يتناول هذا المقال قضيتين متداخلتين: حوار الثقافات والتنوير. الحوار يعني التواصل بين طرفين في موضوع مشترك. وهذا التواصل يستلزم الإنصات إلي الرأي الآخر في تعاطف حتي يتوفر شرط الفهم, أي فهم موقف المتحاور من الداخل وليس من الخارج.
والثقافات تدخل في حوار بهدف أن تتغير وتتطور وليس بهدف أن تفرض التغيير علي بعضها البعض. بيد أن الحوار لا يمكن أن يقوم إلا بين طرفين متساويين. فالحوار يشترط الندية, ويشترط الثقة المتبادلة والنقد الذاتي للذوات المتحاورة ولتراثها الثقافي. وغياب هذا النقد الذاتي ينطوي علي قناعة بأن التراث يشتمل علي كل الأجوبة الصحيحة. وهذا الموقف يمتنع معه الحوار. فتصور أن ثقافة ما مطلقة وغير قابلة للنقد تصور مناف للحوار.
نوجز فنقول: إن الحوار الثقافي يعني إقامة التواصل الثقافي من خلال إطار مرجعي مشترك. وينبغي أن يشير هذا الإطار المرجعي المشترك إلي مستوي تطور حضاري معين. وهذا المعيار المشترك مردود إلي جذور الوحدة الحضارية, علي الرغم من تعدد الثقافات. ويعد الأدب من بين مظاهر الثقافة التي تجسد القيم الاجتماعية والفنية من خلال الرؤية الأدبية.
والسمة الأساسية المميزة للأدب هي سمة كونية, فنشأة الأدب كانت مواكبة لبزوغ الحضارة الإنسانية بل كانت هذه النشأة سابقة علي الحضارة وممهدة لها. فإذا اعتبرنا أن نشأة الحضارة مردودة إلي المجتمع الزراعي فإن عصر الصيد السابق عليه قد شهد مولد الفنون والآداب في أشكالها البدائية من رسومات علي جدران الكهوف إلي التعاويذ والتمائم المنحوتة علي آلات الصيد, وكلها كانت تعبيرا عن رؤية كونية أسطورية تحدد علاقة الإنسان بالكون ومكانته في الطبيعة وتكشف عن عدم قدرته الكاملة علي التحكم في الطبيعة وتغييرها طبقا لاحتياجاته المادية من طعام وكساء من جهة, واحتياجاته المعنوية المتمثلة في نزوعه الدائم نحو الإحساس بالأمان في العالم من جهة أخري.
وتطور الأدب مواكب لتطور الرؤية الكونية من الأسطورة إلي العقل وهذا المسار يكشف عن قدرة الإنسان المتزايدة في التحكم في العالم الخارجي وتغييره من خلال اكتشاف القوانين العلمية التي تحكم الكون مستخدما العقل لا الأسطورة.
وتأسيسا علي ذلك فإن الأدب باعتباره منتجا حضاريا يكشف عن المستويات المتعددة للحضارة من خلال انتمائه إلي ثقافات متباينة تكشف عن مسار تاريخي معين وعن رؤية كونية تحدد أسلوب حياة البشر وعلاقاتهم وأسلوب تفكيرهم. فمن زاوية التطور التاريخي شهدت معظم دول أوربا في نفس الوقت تطورا من الأسطورة إلي العقل من حيث الشكل والمضمون وذلك من خلال حدثين تاريخين هما الإصلاح الديني في القرن السادس عشر كبداية, والتنوير في القرن الثامن عشر كتتويج. والثقافة اليونانية هي الأساس الحضاري المشترك لهاتين الحركتين, وبالذات في مجال الفلسفة والأدب.
وانتهي الأمر إلي علمنة الثقافة الأوربية في أعقاب العصر الوسيط الذي سادت فيه الروية الكونية الدينية. فالإصلاح الديني في حقيقته تحرير للعقل من خلال عزل ما هو مقدس عما هو علماني في شتي مجالات النشاط الإنساني.
وجاء التنوير مستكملا المسيرة التي بدأها الإصلاح الديني وقادها حتي نهايتها حيث أكد سلطان العقل ووحدة العقل الإنساني باعتبارها تجسيدا لوحدة الحضارة الإنسانية. وعلي حد قول ديكارت إن العقل أعدل الأشياء توزعا بين البشر. وقد تبلور هذا التصور في تعريف كانط للتنوير أنه هجرة الإنسان من اللا عقل, واللا عقل هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة من الآخرين, كما أن اللا عقل سببه الإنسان ذاته, هذا إذا لم يكن سببه نقصا في العقل, وإنما نقصا في التصميم والجرأة علي استخدام العقل من غير معونة والآخرين. وحالة اللاعقل تسودها الأسطورة باعتبارها رؤية كونية غير علمية عن العالم وعن علاقة الإنسان بالطبيعة وبالمجتمع. وهذه الرؤية الكونية لا تعرف الحدود الفاصلة بين ما هو أسطوري وما هو واقعي.
ورذا التفتنا إلي الثقافة العربية, وبالذات الثقافة المصرية, كما تتمثل في الأدب, فإنه يمكننا أن نحدد بداية الأدب ببدايات هذا القرن حيث سيطرت الأسطورة. وتتجلي هذه السيطرة في معظم أعمال توفيق الحكيم الروائية والمسرحية.
فراوية عودة الروح (كتبت عام 1927 ونشرت عام 1933) تقوم علي الأسطورة الفرعونية الشهيرة أسطورة إيزيس وأوزيريس. وتكمن الأهمية التاريخية والأدبية لـعودة الروح في أنها قد أرست قواعد تيار جديد في الثقافة المصرية يقوم علي أساس صياغة الشخصية المصرية, بالأدق الهوية الثقافية المصرية في مجال الأدب باعتباره ظاهرة حضارية متمايزة ومتمحورة في الحضارة المصرية الفرعونية التي تستند في جوهرها إلي الأسطورة.
وقد أرسي الحكيم بروايته عودة الروح قواعد الأدب المصري الحديث من حيث الشكل والمضمون. فمن حيث المضمون عالج موضوع الهوية الثقافية المصرية المتميزة وذلك بطرحها في مجال الثقافة الفرعونية, بينما اقتبس من الثقافة الأوربية شكل الرواية الذي هو علماني في جوهره. وبناء عليه فإن محاولة الحكيم المبكرة أفضت إلي قسمة ثنائية بين المضمون والشكل استنادا إلي الفجوة الحضارية بين الثقافة الأوربية العلمانية والثقافة المصرية الأسطورية.
وإذا كانت العلمانية تعني مجاوزة الرؤية التقليدية الأسطورية فإن اللا علمانية, أو الأصولية بالمصطلح الشائع ابتداء من السبعينيات من هذا القرن, هي العودة إلي الجذور الأصلية أو الأصول الثقافية, أي العودة, إلي ما هو مقدس. ومن ثم فإن الأصولية تتبني روية مجاوزة للتاريخ أي خارج الزمان والمكان, أو بالأدق منفصلة عن الواقع, وتأسيسا علي ذلك فإن الحوار يمتنع بين العلمانية والأصولية باعتبارهما كونيتين متناقضتين.
ونعرض لبعض النماذج من الأدب المصري الحديث والمعاصر التي تدور علي القضية المحورية وهي الشخصية المصرية الأصيلة. من خلال هذه النماذج نطرح المعوقات الثقافية التي تمنع إقامة حوار بين الثقافات. ففي رواية عصفور من الشرق (1938) يعالج الحكيم قضية المجابهة الثقافية بين لاشرق الروحي والغرب المادي. وقد أصبح بطل الرواية نموذجا متكررا في أعمال كثير من أدباء العرب المعاصرين. فهو المثقف الذي يعاني من الصدمة الحضارية إثر تعرضه للثقافة الأوربية, وبالذات الباريسية, فقد كانت باريس بالنسبة له رمزا للنور. ولكنه الآن ينبذها لقصورها الأخلاقي ولماديتها التي تحط من قدر الإنسان. ومن جهة أخري فإن هوية البطل الأصيلة المتمثلة في الثقافة العربية الإسلامية تنفجر في وعيه باعتبارها الثقافة الحقيقية الوحيدة نظرا لروحانيتها.
وفي قنديل أم هاشم يطرح يحيي حقي نفس القضية ومن منظور مشابه. فيطرح قضية الصراع الثقافي من خلال تأكيد القسمة الثنائية بين الشرق والغرب ومن خلال المواجهة بين العلم والدين. فالبطل شاب مثقف يحصل علي بكالوريوس الطب من الخارج وعند عودته إلي مصر يواجه بالجهل, والخرافة السائدة في مجتمعه. فهم يستخدمون زيت القنديل المقدس في بيت أم هاشم وهي حفيدة النبي (صلي الله عليه وسلم) لعلاج أمراض العيون, وعندما أصيب أحد أقرباء البطل بالعمي بسبب استخدام زيت القنديل فشل البطل في علاجه بالعلم بسبب رفضه لقوة العلم الذي تعلمه في الغرب, بعد أن فشل في فرض العلم الغربي علي بيئته. ويدرك البطل في النهائية أنه كان علي خطأ ويستسلم للإيمان مدركا ضرورته لتدعيم العلم, حيث إن العلم الأوربي غير مجد وينبغي أن يدعمه الدين الصادر عن ثقافته الأصيلة. وهنا يقسم يحيي حقي العالم إلي غرب علماني أي ملحد وشرق أي مصر ديني. وهي قسمة لا يمكن تجاوزها طبقا لمنطق ومسار الرواية.
وقمة المواجهة الثقافية بين الشرق والغرب تتمثل في رواية موسم الهجرة إلي الشمال للأديب السوداني الطيب صالح. وهنا تأخذ المواجهة شكل اللقاء الجنسي بين الذكر الثقافة الشرقية والأنثي الثقافة الغربية الذي يبلغ ذروته في التدمير الفزيقي للغرب من الشرق الذي يمثله البطل السوداني الذي يغزو بفحولته الجنسية جميع نساء الغرب.. وهكذا يتحول الغزو الثقافي إلي غزو جنسي, والعنف والشبقية يصوران علي أنهما من جوانب ثقافية شرقية رفيعة الشأن وقادرة علي تدمير الغرب.
ومثل هذه القدرة مردودة إلي الحياة البدائية الريفية اأصيلة في أعماق الجنوب العرب في مواجهة الشمال العقلاني العلمي والصناعي أوربا.
وفي مجال المسرح نعرض لمسرحية لعبة الزمن لـنعمان عاشور (1984), ويعالج فيها قضية ما يسمي بالغزو الثقافي الغربي للشرق العربي من خلال نقل التكنولوجيا. ويستخدم عاشور أسطورة ألف ليلة وليلة كشكل درامي ويجعل من شهرزاد وشهريار شخصيات محويرة تسافر في الزمان بين الماضي والحاضر والمستقبل, من العصر الوسيط عبر القرن العشرين وإلي عصر الفضاء. وتطرح المسرحية التكنولوجية باعتبارها جزءا من أسلوب حياة متكامل هو في أساسه مناقض للتراث العربي الأصيل. وبناء عليه فإن التمثيل الحضاري بمثابة الاستحالة التاريخية حيث إن هيمنة الغرب التكنولوجية هي العائق في سبيل تحقيق الندية الحضارية التي هي شرط لازم لحوار الثقافات وطالما أن الغرب ينتج التكنولوجيا فسوف يستمر في استغلال هذه التكنولوجيا كوسيلة للسيطرة علي الدول غير المنتجة للتكنولوجيا, خاصة الدول العربية, وذلك بغزوها غزوا ثقافيا من خلال وسائل الإعلام التي تفرض فكرا غربيا غريبا علي هذه الشعوب فتسلبهم هويتهم الثقافية. وبناء عليه فإن الطريقة الوحيدة لحماية الهوية الثقافية العربية والحفاظ عليها طبقا لمسار المسحية هي الأسطورة التي تستخدم كوسيلة أساسية لإحياء التراث الثقافي العربي القومي. إن الثقافة القومية بهذا المعني ضد إنتاج التكنولوجيا ولكنها ليست ضد استهلاكها بشرط ألا ينطوي هذا الاستهلاك علي استغلال الغرب المنتج للشرق المستهلك. وحل هذا التناقض, كما تطرحه المسرحية, هو الحفاظ علي التراث الثقافي الذي أتاح للعرب في الماضي أن يكونوا منتجين للحضارة فيما قبل الاستعمار. ويعتبر المؤلف الأسطورة من المكونات الرئيسية للثقافة العربية باعتبارها رمزا للمجد المفقود وأنها قادرة علي تقوية الأمة العربية وتدعيمها مما سيفضي إلي غزو العدو والقضاء عليه.
وتكشف النماذج الأدبية سالفة الذكر عن قسمتين ثنائيتين: الأولي بين الشرق العربي/ الغرب الأوربي, والثانية بين المضمون/ الشكل. وتمثل القسمتان رشكالية تنطوي علي تناقض. وتدور الإشكالية علي الرغبة في تحديث المجتمع وتمثل التكنولوجيا باعتبارها منتجا حضاريا أبدعته الثقافة الغربية من جهة والاحتفاظ بالهوية القومية العربية, كما تتمثل في احلاضر الأسطوري من جهة أخري. وبتعبير آخر, استهلاك المنتجات الغربية المادية, والاحتفاظ بالهوية القومية العربية, كما تتمثل في الحاضر الأسطوري من جهة من علم وتكنولوجيا وفي نفس الوقت رفض القيم الثقافية التي يجسدها العلم والتكنولوجيا من أجل الحفاظ علي الاستقلال الذي سوف ينتج حتما عن عدم حل التناقض حلا عقلانيا وواقعيا.
وهذه الإشكالية مردها إلي الاعتقاد أن الثقافة العربية تشتمل علي كل الحلول لكل المشكلات سواء في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل لأنها هي الحقيقة المطلقة.
أما فيما يختص بالقسمة الثنائية الثانية بين المضمون والشكل فهي مرتبطة ارتباطا عضويا بالقسمة الأولي بين الشرق والغرب وتدعمها. فالشكل هو المعادل الأدبي للعلم والتكنولوجيا الغربيين, ويقتبس بعد إفراغه من محتواه الثقافي الذي أفرزه, تماما كما تعامل التكنولوجيا كمجرد آلة تقنية. فالشكل الأدبي يتحول إلي مجرد وعاء وليس تجسيدا استطيقيا لرؤية كونية ولأيديولوجيا اجتماعية سياسية تعكس مستوي حضاري معين.
والقسمتان الكامنتان في الإشكالية تكشفان عن تناقض صوري وليس عن تناقض جدلي ومن ثم تصبح القسمتان غير قابلتين للالتقاء, والاستبعاد الكامل لحوار الثقافات نتيجة صراع الثقافات. ومبرر هذا الاستبعاد, طبقا للروية الكونية للأدباء سالفي الذكر, هو ظاهرة الاستعمار. بيد أن معظم هذه الأعمال قد كتبت في فترة ما بعد الاستقلال أو فترة ما بعد التحرر الوطني. ويتم تأكيد العامل الموضوعي المتمثل فيما يسمي بالاستعمار الجديد أو الهيمنة الثقافية باعتبارها امتدادا للاستعمار القديم في شكله العسكري.
واستنادا إلي ذلك فإن المفهوم العسكري ينتقل إلي مجال الثقافة ومن ثم ينظر إلي الثقافة ونظرة إقليمية جغرافية مما ينتج عنها اعتبار العلم والتكنولوجيا ظواهر أوربية بحتة. وبالتالي فإن نفي الاستعمار يتساوي مع نفي التغريب ومع نفي التكنولوجيا. بيد أنه في حالة استبعاد أي نقد للعامل الذاتي, أي الثقافة العربية, يصبح الاستقلال مجرد وهم وهم حيث إن الاعتماد السياسي والاقتصادي سيستمر كواقع عيني من قبل الغرب القوي المنتج.
الآن ثمة سؤالان:
ما معوقات حوار الثقافات؟
وكيف يمكن تجاوز هذه المعوقات؟
ثمة مشكلات جديرة بالاهتمام فيما يختص بمعوقات حوار الثقافات, وتأتي في مقدمتها مشكلة الأصولية, أو مطلقة الماضي علي أساس لا عقلاني وتناول الحاضر والمستقبل باعتبارهما امتدادا للماضي, وفي إطار هذه الرؤية تطرح الهوية الثقافية في الماضي وتتحول إلي كينونة متحجرة وغير قابلة للتطور. يترتب علي ذلك الغياب الكامل لأي نقد ذاتي. ومما يساعد علي هذا الغياب هيمنة المحرمات الثقافية للحفاظ علي التراث الثقافي المقدس دون المساس به. والنقد, في هذه الحالة, يوجه فقط إلي ثقافة الآخر إما علي أساس سياسي أو ديني أو كليهما. هذا بالإضافة إلي النظرة العرقية للثقافة, أو الثقافة بعد أن يتم تفتيتها علي أسس عرقية وإقليمية, استنادا إلي تحيز ثقافي. وثمة عنصر آخر معوق لحوار الثقافات هو التعصب الثقافي الناتج عن التيار الأصولي ويتمثل في أن الثقافة العربية تنطوي علي اكتفاء ذاتي. ومن ثم الرفض اللاعقلاني للحضارة الحديثة. والنتائج المنطقية المترتبة علي هذا الرفض هي استبعاد الحضارة العربية من مسار الحضارة الحديثة.
أما فيما يختص بالسؤال الثاني عن كيفية تجاوز معوقات حوار الثقافات فمن الممكن صياغته علي النحو التالي: كيف يمكن إقامة حوار بين المجتمعات المتقدمة صناعيا والمجتمعات النامية التي يمثل كل منها مستوي معين من مستويات الحضارة الإنسانية من خلال مواجهة بين ثقافة كل من هذه المجتمعات؟
وفي عبارة أخري, هل من الممكن أن يتبني العالم الثالث, وبالأخص العالم العربي تكنولوجيا المجتمعات المتقدمة صناعيا, بما فيها التكنيك الأدبي, بمعزل عن القيم المرتبطة بهذه التكنولوجيا وأن يتقدم تقدما حقيقيا بمعني أن يصبح منتجا, وليس مستهلكا, للثقافة التكنولوجية؟
كل هذه الأسئلة هي في حقيقتها تدور علي التفاعل بين الثقافات والأساس الذي ينبغي أن يستند إليه هذا التفاعل هو الهويات القومية والثقافية في إطار كوكبي وبمنظور حضاري شامل يدفع نحو الإبداع المستقبلي دون استبعاد الحاضر الذي يتميز بالتناقضات الجدلية التي تحكم العالم المنقسم علي نفسه ومحاولة تجاوز كل أنواع القسمات.
إن النماذج الأدبية السابقة قد كشفت عن وجود قسمة ثنائية بين نسقين من القيم يمثلان مستويين حضاريين. بيد أن الاتصال المبكر بين الثقافتين العربية والأوربية كان خاليا تماما من أية قسمة. إن الاتصال في مجال الفلسفة والعلم في العصر الوسيط قد برهن علي العلماء والفلسفة العرب كانوا قادرين علي تمثل الثقافة اليونانية وعلي إثراء الثقافة الأوربية في الوقت نفسه بمعني أنهم قد أمدوها بمعطيات التطور. مثال علي ذلك تأويل ابن رشد لفلسفة أرسطو الذي أدي إلي تأسيس مدرسة الرشدية الإيطالية. وقد تكررت هذه الظاهرة في مجالات الفيزياء والطب والرياضة والجبر.
وقد أفضي هذا الاتصال, علي الصعيد الثقافي, إلي حركة التنوير الأوربية التي كانت أساس الثورة الصناعية والتحديث بإرسائها قواعد المنهج العلمي العقلاني. وقد كان مثل هذا الاتصال ممكنا في العصر الوسيط حيث كان الإطار المرجعي للثقافتين واحدا, وأعني به الرؤية الكونية الدينية. ولكن بعد حركة الإصلاح الديني انشطر الإطار وافترقت الثقافتان كل في اتجاه معاكس ومضاد للآخر. وقد ساعد نشوء الرأسمالية التي أفرزت الاستعمار باعتباره ظاهرة اجتماعية اقتصادية سياسية للأيديولوجية الرأسمالية, علي توسيع الهوة الثقافية وعلي تدعيم القسمة بين المستعمر بكسر الميم والمستعمر بفتح الميم, أو بين المجتمعات الأوربية وغير الأوربية.
والآن, هل في الإمكان استعادة المنظور الحضاري المفقود في إطار الثورة العلمية والتكنولوجية؟
الجواب بالنفي حيث إن الثورة العلمية والتكنولوجية قد أفضت إلي توسيع الفجوة الحضارية بين الثقافات الأوربية وغير الأوربية. ثم إن الإمبريالية والظاهرة الحديثة للقسمة الحضارية المتمثلة في الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية من جهة, وبين النظام الرأسمالي ومجتمعات العالم الثالث من جهة أخري, هي العقبة الجوهرية أمام تحقيق حوار الثقافات.
ومجال الأدب أكثر المجالات حيوية لإجراء حوار بين الثقافات القومية في إطار منظور حضاري شامل. وهذا يستلزم أولا طرح المنظور القومي للهوية بهدف استكشاف مدي إمكانية تكامل الهوية القومية مع المسار الحضاري العام.
ويأتي التنوير في مقدمة الوسائل لتحقيق هذا التكامل الذي سيفضي إلي حوار بين الثقافات.