من عجيب الأمر أن يكون المسرح في بلادنا قبل الجامعة,وهو الذي عرفنا بروائع الأدب العالمي هكذا تعجب الكاتب توفيق الحكيم من نهضة المسرح سريعا علي يد عملاق المسرح العربي جورج أبيض الذي رفع الستار عن فن صادق ومضمون هادف,وأحيا الروح علي خشبته,وكرس جهده وماله وكيانه في سبيل نهضته.
في عام 1880م ولد النجم جورج أبيض ببيروت من أسرة متدينة يعمل غالبية أفرادها في المجال الديني,ونظرا لكونه الابن الأول تلقي جورج من أبويه إلياس وجوليا مهارات الثقة بالنفس وحب الفن والجمال,فالتحق بمدرسة الفرير والتي أنهي بها مرحلته الدراسية الأولي ثم انتقل لمدرسة الحكمة ببيروت والتي تعلم فيها اللغة العربية وأحبها حبا جما,الأمر الذي كان له أشد الأثر علي براعته في اللغة التي عشق إلقاءها شعرا ونثرا,فلم يلبث وأن اجتاز امتحان البكالوريا بنجاح وهو في سن السادسة عشر,حتي قام بتمثيل أولي الأدوار الفعلية في حياته وذلك في الحفل السنوي للخريجين في مدرسته,والذي أدي فيه دوره ببراعة في مسرحية القروش الحمراء,فأقبل عليه مدير المدرسة والممثل الفرنسي جان فريج -والذي كان يؤدي الدور نفسه علي مسرح باريس- ليحيياه علي براعته وإجادته للدور,وكان لهذا التشجيع أثره في مسامع جورج وحافزا لتحقيق أماله,فبعد أن أكمل دراسته عين في شركة السكة الحديد ببيروت,ولكن حلم التمثيل ظل يراوده,وطنين صافرات البواخر يعزف في أذنه أنشودة الرحيل,فاستقال جورج من وظيفته وغادر بيروت دون وداع أمه,قاصدا حلمه والبلد التي عشق لغتها وجمالها وسعي لإبراز فنونها الأصيلة.
اختار الإسكندرية وطنا ثانيا له,وبدأ في البحث عن عمل,حتي عين ناظرا لمحطة سيدي جابر والتي كانت محطة مصيف الخديوي,ولكنه لم ينس حلمه فاستخرج بطاقة عضوية من نادي خريجي كلية سان مارك وقدم عليها مسرحية القروش الحمراء للمرة الثانية وسط حشد من ممثلي السفارات الأجنبية والمثقفين,فتقدم إليه قنصل فرتسا وهنأه علي إجادته للدور وقال له: ليست السكك الحديد بالمكان الذي يناسبك أبدا,وإنما مكانك الحقيقي هناك في كونسرفتوار المسرح بباريس,فأحيت تلك الكلمات الأمل في نفسه,وبزغت باريس في نظره المنارة الوحيدة التي تقود سفينته إلي أرض الأحلام.
وفي غضون تلك الأحلام قام جورج أبيض عام 1902 بتكوين فرقة مسرحية من المثقفين من أعضاء النادي الذين كانوا يشاركونه هواياته,ولم يكتف بذلك بل راح يكتب للخديوي رسالة تحمل في طياتها دور المسرح وأهميته في تقدم لشعوب وحاجة مصر الماسة لمسرح ومدرسة مدعمين من الدولة,غير أن الخديوي لم يرد علي رسالته وانتظر أبيض عامين دون يأس أو استسلام حتي عام 1904,فأرسل للخديوي بطاقة يدعوه فيها لحضور رواية البرج الهائل علي مسرح زيزينيا,فقابل الخديوي الدعوة بترحيب شديد وجعل المسرحية تحت إشرافه لما لمس في أبيض من موهبة,فبعد انتهاء المسرحية وإعجاب الخديوي بها أرسله في بعثة إلي باريس ليتعلم فن التمثيل وهو في سن العشرين,فتحقق حلمه أخيرا بعد طول انتظار,وهناك في باريس استقبله يعقوب صنوع رائد التمثيل,وأصبحا صديقين حميمين لما في قلوبهما من اشتراك في حب المسرح والوطن.
فبعد أن اكتسب جورج خبرة واسعة في فنون المسارح بباريس وحصل علي أعلي الشهادات عاد إلي مصر عام 1910 ليجد والدته التي باعت كل ممتلكاتها في بيروت لتستقر معه بالإسكندرية,وما أن ذاع صيته حتي طلب منه الزعيم الوطني سعد زغلول تمصير المسرح وإحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية,وتوعية الشارع المصري,الأمر الذي لاقي قبولا شديدا لدي جورج,فقد كان ذلك حلما بداخله شجعه سعد زغلول في بزوغه للنور,فحل جورج فرقته الفرنسية وحل مكانها فرقة مصرية وقدم أول مسرحية شعرية عربية من تأليف شاعر النيل حافظ إبراهيم والتي كانت بعنوان جريح بيروت.
وتعد تلك هي أولي الخطوات التي نهضت بالمسرح,ففتحت أبواب الأوبرا للفرق المصرية,ونظم جورج أبيض العمل المسرحي فأنشأ أوركسترا,وجعل للممثلين رواتب ثابتة,فولدت الرواية المصرية علي يد أبيض بثوب جديد يعالج عيوب المجتمع في الصميم,غير مبال بما يتحمله من تكاليف مالية,فما تقاضاه من ميراثه أشرك أخاه سليم للإشراف عليه من الناحية المالية والإدارية,وبفضل تعضيد سعد زغلول وعبد الرازق عنايت أحد الأثرياء ماديا ومعنويا,استطاع أبيض الدخول إلي المسرح بخطي قوية ثابتة.
وفي عام 1914 داهمت المسرح أزمة عالمية بسبب نشوب الحرب العالمية الأولي,والتي علي أثرها اندمجت فرقة سلامة حجازي مع جورج أبيض رغم فارق العمر بينهما,حيث كان جورج أربعة وثلاثين عاما,وسلامة حجازي ااثنين وستين عاما,غير أنهما اضطرا للانفصال بسبب ما اعترض الفرقة من عقبات,ثم اندلعت ثورة 1919 وتوقفت جميع المسارح عن التمثيل مشاركة في الثورة الوطنية.
وفي أوائل العشرينيات ذهب جورج مع فرقته إلي تونس,فطلبت منه جمعية الأدباء بتونس أن ينشئ لها مسرحا تونسيا,ويشرف عليه مدة عام ونصف,فعادت الفرقة إلي القاهرة,واستمر جورج بتونس مدة عام ونصف أنشأ خلالها أول معهد لفن المسرح بتونس,وما أن عاد إلي مصر حتي اعترضته موجة من الحزن والاكتئاب لوفاة أصدقائه محمود تيمور وفرح أنطوان وملكة المسرح سارة برنر,واشتد حزنه لفراق صديقه سيد درويش والذي لحن له أول أوبريت مصري فيروز شاه,غير أن تلك الأحزان جعلته يفكر في حياته الخاصة والزواج وهو في سن الثالثة والأربعين,فتزوج من زميلته في المسرح دولت أبيض,وما أن وافقت حتي هرب الاثنان من المشاكل العائلية الخاصة,واتفقا علي إتمام مراسم الزواج في سرية تامة خارج مصر في بيروت,وتمكنا بصعوبة من الزواج إذ أن الكنيسة المارونية التابعة للفاتيكان لا تعترف بالطلاق الذي حصلت عليه دولت من زوجها السابق من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية,غير أنهما تزوجا ببيروت وباركهما مطران الروم الأرثوذكس,وفي عام 1926 رزقا بابنتهما سعاد.
وما أن تزوجا حتي انضمت دولت لفرقة أبيض والتي كانت مؤلفة من حسين رياض وعباس فارس,والعمالقة روز اليوسف والتي أظهرت مواهبها في مسرحية الممثل كين إخراج عزيز عيد,وارتفعت فيها روز إلي مصاف ملكات المسرح.
ولم تستمر فرحة جورج بالاستقرار والزواج طويلا حتي داهمه المرض ولكنه لم يعبأ به بل راح يعمل بحماس وإصرار علي أداء رسالته,ففي عام 1930 جاء لزيارته زكي طليمات الذي أعاد لذهنه فكرة إنشاء معهد للتمثيل,فتحمس جورج وتقدم بطلب لوزير المعارف والذي وافق علي إنشائه وعين طليمات مديرا له بتعضيد من جورج,وبزغت منه الفرقة المصرية الحكومية عام 1935 والتي تقرر إعانتها سنويا بعد كفاح ومثابرة داما ثلاثة وعشرين عاما منذ تكوينه الفرقة العربية في 1912.
هكذا آمن جورج بالفن الرفيع قائلا دوما: إن المسرح هو جماعة الشعب,الجماعة التي ترفع مستوي المتفرجين ولا تتملقهم,وفي عام 1943 تأسست نقابة ممثلي المسرح والسينما بالقاهرة,وانتخب جورج أبيض أول نقيب لها بإجمالي الأصوات والريحاني وكيلا أول وحسين رياض وكيلا ثانيا.
ونظرا لجهودة المتوالية في النهوض بالعمل المسرحي وكتابة المسرحيات باللغة العربية الفصحي وتحاشي الألفاظ الركيكة والكلمات المبتذلة والنكت الفاضحة,وارتفاعه بالتراجيديا الكلاسيكية إلي القمة,كرمه الملك في الاحتفال باليوبيل الماسي لدار الأوبرا عام 1945,حيث استدعاه بمقصورته بالإضافة إلي يوسف وهبي وسليمان نجيب,ومنح أبيض رتبة الباكوية من الدرجة الأولي ويوسف وهبي وسليمان نجيب رتبة الباكوية من الدرجة الثانية,وفي عام 1948 احتفل جورج أبيض مع زوجته دولت بزفاف ابنتهما سعاد علي عبد الحميد فؤاد مفتش المباحث الجنائية بوزارة الداخلية وذلك بعد أن أشهروا جميعا إسلامهم.
وفي عام 1952 عين جورج أبيض مديرا للفرقة المصرية ولكنه لم يستمر في منصبه طويلا وذلك بأمر من الأطباء بعد أن تدهورت حالته الصحية,فرشح يوسف وهبي خلفا له.
واستمرت حالته تتدهور,ولكنه لم يبال بهذا لما في قلبه من عشق للمسرح والفنون,فظل حتي النفس الأخير يقوم بمهامه في التدريس بنشاط ملحوظ وإن كان المرض يمزق جسده ألما,حتي رحل بجسده وإن ظل فنه حيا في قلوب عاشقيه,فحزنت مصر من أجل رحيل رائدها المسرحي,واشتركت الدول والفنانون والجماهير في توديعه وكرمته الدولة بأن أقامت له تمثالا نصفيا في المعهد العالي للفنون المسرحية,وتمثالا آخر في المسرح القومي,وفي عام 1972 قامت وزارة الثقافة بتسمية مسرح الأزبكية بمسرح جورج أبيض ضمن تكريم الدولة لأسماء روادها.