر النعسان كان من الضروري زيارة الكنيسة المريمية التي تبعد دقائق سيرا علي الأقدام عنه وتعد الكنيسة من أهم وأجمل المواقع الأثرية المسيحية في دمشق وبلاد الشام, ويعود تاريخ هذه الكنيسة إلي القرن الأول المسيحي.
وحينما اعترفت الإمبراطورية البيزنطية في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول بحرية العبادة تمت الصلاة بعلانية وتم تكريس المكان للسيدة العذراء وبقيت كنيسة السيدة مريم في الخدمة حتي تاريخ وصول الجيوش الإسلامية لمدينة دمشق.
وهذه الكنيسة مرتبطة بوقائع تاريخية حيث إنه عندما وصلت الجيوش الإسلامية لمدينة دمشق قاموا بمحاصرتها وتم فتح المدينة علي يد خالد بن الوليد حربا وعلي يد أبي عبيدة بن الجراح صلحا وهكذا خضعت المنطقة التي تم فتحها حربا لسيطرة الدولة الإسلامية وتم استملاك الكثير من المباني بينما بقيت المنطقة التي تم فتحها صلحا لسيطرة أصحابها, وأغلقت الكنيسة المريمية حتي عام 706 مما أدي إلي إهمالها وتخربها, وفي عام 706 م قام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بإعادتها إلي الأرثوذكسيين مقابل أخذه لكاتدرائية يوحنا المعمدان والتي حولها فيما بعد إلي الجامع الأموي .
ولهذه الكنيسة طراز بيزنطي ويتوسطها علي الجانبين منبران من الحجر لكل منهما سلم كانتا تستخدمان لقراءة الإنجيل, , أما في واجهة الكنيسة فتوجد المنصة التي يقف عليها الكهنة لتأدية الصلوات وفي الخلف يوجد المذبح, وسقف الكنيسة خشبي ويعتبر لوحة فنية لما فيه من رسومات وزخارف.
المسجد الأموي
وفي الطريق من الكنيسة المريمية وحتي المسجد الأموي هناك العديد من المحال الخاصة بالمحمصات الشامية المعروفة, كذلك محال متعلقة بأدوات الزينة والأساور والمشغولات الذهبية والفضية التي تشبه المحلات الموجودة بمنطقة الحسين وخان الخليلي بالقاهرة, وما هي إلا دقائق ويجد الزائر نفسه أمام الباب الرئيسي للمسجد الأمور, وهذا المسجد شاهد عيان علي الأصالة التاريخية للمكان, ومر بعدة مراحل , بدأ بالمعبد الآرامي الذي يرجع إلي الألف الثامن قبل الميلاد إلي الإله حدد الدمشقي ثم تلاه معبد هلنستي روماني للإلهة جوبيتر ثم كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في العهد البيزنطي, وأعقب ذلك فترة الفتح العربي الإسلامي ودامت عدة عقود وكانت تؤدي فيه الصلاتان الإسلامية والمسيحية في الزمان ذاته والمكان ذاته حيث أقيم مسجد في الموقع ذاته إلي جانب الكنيسة ثم تلاها في عهد الوليد نقض الكنيسة والمسجد وبناء جامع بني أمية الكبير.
ويعود تاريخه إلي عام 705 واستغرقت عملية بنائه وزخرفته عشر سنوات, وهو نموذج معماري متجانس وزخارفه الإسلامية البديعة تنسجم مع البناء, وبقي هذا الجامع علي مر العصور التي تعاقبت علي دمشق الأثر الخالد, الذي يتعرض للمآسي والنكبات ثم يعود ليقف شامخا من جديد, حتي أصبح وكأنه متحف دمشقي تخبيء جدرانه كل تاريخ أقدم مدينة مأهولة في العالم, دمشق الفيحاء, وللجامع الأموي أربعة أبواب ثلاثة أبواب تنفتح علي صحن الجامع وهي الشرقي, والغربي, والشمالي, أما الباب الرابع وهو الباب القبلي فينفتح علي حرم الجامع.
وفي عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد تمت أكبر عملية ترميم وصيانة شهدها الجامع أعادت له رونقه.
سوق الحميدية
وأمام الباب الرئيسي للمسجد الأموي تظهر سوق الحميدية وهي تذكرك بمنطقتي الموسكي وخان الخليلي وتصطف العديد من المحلات والتي تعرض سلعا مختلفة بداية من الملابس والهدايا وأدوات التجميل, ومن الملاحظ في هذه السوق أنها تضم ملابس مستوردة من تركيا والصين إلي جانب الملابس سورية الصناعة, كذلك يمكن للزائر أن يجد أنواعا مختلفة من أدوات التجميل, منها منتجات لبنانية وأخري تركية وأيضا صينية وأمريكية وسويسرية ومنتجات من بلدان مختلفة وبأسعار متفاوتة, وغالبية المحال تعرض العباءات العربية المطرزة المصنعة من القطن أو الحرير, إلي جانب المصنوعات النحاسية والأرابيسك والأحذية والمفروشات والسجاد والذهب والتحف والهدايا, بالإضافة إلي محال عديدة تقدم الآيس كريم ويطلق عليه ##البوظة## بأنواعه المختلفة ولا يمكن أن يفوتك تذوق الآيس كريم الشامي ذي الطعم اللذيذ, ويختلف تقديمه من محل لآخر حسب المكسرات الموجودة به.
ويمكن للزائر أن يقوم بالفصال في الأسعار المعلنة علي السلع, وهو أمر اعتاد عليه الباعة السوريون, فمثلا حينما تقوم بشراء قميص رجالي ربما تجد الثمن المعلن 900 ليرة سوري, فلابد وان تقوم بمحاولة تخفيض السعر إلي 500 ليرة علي الأقل حسب جودة المنتج وقدرتك علي الفصال مع البائع الذي يعاملك بكل احترام وكرم , والـ100 ليرة سوري توازي 12 جنيها مصريا, وفي حال عدم توفر عملات سورية معك يمكنك استبدال الجنيه المصري بعملات سورية, بل وفي بعض المحلات يمكنك الشراء بالعملة المصرية, حيث ستجد ترحابا كبيرا بالحصول علي العملة المصرية بشكل مباشر.
وبالقرب من سوق الحميدية هناك أعمدة جوبيتر الضخمة كذلك المكتبة الظاهرية التي بناها الظاهر بيبرس إبان فترة حكمه لدمشق, إلي جانب ذلك هناك كنائس ومساجد أثرية ومبان تاريخية مهمة.
وبالرغم من أن الوقت المخصص للزيارة انتهي إلا أن الحنين لا يزال مستمرا لزيارة الأماكن المختلفة التي لم يسمح الوقت بزيارتها, خاصة أن السياحة الدينية في دمشق تحتاج لرحلة خاصة, والمناطق الأثرية الثقافية تحتاج لرحلة خاصة أيضا, وحتي التسوق له متعة خاصة سواء كان في منطقة الصالحية بدمشق التي يتوفر بها عدد كبير من الماركات العالمية, أو سوق الحميدية, وطالما أن سورية من الدول التي لا تحتاج إلي تأشيرة مسبقا وإنما يمكن الحصول عليها عند وصولك إليها سننتظر الفرصة لزيارة أخري.