الرئيس جيمي كارتر والحائز علي جائزة نوبل للسلام ديزموند أم توتو سنة 1986
تؤكد جميع الدول تقريبا في جميع مناطق العالم, وعلي مختلف مستويات تطورها, التزامها بحقوق الإنسان. والحكومة التي تنخرط في نمط ثابت من الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان تعتبر علي نحو واسع بأنها حكومة لا تحظي بالمشروعية.
لم يكن الأمر دائما كذلك. فتقدم أية دولة في مجال حقوق الإنسان, أو غياب ذلك التقدم, لم يصبح موضوعا ثابتا في العلاقات الدولية سوي منذ نصف قرن تقريبا. فقبل الحرب العالمية الثانية, كانت مجازر المجموعات الإثنية داخل الدول تقابل بما لا يزيد عن بيانات مهذبة تعلن عدم الموافقة. كما أن الانتهاكات الفاضحة بدرجة أقل لم تكن تعتبر حتي موضوعا مناسبا في الأحاديث الدبلوماسية.
اعتبرت طريقة معاملة الحكومة لمواطنيها داخل حدود بلادها مسألة تتعلق بسيادتها, أي السلطة العليا التي تملكها في شئونها الداخلية. وفي الواقع, كانت الدول الأخري والمجتمع الدولي يعتبرون أنهم ملزمون قانونيا ودوليا بعدم التدخل في مثل هذه الأمور.
صدمة المحرقة
خلال المحرقة التي نفذت خلال الحرب العالمية الثانية, قتلت ألمانيا النازية والمتعاونون معها بصورة نظامية الملايين: من الأوربيين اليهود, والغجر, والمثليين جنسيا, بمن في ذلك النساء, والرجال والأطفال. سبب الاشمئزاز من هذه الوحشية التي لا يمكن تصورها حدوث تغيير فكري استثنائي. ولد الشعور بالمسئولية عن المحرقة إعلان التعهد بوجوب عدم السماح لمثل هذه الأعمال الوحشية بأن تتكرر من جديد. ودخلت حقوق الإنسان في المسار الرئيسي للعلاقات الدولية. كانت بعض الدول قبل المحرقة تستخدم العذر المتمثل في أن معاملة دولة لمواطنيها هي مسألة داخلية, وان ذبح حكومة لمواطنيها لا يشكل جريمة دولية معترفا بها قانونيا.
ساعدت محاكمات جرائم الحرب في نورمبرج عام 1945 في تغيير الوضع. أدخلت هذه المحاكمات, التي حاكمت نازيين من ذوي المناصب العالية عن أعمالهم, فكرة الجرائم ضد الإنسانية. فللمرة الأولي جرت محاسبة مسئولين بصورة قانونية عن أعمالهم أمام المجتمع الدولي لارتكابهم جرائم ضد مواطنين أفراد. أما في الأمم المتحدة فقد برزت حقوق الإنسان بالفعل كموضوع يخص العلاقات الدولية. وشغلت مسألة حقوق الإنسان حيزا بارزا في ميثاق منظمة الأمم المتحدة الذي تم تبنيه عام .1945 وفي 10 ديسمبر 1948, تبنت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أعلنت هذه القائمة الشاملة لحقوق الإنسان أن الطريقة التي تعامل بها الدول مواطنيها هي مثار اهتمام دولي مشروع وتخضع لمعايير دولية.
تأثير الحرب الباردة
لكن لم يمر كل شيء بسلاسة. ففي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية, اندلع كفاح أيديولوجي بين الدول الشيوعية والرأسمالية ترددت أصداؤه حول العالم. دامت ##الحرب الباردة## حتي انهيار الاتحاد السوفياتي عام .1991 وبينما كانت الولايات المتحدة مستعدة أحيانا لتجاهل اخطاء حقوق الإنسان في الدول ##الصديقة## المناهضة للشيوعية, كان الاتحاد السوفيتي كذلك مستعدا لاستعمال القوة عند الضرورة لطمأنة الأنظمة الاستبدادية ##الصديقة## الواقعة ضمن منطقة نفوذه.
علاوة علي ذلك, لم يكن هناك سوي عدد قليل من الدول المستعدة للسماح حتي بالمراقبة المتعددة الجوانب لممارسات حقوق الإنسان القومية, هذا إذا لم نذكر التطبيق أو التنفيذ الدولي لهذه الحقوق. لم تكن الأمم المتحدة حكومة عالمية. فهي لا تستطيع عمل أي شيء لا يسمح به أعضاؤها, أي الدول ذات السيادة. خلال أول عقدين من عمر الحرب الباردة لم تكن أي واحدة من الكتلتين راغبة بالسماح للأمم المتحدة بعمل الشيء الكثير في مجال حقوق الإنسان.
بحلول منتصف الستينيات من القرن العشرين, أصبحت الكتلة الأفريقية-الآسيوية أكبر مجموعة في الأمم المتحدة. كان لدي هذه الدول, التي عانت طويلا تحت الحكم الاستعماري, اهتمام خاص بحقوق الإنسان. وقد وجدت أذنا مؤيدة من الكتلة السوفيتية ومن بعض الدول في أوربا والأمريكيتين من ضمنها الولايات المتحدة. وبذلك بدأت الأمم المتحدة مرة أخري الاهتمام بحقوق الإنسان.
قاد ذلك بصورة أكثر أهمية إلي إكمال توقيع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في ديسمبر 1966 وسوية مع الإعلان العالمي وفرت هذه المعاهدات بيانا رسميا حول حقوق الإنسان المعترف بها دوليا.
لكن شمولية المعاهدات تتطلب ان تحول الأمم المتحدة عمل حقوق الإنسان الذي تقوم به من مجرد وضع معايير إلي مراقبة كيفية تطبيق هذه الدول فعليا لهذه المعايير. وكان ذلك أحد المجالات التي لم تحقق فيه المنظمة فعليا أي تقدم خلال أول عقدين من ذلك.
رغم أنه جري توضيح المفاهيم الأساسية لمعايير حقوق الإنسان في منتصف الستينيات من القرن العشرين, فقد ظل تطبيق تلك المعايير متعلقا بالكامل تقريبا بإرادة الحكومات القومية الفردية.
إحياء كارتر لحقوق الإنسان
عندما أصبح جيمي كارتر رئيسا للولايات المتحدة سنة 1977, رفع منزلة حقوق الإنسان ليجعل منها مسألة دولية. جعل كارتر موضوع حقوق الإنسان العالمية أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية وبذلك شجع أنصار حقوق الإنسان عبر العالم.
حاول كارتر أن يفصل حقوق الإنسان الدولية عن سياسة ##الشرق-الغرب## في الحرب الباردة, وعن المنافسات بين الشمال والجنوب, وبين الدول الصناعية والدول غير الصناعية حول المسائل الاقتصادية. أعطي ذلك زخما جديدا ومشروعية متزايدة للمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان في كل مكان.
عملية هلسنكي
شهد منتصف السبعينيات من القرن العشرين إدخال حقوق الإنسان في المسار الرئيسي للسياسة الخارجية المتعددة الجوانب والثنائية. بدأت الولايات المتحدة ودول أوربية في أخذ مسألة ممارسة حقوق الإنسان بعين الاعتبار في سياساتها المتعلقة بالمساعدات. وأدخل الاتفاق النهائي لهلسنكي عام 1975 بصراحة مسألة حقوق الإنسان ضمن المسار الرئيسي للعلاقات الأمريكية _السوفيتية.
بدأت اجتماعات مؤتمر الأمن والتعاون في أوربا (CSCE) في مطلع السبعينيات من القرن العشرين كسلسلة من المباحثات شملت الولايات المتحدة, وكندا, والاتحاد السوفيتي وتقريبا جميع دول أوربا. تركزت المناقشات حول المسائل العالقة بين الشرق الشيوعي والغرب الديمقراطي. تم إعداد الاتفاق النهائي لمؤتمر الأمن والتعاون في أوربا سنة 1975 في هلسنكي, فنلندا, ووافقت عليه 35 دولة وعرف هذا الاتفاق باتفاقات هلسنكي. ذكرت الاتفاقات عشرة مبادئ محددة بضمنها احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية مثل حرية الفكر, والضمير, والدين, والمعتقد. يعزو الكثير من الخبراء إلي عملية هلسنكي فضل المساعدة في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في الاتحاد السوفيتي وفي أوربا الشرقية.
في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين بلغت الحرب الباردة نهايتها, وفي 25 ديسمبر 1991 أنزل العلم السوفيتي عن مبني الكرملين. وتولي مؤتمر الأمن والتعاون (CSCE) في أوربا حينها دورا أعظم, بعد أن كان حتي تلك النقطة يعقد اجتماعات ومؤتمرات. تمثل دوره في إدارة التغيير التاريخي الحادث في أوربا. تعدل اسمه إلي منظمة الأمن والتعاون في أوربا (OSCE) وهي الآن اكبر منظمة أمن إقليمية في العالم وتشمل في عضويتها 56 دولة من أوربا, وآسيا الوسطي, وأمريكا الشمالية. كما أنها تضم دولا شريكة في آسيا ومنطقة البحر المتوسط. يعتبر العديد من الناس المنظمة علي أنها نموذج أولي لجهود التعاون الإقليمي لصياغة احترام اعظم لحقوق الإنسان في أنحاء أخري من العالم. أصبح إعلان كوبنهاجن ومبادئ باريس لمنظمة الأمن والتعاون في أوربا ذات تأثير هائل كمقياس لأداء حقوق الإنسان ومن ضمنه سجل الدول الديموقراطية.
وضمن منظمة الأمم المتحدة صاغت لجنة حقوق الإنسان التي أعيد تنشيطها بقيادة كندا, وهولندا, ودول أخري معاهدات جديدة حول حقوق المرأة (1979), والتعذيب (1984) وحقوق الطفل (1989). وتم تعيين خبراء لدراسة وإعداد تقارير حول انتهاكات حقوق الإنسان في عدد متزايد من الدول.
بحلول منتصف الثمانينيات من القرن العشرين, كانت معظم الدول الغربية قد وافقت علي وجوب ان تشكل مسألة حقوق الإنسان اهتماما نشطا في السياسة الخارجية, وتحول هذا الاهتمام إلي مسائل تتعلق بالمراقبة والتطبيق.
كما كانت السبعينيات من القرن العشرين السنوات التي برزت خلالها المنظمات غير الحكومية (NGOs) المهتمة بحقوق الإنسان كقوة سياسية دولية ملحوظة. وتم الرمز إلي ذلك من خلال منح جائزة نوبل للسلام إلي منظمة العفو الدولية عام 1977 بسبب المساعدات التي قدمتها إلي السجناء السياسيين. بحلول عام 1980, كانت هناك حوالي 200 منظمة غير حكومية تعمل في الولايات المتحدة تعالج مسائل تتعلق بحقوق الإنسان, وحوالي نفس هذا العدد يعمل في بريطانيا.
شكل بروز منظمات غير حكومية في دول في أفريقيا, وآسيا, وأمريكا اللاتينية تطورا ذا أهمية مساوية. كانت لهذه المجموعات, بالإضافة إلي أنصار ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان, أهمية في التأثير علي السياسات القومية والدولية لحقوق الإنسان.
بيئة ما بعد الحرب الباردة
أصبحت الجهود الدولية لتعزيز حقوق الإنسان أقوي منذ انتهاء الحرب الباردة. وكمثال عن ذلك, كان إنشاء المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي عززت بدرجة أكبر عملية المراقبة الدولية. أصبحت طبيعة وحدود حقوق الإنسان في معظم الدول مترسخة بعمق في برامج العمل القومية. ومع انتشار الأفكار الاقتصادية الليبرالية عبر نظام العولمة انتشرت كذلك أفكار أخري. ازداد تأثير المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان وأنصار هذه الحقوق عبر العالم.
وبالتأكيد, لا تزال إثارة مسائل حقوق الإنسان تسبب أحيانا استياء من جانب بعض الدول, كما يظهر ذلك في العلاقات المتوترة بين الصين وشركائها التجاريين الرئيسيين التي سادت خلال سنوات ما بعد مجزرة ساحة تيانامن للمواطنين الصينيين. لكن لا زالت معظم الدول ترفض التشديد علي المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان الدولية بدرجة قوية بما يكفي لإرضاء العديد من المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان.
ومازالت هناك أنظمة سياسية حاكمة عبر العالم مثل, كوبا, بورما, كوريا الشمالية, وأمكنة أخري, تمارس انتهاكات منتظمة لحقوق الإنسان المعترف بها دوليا. وكما أكدت ذلك بالوثائق تقارير وزارة الخارجية, ومختلف المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان, مازالت هناك في معظم دول العالم مشاكل ذات شأن في مجال حقوق الإنسان.
مع ذلك, هناك إرادة جديدة داخل المجتمع الدولي لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان المنتظمة. من المؤسف انه في عام 1994 فشلت الأمم المتحدة في الرد علي عملية الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا من خلال التدخل العسكري. ولكن في السلفادور لعب مراقبو حقوق الإنسان التابعون للأمم المتحدة دورا مهما في التوصل إلي تسوية سياسية ونزع السلاح من المتحاربين بعد حرب أهلية دامت عقدا كاملا. وفي الصومال, عندما سقطت البلاد في قبضة أمراء الحرب, تدخلت قوات عسكرية متعددة الجنسيات لإنقاذ الآلاف من المدنيين من الموت جوعا. وفي كمبوديا, ساعدت عملية ضخمة لحفظ السلام قامت بها الأمم المتحدة في إبعاد القوات الفيتنامية واحتواء عصابات الخمير الحمر وتشجيع تشكيل حكومة منتخبة بحرية. في البوسنة استخدم المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة القوة العسكرية لوضع نهاية للحرب الأهلية الدموية التي تسببت في مقتل حوالي 200 ألف شخص وأجبرت مليونين آخرين علي هجر منازلهم نتيجة ##عملية التطهير العرقي## النظامية.
رغم أهمية حقوق الإنسان والسياسة الإنسانية, كافح المجتمع الدولي في أوائل القرن الحادي والعشرين لوقف المعارك الوحشية الدائرة بين القبائل في مقاطعة دارفور الغربية في السودان. أدت الحرب التي وصفتها الولايات المتحدة والعديد من المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان علي أنها حرب إبادة جماعية, إلي مقتل عشرات الآلاف من الناس وأجبرت ما يزيد عن مليوني إنسان علي هجر منازلهم والعيش في مخيمات اللاجئين.
لم تتمكن قوات بعثة الاتحاد الأفريقي من وضع حد لعمليات القتل والاغتصاب المنتشرة, وحثت الولايات المتحدة الأمم المتحدة علي نشر قوة كبيرة لحفظ السلام في البلاد. وفي نفس الوقت شارك المجتمع الدولي, وبضمنه منظمات غير حكومية لحقوق الإنسان, في الاستجابة للارتفاع الحاد في النشاط الإرهابي الدولي الذي سلطت عليه الأضواء هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة وهجمات أخري نفذتها القاعدة حول العالم, من إندونيسيا إلي أسبانيا. وقام نفس هؤلاء المراقبين أيضا بانتقاد الإجراءات التي قامت بها الحكومات القومية ردا علي الإرهاب.
يو إس جورنال