عبرت إسرائيل عن قلقها مرارا إزاء الوضع الأمني علي الحدود بين مصر وقطاع غزة, وذلك منذ أن فككت إسرائيل مستوطناتها وسحبت قواتها من القطاع في أغسطس .2005 وهذا القلق مرده أن عمليات تهريب الأسلحة المستمرة إلي غزة – وفقا للادعاءات الإسرائيلية- قد تؤدي إلي تغيير ميزان القوي لصالح حركة حماس.
بعد أن سيطرت حماس علي قطاع غزة في يونية من العام الماضي, اعتبر المسئولون الإسرائيليون أن الإجراءات الأمنية المصرية علي طول محور فيلادليفيا غير مناسبة بالمرة, مما يسمح بتهريب الأسلحة المتطورة إلي غزة ومن ثم تهديد الأمن القومي الإسرائيلي.
من جانبها, تري القاهرة أن تل أبيب تبالغ في الخطر الذي يهددها جراء الأسلحة المهربة, بل إنها (أي إسرائيل) تمادت وعملت علي الإضرار بالعلاقات المصرية ـ الأمريكية بطلبها من واشنطن ربط جزء من المساعدات السنوية لمصر والتي تقدر قيمتها بنحو 1.3 مليار دولار بالخطوات التي تتخذها الأخيرة للقضاء علي شبكات التهريب والأنفاق التي تربط بين مصر وغزة. وتعد هذه هي المرة الأولي التي يضع فيها الكونجرس شروطا علي المساعدات العسكرية لمصر.
أما الولايات المتحدة فهي تحاول بين الحين والآخر إيجاد حل لمشكلة التهريب باعتبارها تقع علي مسئولية جميع الأطراف, وفي هذا الصدد اقترحت الإدارة الأمريكية توفير معدات متطورة تساعد علي اكتشاف الأنفاق مثل أجهزة الرقابة والتحكم الإلكترونية.
ما سبق يشكل خلاصة الدراسة التي أعدها الباحث المتخصص في شئون الشرق الأوسط ”جيرمي شارب”Jeremy M.Sharp” ”, ونشرها ”مكتب أبحاث الكونجرس” تحت عنوان: ”الحدود بين مصر وغزة وتأثيرها علي العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية”.
”الأنفاق” .. مصدر قلق لإسرائيل
توضح الدراسة أن مدينة رفح الحدودية تم تقسيمها طبقا لاتفاقية السلام المبرمة بين مصر وإسرائيل عام 1979, حيث ألحقت الاتفاقية الجزء ذا الكثافة السكانية العالية من المدينة بقطاع غزة الذي احتلته إسرائيل لاحقا, بينما تم وضع الجزء الآخر الأصغر من المدينة تحت السيادة المصرية.
وتضيف الدراسة أنه في عام 1982 طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ”آرييل شارون” السلطات المصرية بإجراء تعديل علي الحدود الدولية لمصر مع إسرائيل علي نحو يجعل مدينة رفح كلها تحت السيطرة الإسرائيلية, حيث حذر ”شارون” من أن تقسيم رفح من شأنه أن يجعلها منبعا لانتشار الإرهاب وتهريب الأسلحة, ولكن السلطات المصرية رفضت مطالبه.
ولقد لجأ سكان مدينة رفح إلي حفر الخنادق تحت الأرض باعتبارها وسيلة للاتصال والحفاظ علي أواصر العلاقات بين كافة أفراد العائلات الممتدة بين غزة ومصر, واستغل المهربون هذه الأنفاق في أغراض اقتصادية تدر لهم أرباحا كبيرة من خلال إعادة بيع الجازولين المصري المدعم بأسعار عالية, وكان من بين أهداف المهربين أيضا الحصول علي بضائع مثل السجائر والمخدرات و الذهب وقطع غيار السيارات.
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولي عام 1987 بدأت إسرائيل تدرك بشكل كبير الخطر الأمني الذي تمثله أنفاق التهريب, فبعد سلسلة الهجمات التي شنها الفلسطينيون عبر الحدود بين مصر وغزة خلال أواخر العقد الثامن من القرن الماضي وأوائل العقد الأخير من ذات القرن أدركت إسرائيل أن الميليشيات الفلسطينية كانت تستخدم الأنفاق لتهريب الأسلحة والمقاتلين إلي قطاع غزة. وحتي عندما تأسست السلطة الفلسطينية عام 1994 وفقا لاتفاقية أوسلو انتاب الحكومة الإسرائيلية شعورا بالقلق من تواطؤ قوات الأمن التابعة للسلطة مع عمليات التهريب.
زادت عمليات تهريب الأسلحة عبر الأنفاق مع بدء الانتفاضة الثانية عام 2000 وصادرت القوات الإسرائيلية والمصرية وأجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية كميات كبيرة من المواد المتفجرة والآلاف من بنادق الكلاشينكوف وأطنان من الذخائر الحربية, كما قامت إسرائيل بتشييد جدار خرساني بطول الحدود يمتد إلي 10 أقدام تحت الأرض, ومع ذلك ظلت الدوافع الاستراتيجية والاقتصادية لعمليات التهريب قائمة.
تشير الدراسة إلي كيفية حفر تلك الأنفاق, موضحة أن العائلات الغنية في رفح والذين يطلق عليهم ”رؤوس الثعبان” يقومون بتمويل عمليات حفر الأنفاق ثم يؤجرونها لأعضاء حماس وفتح وجماعة الجهاد الإسلامي, علي أن يحصل هؤلاء المستثمرون وأقاربهم علي نسبة من كل شحنة تمر عبر هذه الأنفاق.
أما عن كيفية تعامل إسرائيل مع هذه الإشكالية, فتشير الدراسة إلي أنه قبل الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة, نفذت القوات الإسرائيلية سلسلة عمليات لمنع تدفق الأسلحة, وكان من أبرزها عملية ”قوس قزح” في عام 2004 والتي شنتها إسرائيل بعد مقتل 11 من جنودها, وهدفت إلي إيجاد منطقة أمنة بجوار محور فيلادليفيا, وحماية القوات الإسرائيلية, وبالإضافة إلي هذا وذاك منع الفلسطينيين من حفر الأنفاق تحت الأرض. وأدت هذه العملية إلي تدمير العديد من المنازل التي يشتبه في وجود أنفاق مخبأة تحتها, فضلا عن مقتل العديد من المسلحين الفلسطينيين.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة في أغسطس 2005, شرعت الحكومة الإسرائيلية في الدخول في مفاوضات مع نظيرتها في القاهرة من أجل التوصل إلي ترتيبات أمنية جديدة تؤمن الجزء الواقع من مدينة رفح تحت السيطرة المصرية, وبالفعل أثمرت المحادثات عن نشر 750 جنديا مصريا لتأمين محور فيلادليفيا.
إشكالية التهريب والتوتر المصري – الإسرائيلي
تحت هذا المحور تركز الدراسة علي الاتهامات التي وجهتها إسرائيل إلي مصر فيما يتعلق بتهريب الأسلحة عبر قطاع غزة, إذ ألقي العديد من مسئولي الاستخبارات الإسرائيلية باللوم علي مصر بشأن عمليات التهريب التي تتم عبر الأنفاق. وتجلي هذا في العديد من التصريحات الصادرة عن المسئولين في تل أبيب, ففي سبتمبر 2006 قال مدير ”الشين بيت” ـ جهاز الاستخبارات الداخلي ـ ”يوفال ديسكن” إن ”المصريين يعرفون من هم هؤلاء المهربين ولكنهم لم يتصدون لهم, كما تسلمت القاهرة تقريرا استخباراتيا منا لكنها لم تستفد منه”. كما أعلنت ”ميري إيزين” ـ المتحدثة باسم رئيس الوزراء ”إيهود أولمرت” ـ أن ”الذي يحدث الآن أن الفلسطينيين يحاولون تهريب المزيد من الأسلحة المتطورة مثل الأسلحة المضادة للدبابات التي استخدمها حزب الله في لبنان وبعضها روسي الصنع والآخر إيراني, وهناك أيضا الأسلحة المضادة للطائرات التي تمثل خطرا كبيرا”.
اتهم عضو حزب الليكود المعارض والرئيس السابق للجنة الدفاع والشئون الخارجية بالكنيست ”يوفال ستنيتز”, مصر بالسماح لحماس بالحصول علي 120 ألف بندقية و6 آلاف صاروخ مضاد للدبابات و100 طن متفجرات والعديد من صواريخ الكاتيوشا والقذائف المضادة للطائرات. وفي نوفمبر 2007 طالب ”ستنيتز” أعضاء الكونجرس بدعم مقترح يقضي بتجميد جزء من المساعدات العسكرية لمصر.
وصل منحني الاتهامات الإسرائيلية للقاهرة أعلاه في ديسمبر الماضي عندما ذكرت وزير الخارجية ”تسيبي ليفني”, في شهادتها أمام الكنيست, أن ”الفشل المصري في تأمين الحدود مع غزة يمثل معضلة خطيرة ستلقي بتداعياتها السلبية علي عملية السلام”.
أما عن رد الفعل المصري علي هذه الاتهامات, فتوضح الدراسة أن تزامن تصريحات وزيرة الخارجية الإسرائيلية مع تعليق جزء من المعونة الأمريكية لمصر, قد أثار ردود فعل عنيفة في القاهرة, إذا صرح الرئيس ”مبارك” في إحدي مقابلاته الصحفية قائلا: ”ليفني تجاوزت الخطوط الحمراء معي”, كذلك تواصلت الاتهامات المصرية لبعض المسئولين في تل أبيب باستخدام قضية التهريب كوسيلة للإضرار بالعلاقات بين واشنطن والقاهرة, وحذر وزير الخارجية المصري ”أحمد أبو الغيط” إسرائيل من أنه في حال استمرارها في التأثير سلبا علي العلاقات المصرية ـ الأمريكية ومن ثم علي مصالح مصر بصفة عامة, فإن بلاده (أي مصر) ستعمل هي الأخري علي إحداث ضرر بالمصالح الإسرائيلية.
طالبت السلطات المصرية الحكومة الإسرائيلية بإجراء تعديل علي مذكرة التفاهم المبرمة بين البلدين عام 2005, وذلك لإعادة نشر المزيد من الجنود المصريين علي الحدود مع غزة, حيث تري القاهرة أن العدد الحالي (750) جنديا فقط والذي يحدده هذا الاتفاق, غير كاف لتأمين الحدود. وقد لاقي هذا المطلب رفضا من جانب القادة الإسرائيليين الذين دعوا السلطات المصرية إلي تفعيل القوات الحالية والاستفادة المثلي من وجودها بدلا من نشر جنود إضافيين. ورغم هذا الرفض كشف تقرير لصحيفة ”جيروزاليم بوست” الإسرائيلية أن تل أبيب والقاهرة تجريان محادثات وصلت إلي مراحل متقدمة لوضع قوات مصرية إضافية في سيناء لتأمين الحدود مع غزة.
انخفضت حدة التوترات بين البلدين بعدما قام وزير الدفاع الإسرائيلي ”إيهود باراك” بزيارة للقاهرة أواخر ديسمبر الماضي, شدد خلالها علي أهمية السلام مع مصر, واصفا إياه بأنه ”مسألة استراتيجية”. وتبعه رئيس الوزراء ”إيهود أولمرت” بتصريحات أكد خلالها رغبة بلاده في الحفاظ علي اتفاقية السلام مع القاهرة رغم كل الصعوبات التي تشهدها علاقات البلدين.
ثم تنتقل الدراسة إلي الحديث عن الدور الأمريكي في هذه الأزمة, لافتة إلي أن واشنطن عملت علي تخفيف حدة التوتر بين القاهرة وتل أبيب, وفي هذا الصدد أرسلت الحكومة الأمريكية وفدا يضم مساعد وزير الخارجية ”روبرت دانين” ومساعد وزير الدفاع ”مارك كيميت” لمصر في نوفمبر من العام الماضي لدراسة المشكلة, وقدم المسئولان التوصيات التالية:
1ـ أن تقوم الولايات المتحدة بتزويد مصر بأجهزة ومعدات تساعدها علي رصد وتدمير الأنفاق.
2ـ أن تنشئ مصر قناة مائية علي طول الحدود, وهي الفكرة التي طرحتها إسرائيل منذ عامين.
3ـ تأسيس لجنة أمنية ثلاثية بين مصر وأمريكا وإسرائيل لمعالجة كافة القضايا ذات الصلة بالحدود بين مصر وغزة مثل تهريب الأسلحة وتسلل المقاتلين والسيطرة علي الحدود, لكن إسرائيل عارضت تشكيل مثل هذه اللجنة.
في إطار الجهود الأمريكية أيضا لمعالجة مشكلة الأنفاق, سافر فريق آخر من المهندسين العسكريين الأمريكيين إلي مصر وعرض علي السلطات المصرية مساعدتها بالمشورة الفنية.
رفح وغزة .. إشكالية المعبر والحصار
بعد أن انسحبت إسرائيل من قطاع غزة في 2005, أبرمت وزيرة الخارجية الأمريكية ”كوندوليزا رايس” اتفاقية بين إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية للسماح لسكان غزة بالدخول والتحرك عبر معبر رفح, ووافقت تل أبيب بموجب هذه الاتفاقية علي السماح للاتحاد الأوربي بمراقبة المعبر. وعلي الرغم من عدم الوجود المادي (العسكري) لها علي الحدود, بيد أن إسرائيل تراقب المعبر من خلال كاميرات تليفزيونية, بل والشيء الأكثر الأهمية هو أن إسرائيل في يدها السلطة الحقيقية لفتح أو غلق المعبر بناء علي تقديراتها للوضع الأمني.
وبعد الانقلاب الذي قادته حماس وسيطرتها علي قطاع غزة في يونية 2007, عملت مصر مع إسرائيل علي غلق معبر رفح, وإن كانت هناك بعض الحالات الاستثنائية التي حدثت, منها سماح مصر في يناير الماضي لنحو 2200 من الحجاج الفلسطينيين, معظمهم من حركة حماس, بالخروج من غزة والعودة إليها أيضا عن طريق معبر رفح, وهو القرار الذي أصاب إسرائيل ومعها رئيس السلطة الفلسطينية ”محمود عباس” بخيبة أمل. كما وافقت السلطات المصرية في أكتوبر 2007 علي دخول 45 من أعضاء حماس وبعض الجماعات الأخري المطلوبين جميعا من قبل إسرائيل, بالدخول إلي غزة من خلال رفح. ويشار كذلك إلي أنه قبل سيطرة حماس علي القطاع, كانت مصر وإسرائيل قد سمحتا لنحو 500 شخص من المحسوبين علي حركة فتح بالدخول إلي مصر لتلقي تدريبات أمريكية.
تنتقل الدراسة إلي إلقاء الضوء علي الحصار الذي فرضته إسرائيل علي غزة والذي كان يهدف إلي إجبار حركة حماس علي وقف هجماتها الصاروخية علي إسرائيل, فبعد أسبوع من الحصار قام أنصار حماس بإحداث ثقوب في السياح الحدودي علي الجانب الفلسطيني من رفح, مما سمح لأكثر من 200 ألف من الغزاويين بالدخول إلي مصر, وعقب الرئيس المصري علي هذا الاقتحام الحدودي قائلا: ”إنه طلب من قوات الأمن المصرية السماح للفلسطينيين بالدخول عبر معبر رفح لشراء احتياجاتهم الأساسية ثم العودة إلي غزة طالما أنهم لا يحملون أسلحة أو أشياء غير مشروعة”. وعلي الجانب الإسرائيلي أثار هذا الاقتحام قلق العسكريين خوفا من أن يعبر أيضا إرهابيين فلسطينيين مع المدنيين إلي مصر.
ختاما, تري الدراسة أنه رغم المحاولات المبذولة من قبل مصر وإسرائيل لتخفيف حدة التوتر بين الدولتين فيما يتعلق بالحدود, فإن ثمة مخاوف من الآتي:
ـ أن يكون لسيطرة حماس علي غزة انعكاسات سلبية علي العلاقات بين القاهرة وتل أبيب.. تلك العلاقات التي تعتبر دليلا علي نجاح الدبلوماسية الشرق أوسطية للولايات المتحدة علي مدي ثلاثة عقود ماضية.
ـ أن تؤدي الخلافات حول إدارة حدود غزة إلي تأثير سلبي علي التعاون المصري ـ الإسرائيلي في القضايا المهمة التي تمس الأمن القومي الأمريكي, مثل مواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة, ودعم عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
ـ أن تنعكس العلاقات المتوترة بين القاهرة وتل أبيب علي مسار المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية بعد مؤتمر أنابوليس للسلام.
حسب الدراسة, من المتوقع أن تشهد الفترة القادمة استمرار التوترات المصرية ـ الإسرائيلية حول أمن الحدود, مع تصاعد العنف بين إسرائيل وحركة حماس والجماعات الفلسطينية الأخري في غزة. كذلك فإنه في ظل غياب أي مؤشرات علي اعتراف حماس بدولة إسرائيل, تستبعد الدراسة رؤية المنطقة التي تربط بين مصر وإسرائيل وغزة يسودها السلام.
تقرير واشنطن