الجدل الدائر حول بناء مركز ثقافي إسلامي يتضمن مسجدا في نيويورك صنع من جحر فأر جبلا, حسب المثل الإنجليزي. الموقع يبعد شارعين (400 متر) عن Ground Zero أو الموقع صفر, الاسم الذي أطلقه النيويوركيون, يوم 11 سبتمبر 2001, علي أرض أنقاض برجي مركز التجارة العالمي, حيث اختلط رماد الأنقاض برفات قرابة 3000 ضحية ينتمون لـ90 جنسية, وبينهم 60 مسلما ومسلمة.
وللموقع دلالات مختلفة في القلوب, كل حسب ثقافته الذهنية أو الروحانية أو كلتيهما, ومدي قرابته لضحية من الضحايا. فبينهم الزوج, والأب, والحبيب, والابن, والأخ, والابنة, والأخت, والزوجة والأم. لم يروحوا ضحية كارثة طبيعية كزلزال أو فيضان, وإنما أزهقت أرواحهم عمدا في جريمة قتل جماعي نفذتها عصابة, انتهك أعضاؤها, إلي جانب جريمة القتل, محرمات أخري كالكذب والتزوير والاختطاف والسرقة. ليس فقط سرقة أربع طائرات; بل سرقة أكثر بشاعة ووقاحة: سرقة لرايات الإسلام ليرتكبوا تحتها جريمة القرن الـ21 التي تباهي بها زعيما العصابة, أسامة بن لادن وأيمن الظواهري, في أشرطة فيديو وزعاها علي الفضائيات, يضحكان خلالها في وقاحة من مشهد إلقاء آدميين بأنفسهم من نوافذ البرج المحترق هربا من جحيم أشعله أتباعهما.
المركز الإسلامي الثقافي الرياضي متضمنا المسجد لن يبني فوق الأرض برفات آلاف البشر والمبللة بدموع وعرق عمال الإنقاذ والمطافئ, وإنما علي بعد شارعين, لكن الضجة, حركت الموقع في ذهن الكثيرين إلي مسافة تنتهك قلوبهم.
وما زاد المشكلة تعقيدا هو تسرع الرئيس الأمريكي باراك أوباما بسكب بلاغته المتوهجة فوق نيران الجدل, فزاد من ألسنتها التهابا بدلا من إخمادها. فتدخله أضاف بعدا سياسيا استغله خصومه الجمهوريون المعارضون لبناء المسجد. والديموقراطيون استغلوا الأمر لاتهام الجمهوريين بالعنصرية.
أوباما تراجع قائلا إنه لم يعلق بـدعم أو رفض بناء المركز, وإنما أوضح, نظريا, حق الجميع, بمن فيهم المسلمون, دستوريا في حرية التعبير والعبادة.
ولن أتوقف كثيرا عند فتح الرئيس الأمريكي بابا قد تهب منه رياح لا تشتهيها سفينته المبحرة نحو انتخابات الكونجرس, بل أفضل البحث عن حل يهدئ العاصفة, مما يستلزم بضعة تساؤلات. أولها عن الدوافع الحقيقية لفيصل عبد الرؤوف إمام المسجد وصاحب الفكرة, الذي يسافر في جولة الآن لجمع التبرعات; وزوجته ديزي خان التي تظهر نيابة عنه في التليفزيون والصحافة تهاجم معارضي بناء المركز وتتهمهم بالعنصرية, بدلا من شرح الجوانب الإيجابية من وجود مراكز ثقافية وتثقيفية.
كل من عمدة نيويورك مايكل بلومبيرج وديفيد باترسون حاكم ولاية نيويورك الديموقراطي, يدعم مشروع بناء المركز الثقافي الاجتماعي الرياضي والمسجد.
باترسون قدم قطعة أرض يملكها في مانهاتن (الحي نفسه في نيويورك) إلي الجمعية التي يترأسها عبد الرؤوف لبناء المركز فوقها; فتفاءل الناس. لكنهم فوجئوا برفض الإمام عبد الرؤوف عرض الحاكم باترسون, مصرا علي بناء المركز الإسلامي والمسجد علي بعد 360 مترا من جراوند زيرو. عند فحص التصريحات والاتهامات الموجهة للمعارضين, من قبل المتحدث نيابة عن مجموعة بناء المسجد, ستجدها فصيحة ولبقة وتدافع عن الدستور الأمريكي الذي يحمي حقهم كمواطنين أمريكيين في ممارسة الشعائر وبناء دور العبادة وحرية التعبير. لكنهم كغيرهم من المعتدلين; لا يعطون إجابة مباشرة تطمئن غير المسلمين (وهم الأغلبية في أوربا والأمريكتين وأستراليا, حيث تثار هذه المشكلات منذ المصيبة التي أوقعها بن لادن وعصابته فوق رؤوس المسلمين), بأن هؤلاء الوافدين لا يرغبون في السيطرة عليهم وعلي أسلوب معيشتهم.
وسواء هنا في بريطانيا أو في غيرها, حيث صوت المتطرفين مختطفي رايات الإسلام هو الأعلي, تجد هذا الصوت يؤكد علي أن واجب المسلم هو الجهاد لتحويل أي مكان ينزل فيه إلي إمارة إسلامية يستبدل بقانونها الشريعة.
وبلا طمأنة أهل البلاد التي يهاجر المسلمون إليها بأنهم لا ينوون الجهاد لإلغاء قوانينها التي تشرعها برلمانات منتخبة, واستبدالها بالشريعة, سيظل أصحاب البلاد الأصليون متوجسين من نوايا الوافدين المسلمين.
وعند توجيه السؤال, عما إذا كان هذا المثقف أو أستاذ الجامعة المسلم, كبريطاني أو أمريكي, يعترف بسيادة البرلمان كمصدر تشريع لقوانين البلاد التي تسري علي الجميع بصرف النظر عن الأديان, أم يستثني نفسه كمسلم.. ستجد المعتدل يراوغ ويتفلسف بذكر القرآن للأنبياء السابقين متجنبا الإجابة المباشرة نعم سأطيع القانون, أو لا, الشريعة قبل القانون, مما يزيد من شكوك الناس. ومن تفلسف المثقفين بأن الأديان السماوية الثلاثة مصدرها واحد, نتساءل: ولماذا لا يجعل الإمام عبد الرؤوف مركزه للديانات الإبراهيمية الثلاث, ويكون أهم نشاطاته نشر دعوة السلام والتسامح بدراسات ومحاضرات عن أوجه التقارب الإيجابي بين المؤمنين بالديانات الثلاث.. ويكون المحاضرون من أساتذة الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية؟.. والأهم وجود نصب تذكاري باسم أحفاد إبراهيم لضحايا إرهاب 11 سبتمبر من جميع الأديان والمذاهب.